2295
1
الصوم تربية وجهاد !!" وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر"
وثيقة تاريخية بالفرنسية من أرشيف جمعية العلماء، عن صوم رمضان إبان الاستعمار (1952).

مصطفى محمد حابس : جينيف / سويسرا
مع كل عام من أعمار البشرية و المسلمين خصوصا، تتوالى الأيام، وتتبدل الفصول، ويبقى رمضان شهرًا متفردًا في أثره، عظيمًا في أسراره، مُشرقًا بنوره على القلوب والعقول، فهو موسم لا يُشبه غيره، تتجلى فيه معاني الروح قبل الجسد، وتُختبر فيه النفوس بين لذة الصبر وحلاوة الإيمان!!
في مقالنا هذا و مع بداية هذا الشهر الفضيل، نتناول كتابًا عريقا يأخذنا في رحلة تتجاوز الأحكام الظاهرة للصيام، لتغوص في أعماق مقاصده، وتكشف عن كنوزه الروحية، فهو ليس امتناعًا عن الطعام والشراب فحسب، بل تطهيرٌ للنفس، وتهذيبٌ للروح، وتحريرٌ للإنسان من أعدائه، من خلال صفحاته يعرف المؤمن كيف يكون رمضان بوابةً إلى التقوى، وساحةً لمجاهدة النفس، ومدرسةً ترتقي فيها القلوب إلى معارج السمو، إنه دعوةٌ للتأمل، وفرصةٌ لإدراك حقيقة الصيام لا كعادة، بل كعبادة تنبع من القلب وتسمو بالروح، بل هو " صوم صبر و جهاد"، كما عنون به أحد معاصرينا أحد انفس كتبه.
طبعا، العنوان المشوق لهذه المقالة ، أي" الصوم تربية وجهاد "، ليس من بنات أفكار صاحب هذه السطور، إذ كما هو معروف لدى الباحث المسلم عموما والجزائري خصوصا، هو عنوان كتاب عريق معروف للعلامة الدكتور محمد عبدالله دراز (1894م-1311/ 1958م-1377)، المصري الأزهري والمعروف بتمكنه أيضا بالكتابة بلغة فولتير (الفرنسية)، حيث درس في جامعة السوربون الباريسية وتعرف أيامها وزامل المفكر الجزائري مالك بن نبي، وقد طلب منه هذا الأخير تقديم كتابه بالفرنسية "الظاهرة القرآنية"، كما هو معلوم للجميع، حيث كتب الدكتور دراز، مقدمته، بتاريخ 15 سبتمبر 1946م، التي أعرب فيها عن إعجابه بمحتويات الكتاب وأفكاره.
مؤلف كتاب " الصوم تربية وجهاد " في سُطور:
العلّامة الأديبُ الباحث محمد عبد الله دراز المولود عام 1894م بقرية «محلة دياي»، محافظة كفر الشيخ بمصر، نشأ و ترعرع في بيتٍ عامرٍ بالتقوى والصلاح، لأب فقيه لغوي معروف، وأتمّ حفظ القرآن الكريم وتجويده وهو دون العشر سنين!!
وفي عام 1916م حصل الشيخ دراز على شهادة العالمية، ثم عمل مدرسًا ﺑ «معهد الإسكندرية الأزهري» حتى عام 1928م، ثمّ محاضرًا في الكليات الأزهرية الناشئة عام 1930م، وقد كان الشيخ دراز محبوبًا بين طلابه وزملائه؛ لِمَا تحلّى به من الأخلاق الكريمة، والتواضع الجم، مع ما شُهِد له به من سعة العلم، وموسوعيّة المعرفة، وصلاح الظّاهر، ونقاء الباطن.
وفي عام 1936 حصل على منحة علمية لدراسة فلسفة الأديان بجامعة السوربون في فرنسا، استغرقت اثنتي عشرة سنة؛ تعرف فيها على مالك بن نبي و بعض رموز العلم و الجهاد من رجال الجزائر الذين يتقنون الفرنسية أحسن من العربية أحيانا، أيامها، ولكن دون أن ينال طول إقامته في فرنسا، مع كثرة احتكاكه بالمستشرقين من أزهريته وثقافته الإسلامية الوسطية الرّصينة..
