437
0
غار اجبيلات… حين يتحوّل الحديد إلى سياسة

بقلم الحاج بن معمر
مشروع غار اجبيلات، ليس مجرد منجم ضخم يُعاد فتحه بعد عقود من الانتظار؛ إنّه اختبار لقدرة دولة بأكملها على تحويل الثروة الجيولوجية إلى قوة اقتصادية وصناعية وجيوسياسية.
في لحظة عالمية تتغيّر فيها قواعد سوق الصلب، وتتجه فيها الدول الكبرى إلى إنتاج الحديد منخفض الانبعاثات، تتقدّم الجزائر بخطوات متسارعة نحو إعادة بناء قاعدة صناعية كانت غائبة لسنوات طويلة.
لكن هذا التقدم لا يخلو من الأسئلة العميقة: ما جدوى المشروع في ظل تقلبات السوق الدولية؟
هل البنية اللوجستية قادرة على امتصاص الحجم المتوقع للإنتاج؟ ما نوع التكنولوجيا التي ستحدد شكل الصناعات الحديدية؟ وكيف يمكن تحويل المنجم من مورد أولي إلى منظومة قيمة مضافة عالية؟ هذه الأسئلة ليست تقنية فقط، بل سياسية واقتصادية واستراتيجية في آن واحد.
تبدأ القصة من الجنوب الغربي، حيث توجد واحدة من أكبر احتياطيات الحديد غير المستغلة في القارة الإفريقية.
لسنوات طويلة ظلّ غار جبيلات حبيس الدراسات والمذكرات التقنية، بعضها متفائل وبعضها متشائم، لكن في كل مرة كان الإصلاح الاقتصادي أو الظرف السياسي يؤجل المشروع إلى أجل غير معلوم.
اليوم تغيّر المشهد: الدولة قررت أن تجعل هذا المنجم إحدى ركائز “الصناعة الثقيلة الجديدة” التي تراهن عليها الجزائر لإعادة توازن اقتصادها وتقليص التبعية للمحروقات، وبذلك تحوّل المشروع من ملف جغرافي تقني إلى ملف سيادي بامتياز.
من الناحية الاقتصادية، يعتمد مشروع بهذا الحجم على عنصرين: حجم الاحتياطي وتكلفة تحويل الخام إلى منتج صناعي قابل للتنافس.
الاحتياطي الكبير يمنح الجزائر أفقاً زمنياً طويلاً يسمح بالتخطيط لعشرات السنوات، لكن هذا المعطى وحده لا يخلق الثروة؛ ما يخلقها فعلاً هو القدرة على تحويل هذا الخام إلى منتجات ذات قيمة أعلى.
هنا يبرز التحدي الأول: هل تكتفي الجزائر بإنتاج خام مركز وتبيعه للمصانع المحلية والأجنبية؟ أم أنها ستختار الطريق الأكثر طموحاً، أي تطوير صناعة صلب كاملة، تشمل الاختزال المباشر وصناعة الفولاذ المسطح والمسطحات عالية الجودة؟
الخبراء الاقتصاديون يؤكدون أن الربح الحقيقي لا يأتي من بيع المادة الأولية، بل من تصنيعها محلياً.
الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، الحائز على نوبل، لطالما كرر قاعدة جوهرية: “الدولة التي تصدّر مواد أولية ستظل على هامش الاقتصاد العالمي مهما عظمت احتياطياتها، بينما الدولة التي تضيف القيمة هي التي تصنع موقعها في السوق الدولية.” هذا القول يلخّص بوضوح جوهر التحدي أمام الجزائر.
المنجم وحده لا يكفي؛ النقل هو قلب المشروع. فتكلفة نقل الخام من الجنوب إلى مصانع التحويل في الشمال يمكن أن تحدد جدوى المشروع بنسبة كبيرة.
لذلك، فإن خط السكة الحديدية الذي يجري إنجازه ليس مجرد بنية تحتية مكملة، بل جزء من المعادلة الاقتصادية.
كلما انخفضت تكلفة النقل، زادت تنافسية الحديد الجزائري مقارنةً بالحديد المستورد من آسيا أو غرب إفريقيا.
