344499

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 135

بقلم اسماعين تماووست 

لكن، في لحظات العذاب، لم أرى أي ضحية من ضحايا الإرهاب تجد من يخلصها من براثن جلادها، بل العكس تمامًا .

ففي الوقت الذي لم أتمكن فيه من إنقاذ الضحايا، كنت على الأقل قد مارَستُ أساليب الجحيم على بعض الإرهابيين الأكثر وحشية، كان ذلك بمثابة انتقام لأولئك الأبرياء.

في تلك الحقبة القاسية، كان من الضروري أن أظهر للمتمردين أننا نحن، رجال الشرطة، لسنا مثلهم، بل قد نكون أشرس منهم عندما يتطلب الوضع ذلك، كنت قد كُلفتُ بعدة مهام من قبل عدد من المسؤولين في الأمن الوطني، لمكافحة الجريمة بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك ما يُعتبر مستحيلاً، بهدف إنقاذ أرواح الأبرياء من أيدي الشياطين.

وفي الوقت نفسه، كان من الضروري إضعاف وتصفية جميع المتمردين الدمويين، بعض المهام تطلبت تجاوز القوانين، إذ لم يكن بإمكاننا تحقيق شيء دون ذلك.

كانت الظروف في تلك الأيام تجعلني أواجه خيارين فقط: إما أن أغض الطرف وأُترك لمصيري، أو أن أركب موجة العنف التي قد تتيح لنا النجاة، وكما أقول دائمًا، في تلك اللحظات القاتمة، كان يجب عليّ كرجل شرطة اتخاذ قرارات قاسية، لأني كنت أعلم يقينا أن المجرمين لا يعرفون الرحمة، بينما كان عليّ أن أتعامل مع هذه القسوة؟ كيف يمكنني أن أظل محافظًا على إنسانيتي وسط هذا الجنون؟
لكنني كنت أدرك شيئًا واحدًا، وهو أنني لم أكن مجرد ضابط شرطة مثل الآخرين، لأنني كنت مكلفًا بحماية أولئك الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم.

كنت أستطيع أن أرى في عيون زملائي وأحيانًا في عيون الضحايا أنفسهم، الارتياح عندما كان العدو يُقهر، عندما كان الظلم يُرفع.
وإذا نظرنا إلى الوراء، قد يبدو أن هذه المهمة التي كُلفت بها كانت عبئًا ثقيلًا، لكنني لا أستطيع أن أنكر أنني شعرت بشرف كبير في كل لحظة من تلك المهمة على الرغم من كل الآلام، وعلى الرغم من الظلام الذي كان يحيط بنا من كل جانب، كنت أدرك أنني جزء من تاريخ لا يُنسى، نظرات زملائي لي كانت أكثر من أنني مجرد ضابط، بل  محارب يملك إرادة لا تنكسر و عزيمة لا تلين.

وفي تلك الأيام القاسية، كان علي أن أتمتع بحس استراتيجي فائق يتيح لي التمييز بين المواقف التي تتطلب القوة المفرطة وتلك التي تحتاج إلى عقول مدبرة.

في تلك اللحظات العصيبة، كان عليّ اتخاذ قرارات مصيرية، رغم أن جميع الخيارات كانت تُفضي إلى مشاهد من الدماء، لكن قراراتي لم تكن تعتمد على ردود الفعل العاطفية، بل كنت أدرس كل خطوة بعناية، محاولًا التنبؤ بالنتائج قبل اتخاذ أي خطوة.

الصراع الداخلي كان يعذبني، سؤال ظل يطاردني: هل ما نقوم به دائمًا مبررًا؟ كنت أعرف أنني كنت أحارب الشياطين الذين يهددون البلاد، لكنني كنت أتساءل عما إذا كانت كل تلك الأفعال صائبة.
في التحقيقات،  يشهد لي من رافقني في مهامي أنني أمتلك أسلوب فريد و قدرة على ربط الخيوط المفقودة  من خلال الأسئلة الدقيقة والمباشرة، لم أكن أهدر الوقت في الأساليب التقليدية، بل كنت أعتمد على ذكائي  لاستخلاص الحقيقة.

عند دخولي غرفة التحقيق، كنت أعرف تمامًا ما يجب فعله، وكان كل مجرم تحت ناظري يصبح عرضة للكشف، مهما حاول إخفاء الحقيقة.

