455
0
رانية بوقفة... باحثة شابة تحوّل نفايات التفاح إلى ماء نقي و أملٍ في مستقبل أخضر

في زمن تتعالى فيه صيحات القلق البيئي و تزداد فيه الحاجة إلى حلول مبتكرة لمشكلات التلوث وشح المياه، تخرج من قلب الشرق الجزائري وتحديدًا من جامعة باتنة 1، شابة في السابعة والعشرين من عمرها تحمل حلمًا بيئيًا واعدًا يشتغل بصمت داخل المختبر و يتحدث بصوت مرتفع في أروقة الإبتكار العالمي ، إنها رانية بوقفة، الباحثة والمبتكرة التي استطاعت أن تحوّل نفايات التفاح والحمضيات إلى مادة فعالة تُصفّي المياه المستعملة وتفتح آفاقًا جديدة للإقتصاد الأخضر بالجزائر.
ضياء الدين سعداوي
تنحدر رانية من ولاية باتنة، وهي خريجة معهد العلوم الفلاحية والبيطرية بجامعة باتنة 1، قسم تكنولوجيا التغذية، تخصص منحها قاعدة علمية متينة لفهم تفاعلات الغذاء مع البيئة والصحة، لكنها لم تكتفِ بمسارها الأكاديمي، بل اختارت أن توسع آفاقها وتستثمر معرفتها في مشروع عملي حقيقي، يواجه واحدًا من أخطر التحديات البيئية في الجزائر ألا وهو تلوث المياه وشح الموارد المائية.
في يوليو 2022، وبمرافقة حاضنة جامعة باتنة 1 أودعت رانية طلبًا رسميًا للحصول على براءة اختراع وعلامة تجارية لمشروعها الذي أطلقت عليه اسم أكوا بلوم - Aqua Bloom ، وبعد عامين من الإختبارات والمرافقة والصبر، تُوّج المشروع بالحصول على براءة اختراع من المعهد الوطني الجزائري للملكية الصناعية (INAPI)، وهو اعتراف رسمي بحصرية الفكرة وجدتها، ويضمن لها حماية قانونية لمدة عشرين سنة.
تخثر طبيعي بمذاق التفاح
تتمحور براءة الاختراع حول فكرة ثورية قائمة على استبدال المواد الكيميائية الضارة التي تُستخدم عادة في تصفية المياه المستعملة بمادة طبيعية مستخلصة من نفايات غذائية وتحديدًا من قشور التفاح والحمضيات ، هذه المادة هي البكتين، وهو سكر معقد غني بالألياف الغذائية ومضادات الأكسدة والحديد.
اعتمدت رانية على خاصية البكتين الكيميائية، لا سيما مجموعاته الكربوكسيلية، لإبتكار تقنية بيئية آمنة تعمل على إزالة الملوثات العالقة والذائبة في المياه، عبر عملية تخثير مزدوجة (Coagulation-Flocculation)، وهو ما يجعل من منتوجها عاملًا طبيعيًا فريدًا، يؤدي دورين في آن واحد.
تقول رانية في توضيح قدمته لنا حول مشروعها: منتوجنا يتميز بتركيبته الغنية التي تجعله قادرًا على الارتباط بالأيونات المعدنية والجسيمات الغروية، ما يسمح بتصفية فعالة وآمنة للمياه المستعملة الناتجة عن المنازل، والمصانع الغذائية، وحتى محطات الصرف.
وتضيف: الفرق بين طريقتنا والطرق التقليدية لا يكمن فقط في المادة، بل في الفلسفة؛ فنحن نستبدل السُم بالشفاء، والضرر بالفائدة، والفاقد بالقيمة.
نحو صفر نفايات و100% طاقة متجددة
أحد أهم جوانب المشروع يتمثل في التكامل بين التصفية وإعادة الإستخدام ،فبدلًا من أن تكون نهاية العملية هي المياه الصافية، يتم توجيه هذه المياه المسترجعة نحو استعمالات مفيدة أبرزها السقي المستدام، تنظيف وحدات الإنتاج الغذائي، تربية الأسماك وغيرها من الأنشطة البيئية والاقتصادية، مما يجعل هذا المشروع ركيزة لنموذج إنتاج دائري يعزز الأمن المائي والغذائي معًا.
كما يعتمد المشروع على استخدام مصادر طاقة متجددة في عمليات التصفية، مثل الطاقة الشمسية والهوائية والمائية، وهو ما يجعل من "أكوا بلوم" حلاً بيئيًا شاملًا لا يهدف فقط إلى معالجة المياه، بل إلى إحداث تغيير منهجي في الطريقة التي نتعامل بها مع الموارد.
من الورقة البحثية إلى الريادة الوطنية
المشروع لم يبق حبيس المختبرات أو الورقات العلمية، بل خرج إلى النور عبر عدة فعاليات ولقاءات علمية وقد تُوجت رانية بالمرتبة الثالثة وطنياً في مسابقة Disrupt Constantine 2021، المخصصة للمؤسسات الناشئة في مجال البيوتكنولوجيا، والتي نظمتها وزارة المؤسسات الناشئة واقتصاد المعرفة.
كما حظي مشروعها بتصنيف مشروع مبتكر من قبل الوزارة ذاتها، مما سمح له بالحصول على المرافقة والدعم في مختلف مراحل التطوير والإختبار، إلى جانب مشاركات متعددة في معارض البحث العلمي، ومنتديات الاقتصاد الدائري.