كتاباته وأبحاثه بالعربية و الفرنسية غيث الظمأ لدى الدّارسين بحق ..
وقد تميزت كتابات الشيخ دراز المتعددة بعمق التحليل، ودقة الاستدلال، وإحكام الاستنتاج، وكان رحمه الله يؤثر البحث الهادئ؛ طال أمده أم قصر؛ لذا كانت كتاباته وأبحاثه غيث الظمأ لدى الدّارسين، بالإضافة لإجادته الكتابة باللغة الفرنسية، ورده على الجرائد الفرنسية وغيرها؛ لبيان حقائق الإسلام وعدله و سماحته !!.
ولم تكن حياة الإمام العلمية بمعزل عن وطنيته و عروبته وقضايا أمته أيام الحقبة الاستعمارية؛ فقد كان لمحاضراته في السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919م باللغة الفرنسية الأثر العظيم في شرح قضية بلاده أمام مُمثلي الدُّول الغربية، كما كان له دور توعوي رائد في مقاومة الاحتلال البريطاني لمصر، وتأييد حركات التحرر العربية الفلسطينية والمغربية والجزائرية.
وفي عام 1958 توفي عالمنا الجليل في لاهور بباكستان أثناء تمثيله لمصر في مؤتمر الثقافة الإسلامية، رحمه الله رحمة واسعة، ونفعنا بعلومه في الدارين.. آمين.
ولعنوان مقالنا هذا " الصوم تربية وجهاد "، قصة القصيرة التالية:
وأنا منهمك في التفكير نهاية هذا الأسبوع ماذا أقول لجاليتنا في خطبة الجمعة بيوم قبيل رمضان لكي لا نكرر ما قيل العام الماضي، وماذا أقول أيضا مساء لطلبتنا و شبابنا في ندوة دعيت إليها لمناقشة موضوع ذي صلة بالصيام أيام الحروب، و ما يتعرض لها أهلنا في فلسطين ببعيد بعنوان:
" رمضان في عهد الاستعمار، جزائر الأمس و غزة اليوم نموذجا"، بالعربية و الفرنسية عن ذات الموضوع أي عن هذا الشهر الفضيل الذي نأمل أن "يتفق" فيه عموم مسلمي أوروبا في إعلان بداية صيامه في نفس اليوم، وحتى لما لا شعوب عالمنا الاسلامي من مشارق الارض الى مغاربها بعيدا عن كابوس التفرقة الذي ينخر أجسام أمتنا مع أهلال رمضان في كل عام، بما فيه جاليتنا المسلمة في الغرب، على تعدد مدارسها و مشاربها، اذ يصادف - و الحمد لله - يوم السبت أول مارس 2025، وهو يوم بداية العطلة الاسبوعية يوم الفاتح من رمضان الفضيل 1446هـ !! بعنوان
"Signification morale du Ramadhan" " الأهمية الأخلاقية لشهر رمضان".
والجزائر اليوم مستقلة على قد الحال ، تقابلها في الضفة الأخرى غزة هاشم، رغم الهدنة المعلنة، لازالت تئن، تحت الظلم والاستعمار تتقاذفها قوى الغدر و البغي في المنطقة، فأحببت أن أقرب المشهد بنظرة تاريخية لشبابنا وهذه الأجيال المعاصرة بإعطاء صورا تقريبية عن بطولات شعوبنا من تراثنا الإسلامي المعاصر في هذا الشهر الفضيل. متسائلا، كيف كان أجدادنا يصومون و يقاومون الاستعمار في الجزائر و دول المغرب الإسلامي و باقي المستعمرات الفرنسية أيامها، رغم قلة ذات اليد لديهم ومشاكل لوجيستية و مادية جمة، فاستوقفني مقال رائع عن رمضان بنكهة خاصة في عهد الاستعمار البغيض لأرض الجزائر، و هذا المقال من مجلة "الشاب المسلم"، الجزائرية والتابعة لجمعية العلماء المسلمين، في أول عددها بتاريخ يوم الجمعة 6 جوان 1952، الموافق لتاريخ 13 رمضان 1371 هـ،
معنى الصوم "مدرسة للتربية وميدان للجهاد" في البلدان المستعمرة، خاصة:
يمكن ترجمة هذا العنوان بـما معناه :" الأهمية الأخلاقية لشهر رمضان"، أو "المعنى الأخلاقي لرمضان"، حيث قدم المقال في الصفحة الثامنة للمجلة بتوقيع "ابن الحكيم"، وهو الاسم الحركي أيامها الذي كان يوقع به مقالاته أستاذنا الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، شفاه الله وعفاه، في مجلة "الشاب المسلم" ( 1952- 1954)، وهو من أقلامها ومؤسسيها، جزاه الله خيرا، حيث كتب يقول ( حفظه الله):
بمناسبة حلول شهر رمضان إرتأينا - في هذا العدد الأول من مجلتنا - أن نوضح لقرائنا الأعزاء "معنى الصيام في الإسلام". ولكننا لن نستطيع أن نفعل ذلك بشكل مقبول و أفضل مما كتبه الدكتور محمد عبدالله دراز، في دراسته الرائعة عن "أخلاق القرآن" والتي نقتبس منها المقطع المرفق أدناه.
