73

0

رحلة عبد الرؤوف بكرون على درب البصيرة متحديا الظلام

من حلم في المنام إلى التميز الأكاديمي

تزامنا مع الاحتفاء باليوم العالمي للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، يصر عبد الرؤوف بكرون على رفض هذا المصطلح، معتبرا أنه لا يعبر عن حقيقة الإنسان وقدراته الكامنة، إذ يقول بثقة راسخة:" لسنا ذوي احتياجات خاصة نحن ذوي همم، ذوي عزيمة، ولا ينقصنا شيء في الأصل."

نسرين بوزيان 

     

 

 

يرفض عبد الرؤوف أن يعيش تحت مظلة نظرة الشفقة، تلك النظرات التي كثيرا ما تأتي محملة بحسن نية لكنها تخفي في عمقها تقليلا غير مباشر من قيمة الإنسان، فالمجتمع — كما يوضح — يخلط كثيرا بين العطف الإنساني المطلوب وبين التوقعات المنخفضة التي تعيق انطلاق الطاقات وتحاصر الطموحات خلف أحكام مسبقة.
ومن هذا الوعي العميق ينطلق ليقدم روايته الخاصة؛ رواية رجل لم يبصر وجوه الناس بعينيه، لكنه امتلك بصيرة تمكنه من إدراك أعظم الأمور هي الهدف ، الرسالة والطموح، واليوم، يقف أستاذا في المدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة، متخصصا في الأدب العربي، حاملا تجربة تثبت أن الإرادة حين تتجذر في النفس تسقط كل العوائق وتصنع طريقا لا يشبه إلا أصحاب العزيمة.


الرؤيا التي سبقت الحياة


يعود عبد الرؤوف إلى اللحظات الأولى من حكايته، مؤكدا أن بدايتها لم تكن لحظة ميلاده، بل قبل ذلك بثلاثة أيام، حين رأت والدته في المنام أنها سترزق بمولود فاقد للبصر.
ورغم أن الأحلام عادة تنسى عند الصباح، فإن تلك الرؤيا التصقت بقلب الأم ورافقتها كإشارة خفية لما هو قادم.
وعندما جاء إلى الدنيا فعلا دون بصر، امتزجت مشاعرها بين فرحة الأمومة وقلق مشروع على مستقبل طفلها، خصوصا في بيئة كانت فيه خدمات الرعاية شبه غائبة، والدعم النفسي والاجتماعي محدودا للغاية، ومع ذلك، لم تسمح الأم لشيء أن يربك خطواتها واجهت الواقع بقوة، واحتضنت طفلها بعناية استثنائية، وغرست فيه منذ الصغر قيما أساسية جعلت منه اليوم، كما يحب أن يصف نفسه، رسالة حية في المجتمع.
وهكذا نشأ عبد الرؤوف على يقين راسخ بأنه ليس حالة استثنائية تحتاج الشفقة، بل رسالة حية تبرهن أن الإنسان أكبر من ظروفه.

حين انفتحت أبواب المعرفة والإمكانات

رغم تأخر دخوله المدرسة إلى سن الثانية عشرة، فإن عبد الرؤوف لم يكن تلميذا متأخرا من الناحية المعرفية ،فقد تولى أخوه الأكبر مهمة تعليمه في البيت، فكان بمثابة معلمه الأول ورفيق اكتشافه للعالم،علمه القراءة والكتابة وشرح له المفاهيم الأساسية، وربط له بين الأفكار والحياة اليومية، حتى أصبحت ذاكرته بمثابة مكتبة صغيرة قبل أن يضع قدمه داخل القسم لأول مرة.
وحين التحق بمدرسة المكفوفين بولاية أم البواقي، انفتحت أمامه أبواب جديدة، هناك وجد بيئة تفهمه، وزملاء يشاركونه التحديات نفسها وأساليب تعليم تراعي خصوصيته.
وفي تلك المؤسسة بدأت ثقته في نفسه تنمو، وبدأ يتحرر من كل تصنيف يربطه بالضعف أو النقص، لينطلق نحو مرحلة أوسع من النضج والطموح.

