12223
3
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 108
بقلم اسماعين تماووست
بينما أخط حروف هذا الكتاب، يتجلى أمامي الأول من نوفمبر، ذلك اليوم الذي يحمل في طياته معاني عميقة للشعب الجزائري. إنه التاريخ الذي أشرقت فيه شمس الثورة، حين رفع أبناء الجزائر راية النضال، معلنين للعالم أجمع أنهم لن يقبلوا الظلم أو العبودية. في هذا اليوم، تتجسد روح العزيمة والتضحية، حيث تحررت ضمائرنا من قيود الاستعمار الفرنسي. لقد كتب الأبطال قصصهم بدمائهم، سقط الكثير منهم فداءً لوطن لا يعرف معنى الاستسلام، ومن بينهم عائلتي، التي كانت رمزًا للمقاومة.
إن تأثير هذه التضحيات لم يقتصر على الماضي فحسب، بل شكل أيضًا هويتي ومهمتي. خلال العشرية السوداء، وجدت نفسي وحيدًا أمام عواصف الخطر، أواجه الإرهاب من الخطوط الأمامية. كل مهمة كانت تتطلب شجاعة لا مثيل لها، حيث كنت أتعامل مع نقص الموارد والتهديدات التي تحيط بحياتي في كل لحظة، لكنني لم أتردد قط. كلما شرعت في عملية تفتيش، كنت أشعر بعمق أنني أستمد قوتي من إرث عائلتي، والتي ضحت بالغالي والنفيس من أجل الجزائر.
نشأت في كنف عائلة من الأبطال، وكان والدي المجاهد محمد تماووست قدوتي. اعتُقل في رغاية الجزائر في السابع من سبتمبر 1956، من قبل مجموعة من الكوماندوز الفرنسيين تُعرف بـ D.O.P، وهي في الحقيقة منظمة إجرامية تابعة للجيش الفرنسي. بعد تعرضه للتعذيب، توفي في الثامن من سبتمبر عن عمر يناهز 49 عامًا. منذ صغري، كنت أستمع إلى رواياته البطولية، كيف واجه الاستعمار الفرنسي بصدر عارٍ وإرادة لا تتزعزع. كانت وحشية الاستعمار الفرنسي تتجلى في كل زاوية، تعاني الأمة من قسوة رهيبة لم يعرفها التاريخ من قبل. لم تكن تلك مجرد احتلال، بل كانت حربًا على الهوية والثقافة، حيث سُلبت الأرواح والأحلام، واعتُقل الكثيرون وعُذّبوا.
كما واجه والدي وأعمامي تلك الوحشية، حيث اعتُقل عمي قدور تماووست في الخامس من سبتمبر 1956، في نفس اليوم الذي اعتُقل فيه عمي علي من قبل D.O.P. بعد أيام قليلة من إعدام شقيقه محمد، وُضع عمي قدور في قفص مليء بالحيوانات المفترسة، والتي أفترست روحه. كان في السادسة والعشرين من عمره. أما عمي علي، فقد كان أيضًا ضحية من ضحايا الاستعمار، حيث أُلقي به من طائرة هليكوبتر في البحر قرب رغاية، بعد أن تم ربطه. استشهد عن عمر يناهز 32 عامًا.
فيما بعد، واجهت في العشرية السوداء إرهابًا لا يقل قسوة. كانت الجماعات المسلحة تحاول زعزعة استقرار الوطن، مستخدمة العنف والفوضى كأدوات لتحقيق أهدافها، وكأنها تعيد تكرار سيناريو الاستعمار بطريقة جديدة، تزرع الخوف والقلق في قلوب الناس. في كل مرة كنت أضع حياتي على المحك لحماية المباني الحكومية والمدارس والمستشفيات، كنت أشعر أنني أواصل مهمة عظيمة بدأت منذ عقود، أواجه نفس العدو الذي يسعى لتدمير الجزائر.
كنت أرى في عيون كل مواطن، كأنهم ينعكسون في صورة والدي وأعمامي، الذين دافعوا عن أحلامهم ومستقبل أطفالهم. في تلك اللحظات العصيبة، كنت أستمد قوتي من إيمان شعبي، من إرث أجدادي، ومن المقاومة التي أظهروها في أحلك الأوقات. كنت أؤمن أنه رغم الخسائر والأحزان، فإن كل خطوة أخطوها كانت تكريمًا لتضحياتهم، وكل ابتسامة أراها على وجه طفل في السوق تذكرني أن الأمل لا يموت.
ورغم أنني فقدت العديد من الزملاء في هذه المعركة، كنت أعلم أن تضحياتنا تحمل وعدًا بأن الجزائر ستبقى حرة. كنت أرى نفسي، ليس مجرد شرطي، بل جزء من عائلة كبيرة من الأبطال، الذين واجهوا التحديات وأقسموا أمام الله أن يبذلوا كل جهدهم من أجل هذا الوطن. ومع هذا الإحساس، واصلت السير على درب الشجاعة، مدفوعًا بإرادة لا تلين، لحماية الجزائر التي أحببت، والتي شهدت تضحيات أسلافي، مؤكدًا أن الاستعمار والإرهاب، رغم وحشيتهما، لن ينجحا أبدًا في كسر روح أمة متجذرة بتاريخها وايمانها.
