بقلم اسماعين تماووست
لقد كنا بالفعل في منتصف موسم الخريف، حيث بدأت الرياح الباردة تجرف أوراق الأشجار المتساقطة، لترسم لوحة ساحرة بالألوان البرتقالية والذهبية على الأرض، كانت هذه الألوان، رغم جمالها، تنسجم مع شعور القلق الذي كان يسيطر عليّ، كأنما الطبيعة تدعو إلى السلام، بينما كنا نعيش في كابوس من الفوضى.
فالوضع الذي كنا نعيشه كان صعبا، كان البحث عن قطاع الطرق الهاربين متعسرا، وكأنما كانت تلك الجبال والوديان تبتلع كل أثر لهم، المعلومات القليلة التي تمكنا من جمعها كانت غير كافية تمامًا لإلقاء القبض على هؤلاء المجرمين، الذين أصبحوا يتنقلون في ظلام الليل، مستترين في عتمة الليل.
بعد الهجوم الدنيء الذي نفذوه على مدرسة الشرطة الصومعة بالبليدة..
كان الخوف يتغلغل في نفوس المواطنين، وأصبحوا ينظرون إلى الجبال الشاهقة في ولاية البليدة والمدية كأنها ملاذًا آمنًا للارهابين، كانت الجبال لهم ملجأً، بينما الصخور التي يكسيها الغطاء النباتي الكثيف، تمنحهم فرصة للبقاء بعيدين عن أنظارنا.
كان هؤلاء المجرمون، رغم ضغفهم ، يتنقلون بحذر وبطىء لم تكن لديهم الجرأة على مواجهة عناصر المصالح الأمنية، بعد الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها ليلة 25 إلى 26 أوت 1985، كانوا يتصرفون كالأشباح، يختبئون في الكهوف والتضاريس الوعرة، حيث لا يمكن الوصول إليهم بسهولة.
كان الأمر كما لو كانوا يعيشون في عالم موازي، منفصل عن واقعنا، حيث تمثل الجبال لهم الأمان، بينما كانت تحاصرنا نحن.
بدوا كفريق من المرتزقة، منشغلين بمؤامراتهم في الظلام، ومع ذلك، كان يتوجب علينا إيقافهم بأي ثمن، لقد كانت الأوامر واضحة لجميع الضباط: القبض عليهم أحياءً أو تصفيتهم إذا تعذر ذلك، لم يكن لدينا خيار، فالوضع كان على شفير الهاوية، وكان من المؤكد أن تزايد الأحداث العنيفة سيؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد.
كانت هذه الأفعال تدفع البلاد نحو الفوضى، وكأننا نقف على حافة الهاوية، بينما كانت أرواح الأبرياء محاصرة في دوامة من الرعب والقلق. ..
في خضم هذه الأحداث المليئة بالتوتر، شعرت بأعباء هذا البحث تثقل كاهلي، وكأنها جبل ثقيل لا يمكن تحمله، كانت الضغوط تتزايد بشكل مستمر، وقد تعرضنا لأحداث مرهقة أضفت علينا، شعورًا بالخوف والقلق، كانت تلك المشاعر تتجلى في كل مرة أتذكر الأحداث المرعبة التي مرت علينا، وكأننا كنا نعيش في كابوس لا ينتهي، يكاد يبتلعنا.
خلال تلك الفترة، قررت أن أذهب للقاء أحد عناصري، الذي كان يتمتع بسمعة طيبة كأفضل الرجال الذين أعتمد عليهم، موظفًا في المجلس الشعبي البلدي لبلدية لاربعا، وهو شخصية بارزة في المجتمع، عندما وصلنا إلى مكان اللقاء، كان الجو مضطربًا، وكأن الطبيعة نفسها تعكس شعوري بالقلق، الأوراق تتساقط حولنا والرياح تعصف بالأشجار، كأنها تعكس الفوضى التي كانت تدور في ذهني، كان كل شيء من حولي يتحدث عن الاضطراب، وكأن الأرض نفسها لم تعد تحتمل.
