341
0
حكاية الطاووس عالي المقام والشّجرة المقدّسة

بقلم: محمد شريم
عاش طاووس كبير السّن قرب بركة ماء في إحدى الغابات، وقد نصّب نفسه ملكا على ما في تلك الناحية من الطيور المقيمة هناك من الطواويس والبط والإوز والدّجاج والدّيكة الرومية والنعام، فرضيت تلك الطيور بذلك، وأطلقت على تلك الناحية وما حولها اسم "مملكة الطاووس" إقرارا بولائها له واعتمادها عليه.
وكان ذلك الطاووس يفضّل الجلوس على غصن شجرة يأكل من ثمرها اللذيذ الشّهي ما يشاء، ولا يهبط إلى الأرض إلا لوقت قليل، إذا اضطر لذلك، حتى أدرك شجرته الهرم.
وذات يوم اقترب من ذلك الطاووس نَيْص كان يقيم في جحر بسفح تلة قريبة من المكان، وقال له: أراك تكثر الجلوس على هذا الغصن يا أخا الطواويس! فأجاب الطاووس: إنه المقام العالي والعرش السّامي الذي يليق بي فوق هذه الشجرة التي تقدّسها طيور هذه الناحية منذ زمن طويل يا أبا الشّياهم. فقال له النّيص: ولكنك بحاجة إلى منادمة الطيور التي تعيش حول هذه البركة، فتعتز باجتماعها نفسك، وتطيب نفوسها بأنسك! فصاح الطاووس بالنّيص: هل جننت أيّها النيص؟ أتريدني أنا ملك هذه الطيور المتوّج أن أهبط بكلّ هذا الجمال والجلال والدلال الذي أنفرد به وأتفرّد لكي أنادم الدّجاج والبط والإوز والنعام؟! فقال النّيص: ولكنها هي التي توّجتك ودللتك ويحسن بك مخالطتها ومشاورتها في أمرها وفي شؤون مملكتك. فردّ الطاووس: لقد وثقتْ هذه الطيور بحكمتي منذ البداية، وهي التي أوكلت إليّ أمرها وهذا يكفي. فقال النيص: ولكنك بحاجة إلى أن تنقر معها ما تمنحك إيّاه هذه الأرض من رزقك الذي تحبه وتشتهيه! فردّ الطاووس: يكفيني ما أتناوله عن هذه الشّجرة المقدسة المباركة ولا حاجة لي لتنويع طعامي! فقال النيص ناصحا: ولكنّ شجرتك هذه أدركت الهرم فقلّ ثمرها وضعف عودها.. فلمَ لا تعهد إلى الطيور بتسميد جذورها وإليّ أنا بقضم أغصانها اليابسة ليتجدّد شبابها؟ فلتعذرني إذا قلتُ لك أنّ ضعف ثمار هذه الشجرة الهرمة بدأ يترك أثره واضحا جليّا على هيئتك يا ملك طيور هذه النّاحية! فأجابه الطاووس بحدّة: تأدّب أيّها القميء! أتريد لنفسك أن تحطم بأسنانك الحادّة دوحة مملكتي فوق رأسي ولهذه الطيور أن تضع مخلفاتها القذرة تحت عرشي؟!
فبهت النيص من ردّ الطاووس القاسي، وصمت قليلا ثمّ قال: إذا رأيت أنّ رأيي هذا لا يناسبك فأنت وما تريد، ولكنك يا ملك الطيور بحاجة إلى حماية نفسك وحماية هذه الطيور - التي ملّكتك عليها - من كلب عابر أو ثعلب ماكر، فإذا رضيت بإخائي وقبلت صداقتي فأنا كفيل بمؤازرتك بهذه السّهام التي تكسو بدني فأغرزها عند الحاجة في جلود أعدائك وأعدائي. فنفش الطاووس ريشه وصاح بالنيص بعنجهية ظاهرة: أتقول هذا أيضاً؟.. فلتزمْ حدّك أيّها النيص! أين أنت منّي؟! أين شكلك الموحش من شكلي المؤنس، وريشك المدبّب المرهوب من ريشي الناعم المحبوب؟ فأجابه النّيص: ولهذا أريد مصاحبتك يا أجمل طيور الناحية.. فإذا تصاحبنا فإن قوتي تقلل من ضعفك، ومنظرك الوديع يخفف من منظري الرهيب! فرد الطاووس على النيص: ومن ذا الذي سيراك في النهار ليشاهدني وقد خففت من قسوة منظرك وأنت لا تغادر جحرك إلا ليلا كما يفعل اللصوص؟ كفاك أيّها النيص تحايلا عليّ، فلن أصادقك حتى تصبح طاووسا مثلي، وحتى ذلك الحين فلتذهب إلى جحرك الخفيّ المعتم.
وعندما سمعت الطيور حديث الطاووس والنيص أدركت أن الطاووس الكبير لم يعد جديرا بثقتها، ما دام يتعالى عليها ولا يشاورها في أمرها، فتدارست أمرها بعيدا عنه، وأجمعت على أنّ النيص كان على حقّ، وأنّ ملكها الطاووس كان مخطئا عندما رفض بعنجهية وغرور كلّ ما اقترحه عليه النيص من الاقتراحات، فهو - كما قال النيص عنه - غير قادر على حماية نفسه ولا على حمايتها.
وفي تلك الليلة قرر الطاووس الاحتفال بما اعتبره نصرا على النيص، وإفشالا لخطته، بعد أن صدّ ذلك النيص ولم يوافق على قوله الذي رأى فيه تحايلا عليه ليهدم به مملكته ويحطم عرشه، فارتفع صوت هذا الطاووس بالغناء، فخشيت الطيور أن يستجلب صوته إليها الثعالب أو الكلاب أو غيرها من الحيوانات الضارية، فقررت مغادرة المكان على عجل، وتوجّهت نحو مكان قريب من جحر النيص لتستنجد بساكن ذلك الجحر عند الحاجة.
وفي تلك الليلة هبّت ريح شديدة، ولم تعد الطيور تسمع صوت الطاووس، فغلب على ظنّها أنّ صوت مليكها المتوّج قد اختلط بصوت الريح فلم تعد تميّزه، أو أنه قد نام بعد أن سهر بعض ليله صائحا ومغنيا..
وبعد شروق الشمس في اليوم التالي هدأت العاصفة، وحين انتصاف النهار قرّرت الطيور العودة إلى بركتها لتشرب، وعندما وصلت المكان نظرت إلى موضع الطاووس، فما وجدت الطاووس في مكانه المألوف على غصنه المعروف، ولكنها وجدت الشجرة مائلة وقد أوشكت الريح أن تقتلعها من جذورها، وكان غصن الطاووس الذي اعتاد الجلوس عليه مكسورا تحتها، أما الطاووس نفسه فلم تعثر الطيور له على أثر، ولكنها بعد أن تأمّلت المكان جيدا وجدت على الأرض الكثير من ريشه المتناثر هنا وهناك وهو معفر بالتراب!