73797
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 165

بقلم اسماعين تماووست
كان رجال الشرطة الذين أشرفت على قيادتهم من نخبة المحنكين، رجالًا صقلتهم التجارب، وشكّلتهم المحن.
كنا نفهم بعضنا البعض دون الحاجة إلى كلمات، فالمهمة التي حملناها على عاتقنا لم تكن مجرد وظيفة، بل كانت عهدًا قطعناه لحماية الوطن. لم يكن أمامنا خيار سوى المواجهة، فكل خطوة كنا نقدم عليها كانت كالسير فوق حد السيف، وأي خطأ بسيط قد يكلف أرواحًا بريئة.
كنا ندرك تمامًا حجم الكارثة التي صنعها هؤلاء المتمردون المجرمون، أناس تجردوا من إنسانيتهم، وسعوا إلى نشر الكراهية والدمار أينما حلّوا.
لم يكن لديهم هدف سوى تفتيت الوطن، إغراقه في بحر من الدماء والدموع، جرائمهم لم تكن مجرد أفعال عشوائية، بل كانت حربًا مدروسة تستهدف الأبرياء لزرع الرعب في النفوس. ولهذا، لم يكن أمامنا سوى الصمود والتصدي لهم دون كلل، دون راحة، في ليل مظلم ونهار دامٍ.
كان الإرهابيون في حالة هياج، مهووسين بالعنف، غير مستعدين للاستسلام أو المثول أمام العدالة، كانوا يحاربون حتى الرمق الأخير، يدفعهم جنونهم الإجرامي إلى تدمير كل شيء من حولهم.
في مثل هذه الظروف، لم يكن أمامنا خيار سوى الرد بحزم، بنفس القوة التي فرضوها على غيرهم من الضحايا الأبرياء، هؤلاء لم يكونوا مجرد مجرمين، بل خونة، طعنة في ظهر الوطن، عبيدٌ لأجندات خفية تريد تدمير الجزائر من الداخل.
لكننا كنا نعلم أن الحد الفاصل بين العدالة والانتقام دقيقٌ وخطير، لم نكن جلادين، ولم تكن مهمتنا إشاعة الرعب، بل إعادة الأمن وإقرار الحق.
لم يكن مسموحًا لنا أن ننحدر إلى مستواهم، لأن ما ميزنا عن هؤلاء الوحوش كان شرفنا، وإيماننا بالعدالة الحقيقية، ورفضنا لأن نكون مثلهم.
لقد ارتوت هذه الأرض بدماء طاهرة، دماء شهدائنا الذين ناضلوا ضد الاستعمار الفرنسي، ولا يمكن أن نسمح لخونةٍ جدد بأن يدنسوا هذا الإرث بجرائمهم، فالتاريخ شاهد على أن الجزائر لم تركع يومًا، ولن تركع أبدًا، طالما وُجد فيها رجالٌ مستعدون للتضحية بأرواحهم من أجلها.
لكن الحقيقة يجب أن تُقال، يجب على كل مواطن أن يدرك حجم الخطر، أن يفهم أن العدو لم يكن فقط في الجبال يحمل السلاح، بل كان يندس في العقول، يبث سمومه عبر الأفكار قبل أن يضغط على الزناد.
نحن في معركةٍ لم تكن ضد أشخاصٍ فحسب، بل ضد أيديولوجية شيطانية أرادت طمس هويتنا، محو وجودنا، تحويل وطننا إلى ساحة فوضى لا نهاية لها، لم يكن هناك مجال للتخاذل، لأن أي ضعفٍ كان يُحسب ضدنا.
كانت معركتنا معركة وجود. ولم يكن لدينا الحق في الفشل. كنا نحمل وصيةً مقدسة، عهدًا قطعناه أمام أرواح الشهداء: لن تسقط الجزائر، لن تُركع، لن تستسلم أبدًا.
الجزائر لا تزال جريحة، تنزف في صمت، تحمل ندوب الماضي الثقيل الذي خلّفته فرنسا الاستعمارية، ذلك العدو الأزلي الذي لم يكتفِ بما فعله في الأمس البعيد، بل لا يزال، حتى يومنا هذا، يتربّص بنا بأساليبه الخبيثة، يدّعي الحداثة والديمقراطية، بينما يمارس أشد أشكال التدخل والعدوانية في الخفاء.
لقد مارست علينا استعبادًا جسديًا خلال احتلالها، وعندما فشلت في كسر إرادتنا، لجأت إلى محاولة استعبادنا فكريًا وسياسيًا، كم من أمم سقطت تحت وطأة الهيمنة الناعمة بعدما عجز المستعمر عن قهرها بالسلاح؟
فرنسا اليوم لا تظهر عداءها لنا بوضوح، لكنها تدعم كل جهة تناصبنا العداء، تُغذّي الخلافات، وتموّل النزاعات، وتُحيك المؤامرات بأيدٍ غير مباشرة، تُحرك الخيوط من وراء الستار، فتُشعل الفتن بين أبناء الوطن الواحد، لأن المستعمر يعلم أن الشعب المتفرّق لا ينتصر، وأن الدولة المنقسمة على نفسها لا تصمد طويلًا.