ويذهب بعض الخبراء إلى القول إن الربحية الحقيقية لا تتعلق فقط بالاحتياطي أو بالجودة، بل بفعالية الربط بين المنجم والمصنع والميناء. إذا كان الخام سيُحوَّل محلياً، فإن شبكة النقل تصبح القناة التي تمر منها القيمة الصناعية، وليس مجرد قناة نقل تقليدية.
ولهذا، فإن اكتمال الخط الحديدي وفعالية تشغيله سيكملان نصف النجاح، بينما النصف الآخر يعتمد على المصانع التي ستتعامل مع هذا الخام.
من زاوية التكنولوجيا، يعيش العالم حالياً لحظة انتقالية في صناعة الحديد: الانتقال من أفران الصهر التقليدية، التي تعتمد على الفحم وتنتج انبعاثات عالية، إلى تكنولوجيا الاختزال المباشر (DRI) التي تعتمد على الغاز أو الهيدروجين منخفض الكربون.
هذا التحوّل ليس تقنياً فقط، بل اقتصادي أيضاً، لأن الأسواق الكبرى — خاصة الأوروبية — ستفرض خلال السنوات القادمة رسوماً إضافية على واردات الصلب ذات البصمة الكربونية المرتفعة.
يعني ذلك أن المنتج الملوّث سيكون أقل تنافسية لذلك، فإن الجزائر ستكون أمام خيار استراتيجي: إما أن تدخل سباق الصناعات النظيفة مبكراً وتنافس بمنتج منخفض الانبعاثات يُوجَّه نحو الأسواق الراقية، أو أن تبقى في الصناعات التقليدية وتنافس في أسواق متوسطة الربحية.
الخبير الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس يقول: “التحوّل الطاقوي ليس خياراً بيئياً فقط، إنه شرط للبقاء الصناعي في العقدين القادمين،” ومشاريع الصلب في الجزائر ينبغي أن تقرأ هذا التحول جيداً.
إن إدماج تكنولوجيا الاختزال المباشر في المنظومة الصناعية الجزائرية قد يسمح للبلاد بتحقيق قفزة نوعية: إنتاج صلب نظيف موجه إلى الأسواق التي تفرض قيوداً كربونية متزايدة.
غير أن هذا الطريق يتطلب استثمارات ضخمة في الطاقة البديلة، لأن الاختزال بالهيدروجين الأخضر يعتمد على كهرباء متجددة منخفضة التكلفة. وهنا تظهر ميزة الجزائر الطبيعية: وفرة أشعة الشمس ومساحات شاسعة تسمح بإقامة محطات طاقة شمسية ذات قدرات كبيرة.
إذا أحسنت الجزائر الاستثمار في هذه النقطة، فإنها لن تكسب فقط صناعة صلب نظيفة، بل ستصبح أيضاً مركزاً إقليمياً للهيدروجين الأخضر، ما يمنحها موقعاً تفاوضياً قوياً في علاقاتها الصناعية مع أوروبا وشمال المتوسط.
لكنّ التحليل لا يكتمل دون التوقف عند سؤال القيمة المضافة، فالمشروع الحقيقي لا يُقاس بكمية الخام المستخرَج، بل بكمية المصانع التي ستُنشأ حوله.
من الأفضل للجزائر أن تنتج ألواح الفولاذ، وصفائح السيارات، واللفائف المسطحة، والعوارض الثقيلة، بدلاً من مجرد إنتاج قضبان التسليح التي لها هامش ربح أقل. لذلك يجب التفكير منذ الآن في بناء منظومة صناعات تحويلية مرتبطة بالحديد: صناعات ميكانيكية، صناعة السفن، صناعة السيارات، صناعة الأنابيب ذات الضغط العالي، صناعات السكك الحديدية، وغيرها من الأنشطة ذات الطلب العالي على الفولاذ المتخصص. هذه الصناعات لا تنتج الربح فقط، بل تنتج فرص عمل، وتخلق شركات صغيرة ومتوسطة، وتبني قاعدة تكنولوجية وطنية.
أما البعد اللوجستي الجغرافي، فهو يفتح الباب أمام بعد آخر: التكامل الإفريقي.