وفي هذا الأول من نوفمبر، يوم الثورة، أجد نفسي متجذرًا في ذكريات هؤلاء الشهداء، الذين رفعوا قيمة الكرامة وحب الوطن. نحن نحتفل بشجاعتهم والإرث الثمين الذي تركوه لنا، مجددين العهد بمواصلة مسيرتنا نحو الحرية. عزمنا لن يضعف، وسنبقى متمسكين بأحلامنا، مصممين على بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، لأن الجزائر ليست مجرد وطن، بل هي روحنا وهويتنا، وحلمنا الذي سنحميه حتى آخر أنفاسنا.
أنا المفتش إسماعيل تامووست، وأقف هنا اليوم في ذكرى شهدائنا الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل حرية وطننا، إن تضحيات هؤلاء الأبطال تلهمني في كل لحظة، وتحثني على الاستمرار في النضال ضد الإرهاب الذي يسعى لزعزعة أمن الجزائر.
نشأت في كنف عائلة تحمل إرثًا من الشجاعة والمقاومة. شاهدت كيف عانت عائلتي من قسوة الاستعمار، وكيف ضحى والدي، المجاهد محمد تامووست، وأعمامي بدمائهم في سبيل الكرامة والحرية. لقد كان هذا الإرث بمثابة نور يضيء طريقي ويحثني على العمل بلا كلل في مواجهة قوى الظلام.
في كل يوم أخرج فيه لمواجهة الإرهاب، أشعر بأنني أواصل مسيرة الشهداء. كل عملية تفتيش، وكل مواجهة مع قوى الشر، تجعلني أشعر بأنني أسير على خطاهم، وأنني أسهم في تكريم تضحياتهم. إن إيماني بقضيتنا يدفعني لأكون جنديًا في المعركة من أجل أمن ورفاهية شعبي.
إنني أؤمن بأن النضال من أجل وطننا مستمر، وأن الجزائر ستظل دائمًا في قلوبنا. سأظل أقاتل من أجل حماية بلدي حتى بعد تقاعدي، وحتى آخر أنفاسي، مستلهمًا من شجاعة شهدائنا، مصممًا على جعل الجزائر مكانًا آمنًا لكل أبنائها.ة، في كل انتصار أحققه، أرى وجه والدي وأعمامي، وأدرك أنني أمثل إرثهم، وأن تضحياتهم لن تذهب سدى، المجد والخلود لشهداء وأحرار ثورة نوفمبر المجيدة.
ورغم أنني كنت صغيرًا، بالكاد أبلغ من العمر خمس سنوات عندما فقدت والدي الشهيد، إلا أنني أدركت لاحقًا عمق التضحية التي قدمها هو وأفراد عائلتي وكل من شاركوا في تلك الحقبة.
كانت قصصهم محفورة في الذاكرة الجماعية، تروى لنا كما لو كانت أسطورة من نضال طويل ودرب شائك نحو الحرية.
كل يوم، وأنا في طريقي لمواجهة قوى الظلام، أتذكر التضحية التي قدمها كل شهيد ومجاهد من أجل هذا الوطن، كأنهم ينادونني بصوت التاريخ العتيق، "سِر على دربنا، ولا تنسَ تضحياتنا." لم يكن أبي وحده من قدم حياته، بل الكثيرون مثله ضحوا بأرواحهم، تاركين وراءهم قصصًا لا تزال تُروى حتى اليوم، رجال ونساء لم نتعرف عليهم شخصيًا، لكنهم تركوا بصمتهم العميقة في تراب هذا الوطن.
ربما لم أتذكر كلمة واحدة من والدي، لكن إرثه وإرث كل أولئك الشهداء كان كافيًا ليدفعني للعمل بلا هوادة، ليبقى وطننا رمزًا للعزة والكرامة.
فكل شهيد هو جزء من قصة أكبر، قصة أمة بأسرها، إن ما نقوم به اليوم ليس إلا تكملة لرحلة طويلة، رحلة شرف وفداء، حيث يقف التاريخ شاهدًا على تضحياتهم ويحمّلنا مسؤولية استكمال مسيرتهم.
ومهما كان المكان الذي نقف فيه، فإن تضحياتهم تتجاوز الحدود والمسافات. إن الجزائر ليست فقط جغرافيا، بل هي روح متجددة، جسّدها كل من قدم روحه فداءً لهذا الوطن الغالي.
في ختام حديثي، أود أن أعبر عن أملي في أن تبقى الجزائر شامخة. أترحم على أرواح الشهداء الأبرار الذين ضحوا من أجل حرية وطنهم، وأثني على المجاهدين الأحرار الذين لا يزالون على قيد الحياة، والذين يستمرون في نضالهم من أجل صون الأمن والأمان في بلادنا.
كما أشيد بدور الدولة الجزائرية وأجهزتها الأمنية التي تسعى بجد للحفاظ على الاستقرار والسلم، وأدعو الله أن يبارك جهودهم في خدمة الوطن، وأن يحقق الأمان والازدهار لشعبنا الجزائري. إن الجزائر تستحق الأفضل، ومن واجبنا جميعًا أن نعمل بجد من أجل مستقبل أكثر إشراقًا.