حين تمنوا فشله غلبته الإرادة

في المرحلة الثانوية، واجه عبد الرؤوف تحديا كان يمكن أن يغير مساره كليا، فقبل ستة أشهر من امتحان البكالوريا، تعرض عبد الرؤوف لحادث مرور خطير أجبره على الانقطاع عن الدراسة. 
بدا الوقت ضيقا عندما عاد في شهر أفريل وكثيرون اعتقدوا أنه لن يتمكن من اللحاق بالدروس، وحتى بعض زملائه بدافع المنافسة تمنوا ألا ينجح في اللحاق بهم كي لا ينتزع منهم المرتبة الأولى.
لكن عبد الرؤوف واصل ليلا ونهارا تعويض ما فاته، مستمدا طاقته من الحلم الذي يرافقه وفي النهاية، لم ينجح فقط بل تفوق منتزعا شهادة البكالوريا بجدارة، ومثبتا أن الطريق نحو النجاح ليس ممهدا، لكن من يسير بإصرار يصل مهما طالت الرحلة.

بعد حصوله على البكالوريا، التحق عبد الرؤوف بتخصص علم الاجتماع، لكنه لم يجد نفسه فيه فانتقل إلى علم النفس ودرس فيه ثلاث سنوات، إلا أن المسار لم يكن متوافقا مع طموحاته، وعند هذا المنعطف أدرك أنه بحاجة إلى اتخاذ قرار صعب لكنه حاسم أن يبدأ من جديد، اختار الأدب العربي.

أطروحة كاملة تناقش في نصف عام

واصل عبد الرؤوف مساره الأكاديمي بتفوق في الليسانس والماستر وصولا إلى الدكتوراه ، ورغم العراقيل الإدارية التي واجهها خلال دراسته في تونس، لم يستسلم بل أعاد كتابة أطروحته كاملة، واشتغل عليها بإصرار استثنائي تحت إشراف الدكتور علي ملاحي، ليتمكن في ظرف قياسي من مناقشتها بعد ستة أشهر فقط.
رآه الكثيرون إنجازا خارقا، لكنه يراه نتيجة سنوات طويلة من المثابرة، ويشير إلى أن الدعم الذي تلقاه من الوزير الأسبق الدكتور الطاهر حجار وزوجته كان نقطة تحول حقيقية فتحت له آفاق الدراسة والتطور خارج الوطن.

اليوم، يواصل عبد الرؤوف عمله أستاذا في المدرسة العليا للأساتذة، متشبثا بالتميز في كل تفاصيل مهامه، يحضر دروسه بطريقة برايل، ويطبعها بنفسه باستخدام آلة وفرتها له الأستاذة رتيبة قيدوم وفي تصحيح الامتحانات، يستعين بزميل يقرأ له الأوراق حرصا على الدقة والإنصاف.
ويروي بابتسامة حادثة طريفة خلال أحد الامتحانات ، شعر بطالبة تستخدم هاتفها للغش، فتقدم نحوها بثقة وضع يده على الهاتف وقال: "سلمي الورقة فورا، وإلا فستتحصلين على الصفر ولن تسترجعي هاتفك"، وعندما فتح الهاتف للتأكد من المخالفة، وجد أنها تبحث عن إجابة السؤال لم يكن موجودا في الامتحان أصلا!.

 ويختم عبد الرؤوف رسالته لكل من يجد الطريق وعرة بأن النجاح لا يأتي بسهولة، وأن من يسير في دروب الحياة سيواجه دائما عوائق وتحديات قبل بلوغ الهدف، لكنه يؤكد أن البصيرة أعمق من البصر، وأن الإرادة والعزيمة قادرتان على تحويل أصعب الظلمات إلى طريق مضيء

.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services