فالجنوب الجزائري ليس بعيداً عن الحدود الموريتانية والمالية، وربط الإنتاج الجزائري بالأسواق الإفريقية قد يُحوّل غارا جبيلات إلى محور لتزويد مشاريع البنى التحتية الإفريقية بالحديد والصلب.
في ظل مشاريع ممرّات الطرق الإفريقية، قد يصبح حديد غارا جبيلات مورداً رئيسياً لجسور وطرق وسكك حديدية في دول الساحل وغرب إفريقيا، هذا البعد لا يجب إهماله، لأنه يمنح المشروع عمقاً جيو-اقتصادياً حقيقياً.
رغم هذه الإمكانات، يبقى المشروع محفوفاً بمخاطر موضوعية: تقلبات أسعار خام الحديد في السوق العالمية، ارتفاع تكلفة المشاريع الكبرى، تأخر الإنجاز، نقص الكفاءات، واحتمال أن لا تنجح المصانع في الوصول بسرعة إلى مستويات إنتاجية تنافسية.
لذلك يجب تبنّي مقاربة واقعية لا تقوم على الوعود، بل على بناء منظومة تشغيل متينة، وصيانة صارمة للسكك الحديدية والمعدات، وتدريب آلاف العمال، وتعزيز الشراكات مع شركات تمتلك خبرة حقيقية في الصناعة الثقيلة.
من الجانب البيئي، فإن الجزائر مطالبة منذ الآن بوضع إستراتيجية واضحة للحد من الانبعاثات في قطاع الصلب.
فصناعة الحديد هي واحدة من أكثر الصناعات تلويثاً للبيئة، وإذا توسعت دون تخطيط بيئي صارم، فقد تواجه البلاد تحديات داخلية وخارجية.
ولهذا، يجب أن يتحول “الصلب الأخضر” إلى خيار استراتيجي لا مجرد شعار. الاستثمار في محطات طاقة شمسية ضخمة، وربط المصانع بمصادر كهرباء نظيفة، وتشجيع الأبحاث في مجال الهيدروجين الأخضر، هي عناصر تجعل المشروع متوافقاً مع الاتجاهات العالمية.
في العمق، غار جبيلات ليس مشروعاً صناعياً فقط، بل مشروع دولة يرسم شكل الاقتصاد الوطني للسنوات القادمة. إنه فرصة لإعادة صياغة علاقة الجزائر بثرواتها الطبيعية، والخروج من نموذج “الريع التقليدي” نحو نموذج “القيمة المضافة والتصنيع الثقيل”. لكنه أيضاً امتحان لقدرة الإدارة الجزائرية على إدارة مشروع طويل الأمد يتطلب تنسيقاً بين المناجم، والنقل، والطاقة، والصناعة، والتمويل، والدبلوماسية الاقتصادية.
لذلك، فإن نجاح المشروع يعتمد على ثلاثة شروط أساسية:
أولاً: إستراتيجية صناعية واضحة تحدد بوضوح نوع المنتجات النهائية المستهدفة، وتمنع الاكتفاء بإنتاج خام مركز ذي قيمة منخفضة.
ثانياً: تطوير البنية التحتية للطاقة والنقل بما يضمن قدرة دائمة على تزويد المصانع بالكهرباء النظيفة ونقل الإنتاج بتكاليف منخفضة.
ثالثاً: إدارة فعّالة للحوكمة والشراكات تمنع أي انحرافات أو تباطؤ في الإنجاز، وتضمن نقل التكنولوجيا لا مجرد استيرادها.
ختاماً إن غارا جبيلات ليس “منجماً يعاد تشغيله”، بل “عنوان مرحلة اقتصادية جديدة”. فإذا نجحت الجزائر في إدارة هذا المشروع بعقلانية وجرأة، فإن السنوات القادمة قد تشهد ولادة صناعة حديد متكاملة تقف إلى جانب المحروقات كعمود اقتصادي ثانٍ.
وإذا أخفقت، فسيبقى المشروع مجرد أمل كبير عالق بين الرمال والوعود. لكن المؤشرات الحالية — من وتيرة الأشغال إلى توسّع الشراكات الصناعية — توحي بأن الجزائر جادة في صناعة مستقبلها، وأن غار جبيلات قد يتحوّل بالفعل إلى نقطة انعطاف حقيقية في مسار الاقتصاد الوطني.