تكامل العلوم والتجربة الإنسانية
لم تكن رحلة رانية مع البكتين والبيئة رحلة أكاديمية فقط، بل كانت أيضًا تجربة إنسانية عميقة ، فقد عملت متربصة طويلة بمستشفى عين التوتة، كمختصة تغذية مكلفة بوضع الحميات في مصالح تصفية الكلى، الجراحة وطب الأطفال وهو ما عمّق فهمها لتأثير المواد الكيميائية على صحة الإنسان، وأعطاها دافعًا إضافيًا للبحث عن بدائل طبيعية وآمنة.
كما اشتغلت أستاذة لمادة علوم الطبيعة والحياة في مدرسة خاصة لمدة عام، مما مكنها من تمرير شغفها للجيل القادم، وزرع حس الاستكشاف والبيئة في عقول التلاميذ وتؤمن رانية بأن التربية البيئية تبدأ من المدرسة، وبأن تعليم الأطفال احترام البيئة هو استثمار بعيد المدى في الوعي الجماعي.
صانعة محتوى علمي ومُلهمة رقمية
رانية بوقفة لم تكتفِ بأن تكون باحثة في الظل، بل قررت أن تتحدث، تشرح، تنشر وتشارك معرفتها مع جمهور أوسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما على LinkedIn حيث تم تصنيفها مؤخرًا من قبل منصة Favikon ضمن قائمة أكثر صناع المحتوى تأثيرًا في العالم: المرتبة 7 عالميًا في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والتكنولوجيا الخضراء ، المرتبة 13 وطنياً في مجالي البيئة والطاقة ضمن أفضل 16% عالميًا من حيث التأثير بالمحتوى.
وتقول رانية بفخر: أؤمن أن مشاركة المعرفة تخلق تأثيرًا حقيقيًا، ويسعدني أن أكون جزءًا من هذه الرحلة.
تجربتها في العالم الرقمي لم تكن مجرد محاولة فردية، بل هي امتداد لرسالتها العلمية، وسعيها الدائم لإلهام شباب الجزائر، وخاصة الطالبات، على تحويل المعرفة إلى مشاريع، والمختبرات إلى شركات ناشئة، والابتكار إلى ثقافة.
مستقبل مشاريع الذكاء الإصطناعي
رغم أن مشروعها الحالي يتمركز حول البيئة والمياه، إلا أن رانية لها اهتمامات متعددة، من بينها "الذكاء الاصطناعي" ولديها بالفعل عدة ابتكارات في هذا المجال لقيت اهتمامًا وقبولًا في دول الشرق الأوسط، لاسيما السعودية، لكنها تصر على أن تبقى مشاريعها على أرض الوطن، مؤكدة في حوارها معنا قائلة: طموحي أن أُجسّد هذه الابتكارات في الجزائر، وتحديدًا في باتنة.
هذا الولاء للمكان لا ينبع من حدود جغرافية، بل من إحساس بالمسؤولية والرغبة في جعل البحث العلمي خادمًا للمجتمع المحلي أولًا، وصانعًا للفارق في المناطق الداخلية والمهمشة. وهي ترى في الذكاء الاصطناعي أداة مساندة للبيئة، يمكن استغلالها في أنظمة المراقبة الذكية، وإدارة الموارد، والتنبؤ بالإحتياجات الطاقوية.
رانية... الصوت العلمي النسوي في الجزائر
في بلد تُواجه فيه المرأة الباحثة تحديات مضاعفة، تتقدم رانية بوقفة بثبات وثقة، لتُبرهن أن العقل الأنثوي قادر على اختراق تعقيدات البحث العلمي ، وتقديم حلول واقعية لمشاكل شائكة مثل تلوث المياه وتدهور البيئة.
هي لا تطلب إعفاءً ولا تطالب بالتمييز، فقط تريد أن تُثبت أن النساء الجزائريات يمكن أن يكنّ في طليعة التغيير العلمي، وأن ابتكارًا واحدًا قد يُنقذ آلاف الهكتارات الزراعية، ومئات الآلاف من الأمتار المكعبة من المياه، ومئات الأرواح البشرية من تأثير المواد السامة.
من براءة الاختراع إلى عدالة المياه
المياه في مشروع رانية ليست مجرد سائل يُصفّى ، بل قضية عدالة بيئية واجتماعية. فتقنيتها قادرة على إحداث تحول في طريقة تسيير المياه المستعملة في الجزائر، خصوصًا في ظل التغيرات المناخية التي تُهدد الأمن المائي للبلاد.
هي تتحدث عن حق الناس في ماء نقي وآمن"، وعن "حق الفلاح في ريّ أرضه دون أن يُفسد البيئة، وعن حق المصنع في استخدام التكنولوجيا دون أن يكون ملوّثًا، بإختصار فهي تدافع عن حق الأجيال القادمة للعيش في بيئة سليمة.
من النفاية إلى القيمة
رانية بوقفة ليست فقط باحثة حازت براءة اختراع، بل هي قصة إلهام متكاملة، طالبة تحولت إلى مبتكرة، موظفة تعليم إلى سفيرة للبيئة، متدربة صحية إلى مهندسة حلول مستدامة، وصانعة محتوى إلى مرجعية وطنية في التكنولوجيا الخضراء.
في عالم يلهث وراء الحلول السريعة والمربحة، اختارت رانية الطريق الصعب: أن تُعيد القيمة لما نرميه، وأن تجعل من النفاية منبعًا للحياة.
هي ليست فقط تبتكر لتُصفّي المياه، بل تُصفّي معه الصورة المُشوّهة عن البحث العلمي في الجزائر، وتؤكد أن الأمل ما زال ممكنًا، متى توفر الشغف، والدعم، والإيمان بالذات.
في قلب ولاية باتنة، تنبت زهرة جديدة... اسمها "أكوا بلوم"، وساقها: رانية بوقفة.