أما فيما يتعلق بزملائي، كنت أحافظ على علاقة خاصة معهم و أقدر الشجاعة والقوة، لكنني كنت أدرك أيضًا أن الإنسان يجب أن يحتفظ بإنسانيته، في قلب كل مهمة صعبة، رجال الشرطة لا يجب أن يتحولوا إلى آلات بلا مشاعر، أدركت تماما أن الحفاظ على إنسانيتنا جزء من قوتنا الحقيقية، حتى وإن كانت مهماتنا قد تجبرنا على تجاوز بعض الحدود.

ومع مرور الوقت، كانت تلك اللحظات التي لا تُنسى تطاردني باستمرار، لم أكن أرى نفسي مجرد ضابط شرطة في زمن مليء بالفوضى، بل كنت مقاتلاً مستمرًا في معركة لا تنتهي بين العدل والظلم.

وعلى الرغم من كل الألم، كنت أعلم أن المسؤولية ثقيلة ولا يمكنني التراجع، لأن مصير العديد من الأرواح كان في يدي.
وأنا اليوم، بعد أن مررت بتلك التجارب القاسية، يمكنني أن أقول إن العمل كضابط شرطة في تلك الحقبة كان أكبر من مجرد وظيفة، كان بمثابة اختبار للقيم، اختبار للإنسانية.

واجهت تحديات كبيرة في كل لحظة، وإذا كان الإرهابيون قد زرعوا في البلاد بذور الخوف، فقد كانت مهمتي أن أضع حداً لهذا الخوف. اليوم، وأنا أسترجع تلك الأيام، أرى أن كل خطوة اتخذتها كانت ضرورية لتأمين مستقبل هذا البلد، كانت الحرب ضد الإرهاب بمثابة الحرب ضد الظلام، ولكن حتى في أحلك اللحظات، كنت أعرف أن النور سيعود يومًا ما، ولو بعد حين.

في خضم الحرب ضد الإرهاب، وجدت نفسي أتحمل أعباءً لا تحتمل، مسؤولون شرفاء، غادروا هذه الدنيا، كانوا قد أولوني ثقتهم الكاملة، وسلموني مهامًا غارقة في التعقيد. أستحضر أرواحهم، وأدعو الله أن يكرمهم بجنته.

كان الاتفاق بيننا واضحًا؛ أن أتحمل كامل المسؤولية عن أي زلة قد أقع فيها خلال العمليات التي تتطلب قرارات حاسمة وخطرة، وهو ما قبلته بلا تردد.

لم تكن تلك المهام عادية؛ كانت تستوجب أحيانًا السير في طرق ملتوية، السبيل الوحيد لتحقيق النتائج المنشودة: القضاء على المجرمين، إنقاذ الأرواح، وإعادة السلام إلى أرض الوطن.

هذه الاستراتيجية، رغم قساوتها، بدت لي منطقية وضرورية، كنت أرى نفسي جنديًا في معركة لا تعرف الرحمة، فخورًا بأني مختار لمهام خطيرة كتلك، إيمانًا مني بأن وطني يستحق كل تضحية.

كان حبي لوطني هو وقودي، أستحضره في كل قرار، عزمت على التضحية بكل شيء من أجل الجزائر. وإذا لم أكن الأفضل، فقد كنت على الأقل ذلك الرجل الذي أعطى كل ما لديه دفاعًا عن وطنه.

لكنني، في لحظات كثيرة، تساءلت عن دوري الحقيقي في هذا الصراع، في تلك اللحظات التي كنت أواجه فيها الظلام بمفردي.

لم يكن الأمر مجرد أداء للمهام التي أوكلت إلي، بل كان يتعلق بالروح التي يحملها كل قرار وكل خطوة.

أنا المفتش إسماعيل تماووست، لم أكن مجرد منفّذ لأوامر، بل كنت جزءًا من عملية محورية كانت تُكتب في صفحات التاريخ.

كان دوري يتجاوز حدود الأوامر الرسمية؛ كنت المقاتل، الحامي، والشاهد على لحظات فاصلة في مسار بلادنا.

اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أدرك أنني لم أكن أحد منفذي العمليات فحسب، بل كنت رمزًا للمواجهة والرفض، فالمسؤولية التي حملتها كانت أكثر من مجرد وظيفة، كانت رسالة حياة وكرامة لشعب بأكمله...

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services