أليس هذا امتدادًا للحروب التي خاضها أجدادنا؟ أليس القتال اليوم مختلفًا في أدواته، لكنه متطابق في أهدافه؟ الجزائر ليست مجرد وطن، بل هي مبدأ، وهي قضية، وهي عهدٌ قطعناه على أنفسنا بألا نسمح للتاريخ بأن يُعيد نفسه.
أما الجرح الثاني الذي أصاب بلادنا، فهو الإرهاب الأسود الذي أُريد له أن يكون طعنة قاتلة في قلب الجزائر.
لم يكن وليد الصدفة، بل كان صناعةً متقنةً، تداخلت فيها المصالح، وتورطت فيها أطرافٌ لا ترى في استقرار الجزائر سوى تهديدٍ لنفوذها. قادة هذا الفكر الظلامي، الذين زعموا أنهم يحملون راية الدين، لم يكونوا سوى بيادق تحركها قوى خفية، استغلّت جهلهم، وغذت تطرفهم، حتى صاروا كالأدوات التي لا تعي أنها تُستخدم لهدم أوطانها.
التطرف، أيًا كان مصدره، ليس سوى ارتدادٌ إلى العصور المظلمة، حيث تُقتل العقول قبل أن تُقتل الأجساد، وحيث يُقدّم الجهل قربانًا لأصحاب المصالح، فيتحول الإنسان إلى وقودٍ لحروب لا يفهم حقيقتها.
بصفتي مسؤولًا عن فريقٍ من رجال الشرطة الشجعان، كنتُ على يقينٍ بأن الحل الوحيد لإيقاف هذا النزيف هو المواجهة المستمرة، بلا هوادة.
لم يكن بوسعنا أن نبقى مكتوفي الأيدي، نراقب سقوط الضحايا، ونعدّ خسائرنا، بينما أعداؤنا يتوسّعون.
كنتُ أرى أن مهمتنا ليست فقط القضاء على الإرهاب، بل وأيضًا قطع جذوره، وتجفيف منابعه، وكشف من يقف وراءه. لم يكن صراعنا مجرد معركة أمنية، بل كان صراعًا بين النور والظلام، بين العقل والتعصب، بين الوطن وخيانة الوطن.
لقد سعيتُ إلى بناء علاقة متينة بين جهاز الشرطة والمواطنين، لأنني كنتُ مؤمنًا بأن الأمن لا يتحقق إلا بتكاتف الجميع.
لا يمكن لدولة أن تحارب عدوها في الخارج بينما ظهرها مكشوفٌ في الداخل. المواطن، حين يشعر بأنه جزءٌ من هذه الحرب، يصبح خط الدفاع الأول.
وقد رأيتُ بأمّ عيني كيف أن الكثيرين من أبناء هذا الوطن كانوا مستعدين لتقديم الغالي والنفيس من أجل حماية الجزائر، حتى وإن لم يكن في مقدورهم حمل السلاح.
المعلومة التي يقدمها مواطن بسيط قد تكون أحيانًا أقوى من الرصاصة التي يطلقها الجندي في ساحة المعركة.
كان لا بدّ أن نكون أكثر سرعة، أكثر يقظة، وأكثر حزمًا. فقد كان عدونا لا يعرف الرحمة، فلماذا كنّا سنُظهر له غير ذلك؟ عندما تجد نفسك أمام شخصٍ يقتل الأبرياء بلا سبب، ويفجّر المساجد، ويغتال العلماء، ويذبح الأطفال، كيف تتعامل معه؟ كيف تقنعه بالحوار وهو لا يعرف سوى لغة الدم؟ في مثل هذه الحالات، لا يُجدي سوى الردّ بالمثل، والقضاء عليهم قبل أن يواصلوا جرائمهم. فكما قال أحد الفلاسفة: "إذا كان لا بدّ من الحرب، فلتكن حربًا لا تُبقي لهم فرصة للعودة."
لقد آمنا بأن الجزائر أرضٌ مقدسة، لأنها سُقيت بدماء الشهداء، ولأنها دفنت تحت ترابها رجالًا رفضوا الذلّ والخضوع. كيف لنا أن نخون عهدهم؟ كيف لنا أن نفرّط في الأمانة التي دفعوا حياتهم ثمنًا لها؟ لهذا، كان قرارنا واضحًا: لا مجال لأن نترك هؤلاء المجرمين يعيثون في الأرض فسادًا. لا مفاوضات مع الإرهابيين، لا تسويات، لا حلول وسطى. الجزائر خطٌ أحمر، ومن يتجاوزه، فلن يجد أمامه سوى القوة التي تحميها.
لقد قلتُ لرجالي يومًا: "نحن لسنا مجرد رجال أمن، نحن جنودٌ في معركة مصيرية، إما أن نحفظ هذا الوطن، أو أن نخسر كل شيء." وكنا نعلم أن النصر يتطلب التضحية، فليس هناك نصرٌ بلا ثمن، وليس هناك مجدٌ بلا تضحيات. هذه كانت عقيدتنا، وهذا كان إيماننا.
الجزائر كانت وستظل شامخة، مهما تكالبت عليها المؤامرات، ومهما حاول الأعداء كسرها. فقد علّمنا التاريخ أن الأمم التي تنحني للعواصف، لا تموت، بل تعود أقوى مما كانت..
يتبع...