جلست معه في زاوية هادئة، وبدأنا الحديث، كان لديه معلومات مهمة حول وجود مجموعة من الإرهابيين، تتراوح أعدادهم بين إثني عشر وعشرين فردًا، كان هذا الرجل يتمتع بحس وطني عالٍ، يعرف الكثير من التفاصيل عن السكان ومناطقهم، مما جعله عنصرًا أساسيًا في هذه العملية البوليسية...
كانت كلماته تنبعث من قلب مليء بالشجاعة، ولكنه كان أيضًا يعكس الخوف الذي يسكننا جميعًا، شرحت له القلق الذي يعتري قلبي، وكيف أن طبيعة المنطقة كانت تلعب دورًا محوريًا في إخفاء هؤلاء المجرمين، كانت الجبال الشاهقة والشعاب الضيقة توفر لهم الملاجئ المثالية، حيث يمكنهم التخفي بسهولة.
لم يكن الأمر مجرد هروب من القانون، بل كانت الطبيعة نفسها تمثل حليفًا لهم، حيث يختبئون في ظل الأشجار الضخمة، تحت الصخور، وفي الكهوف المظلمة التي لا تصلها أشعة الشمس، كان حديثه يحمل طابع التحذير، كما لو كان يحاول أن يوقظني من غفلتي، أخبرني كيف أن منطقة لاربعا، بتضاريسها الوعرة، أصبحت ملاذًا للعديد من الأشرار...
كانت الصخور تتناثر بين الأشجار، والممرات الجبلية تتداخل في شبكة معقدة تتيح لهم الفرار في أي لحظة، كأن الطبيعة تسخر منا وتزيد من تعقيد مهمتنا في القضاء على هذا الشر.
وكلما تعمقت في التفكير، كنت أشعر بأن القلق يتسلل إلى أعماق روحي، كيف يمكننا أن نكون في هذا الوضع، في وقت كانت فيه البلاد تحتاج إلى الأمان؟ كانت الأشجار تتراقص مع هبات الرياح، كما لو كانت تحذرني من المخاطر الكامنة، وكلما زاد جمال الطبيعة، زاد توتري...
كنت أشعر بأنني محاصر بين واجبي كضابط ومخاوفي في تلك اللحظة، كنت أدرك أن كل شيء حولي كان يحمل معنى أعمق، وأن القلق الذي كان يتصاعد في صدري لم يكن مجرد شعور عابر، بل كان دافعًا لي...
كانت تلك الجبال والتضاريس الوعرة تشكل تحديًا حقيقيًا، ولكنها أيضًا فرصة لإظهار شجاعتنا وعزيمتنا، وفي كل لحظة كنت أستمد القوة من تلك الطبيعة القاسية، كنت أذكر نفسي بأن النصر يحتاج إلى التحدي، وأن الأمل موجود حتى في أحلك الظروف.
مع مرور الوقت، أدركت أن هذا القلق كان ينمو في داخلي كبرعم وسط الظروف القاسية،وكأن أصوات الطبيعة تهمس لي بأن أكون صامدًا، وكأن الأشجار تحملني على أجنحة الأمل رغم العواصف.
كنت أشعر بأنني جزء من هذا الصراع، جزء من هذا التاريخ، وأنني مهما كانت التحديات، يجب أن أكون مستعدًا لمواجهة كل ما يأتي، فحتى لو كانت الطبيعة عائقًا، فقد كنت أعلم أنني لن أتوقف عن السعي وراء الحقيقة، مهما كانت الصعوبات.
بينما كنت أستعد لمواجهة المجهول، كانت الشجاعة تتجلى في قلبي، لأن الوقت قد حان لأخذ خطوة للأمام، لأسطر فصلًا جديدًا في قصتي، ولأثبت أن الأمل يمكن أن ينمو حتى في أصعب الظروف، وأن الحق لا يمكن أن يختفي في ظلام الجبال...
يتبع...