و يضيف الدكتور الابراهيمي بقوله: " طبعا الدكتور دراز ليس مجهولاً لدينا نحن (في الجزائر). فهو طالب سابق في جامعة السوربون، وأستاذ في جامعة الأزهر بالقاهرة، ومؤلف، بالإضافة إلى الأعمال المذكورة، فقد كتب مقدمة ممتازة لكتاب "الظاهرة القرآنية" لصديقنا المفكر مالك بن نبي ( ...) وقد سعى الدكتور الدراز دائما إلى الدفاع عن الإسلام ضد أولئك الذين يريدون تشويهه بين قوسين (مثل بعض المستشرقين)، كاشفا للأجيال الجديدة عن نور ديننا الحقيقي، مبينا للجميع أن الإسلام ليس دينًا فحسب، بل هو نظام فلسفي كامل شامل، من خلال الاعتماد على هذا الكنز الذي لا ينضب، اعتني به كتاب الله " القرآن الكريم"، والذي يشكل مصدرنا الرئيسي للنور والحضارة، وفي نفس الوقت باعتباره قانوننا الأساسي غير القابل للتغيير ولا التحوير".
الأهمية الأخلاقية لوصفة الصيام في شهر القرآن !!
ثم سرد الدكتور طالب الابراهيمي، هذه القطوف عن مدرسة الصيام في شهر القرآن، من مقال الدكتور دراز ، منها قوله :"
بقدوم اول أيام رمضان، سوف يشهد المسلم نوعاً من الألم الجسدي الذي يحدث أثناء أداء واجب الصيام، لكنه ليس جزءاً منه. فهو بطبيعته لا يمكن أن يكون موضوعا لالتزام؛ لأن، بحكم التعريف، كل الألم هو صبر وليس عمل (..) ولذلك جاءت وصفة الصيام بالنسبة إليه على هذا النحو: "أن تجعل نفسك تعاني من الجوع والعطش بالامتناع عن الأكل والشرب في هذه الساعات المحددة" (...) من الواضح أن المعاناة الجسدية لا تدخل في الحساب هنا كجزء من الواجب، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. في الواقع، فإن الواجب يقع في مكان آخر؛ لأن الجهد الذي نبذله هنا هو في الأساس جهد أخلاقي. إنها أولاً وقبل كل شيء نوع من التدريب المفروض على الإرادة البشرية للحصول منها على انتظام معين، وثبات معين في خضوعها للإرادة الإلهية!!
ساعات الصيام نظام غذائي متوازن مدة شهر كل عام، دون أن يؤثر على كمية أو نوعية الطعام:
ولتسهيل هذه المهمة - يقول الدكتور دراز- : (...) فإن الممارسة المقترحة للصيام بسيطة للغاية. هو نظام غذائي يتم إتباعه لمدة شهر كل عام، وهو نظام ينظم ساعات الصيام دون أن يؤثر على كمية أو نوعية الطعام، " من الفجر لا تأكل شيئاً طيلة اليوم؛ بعد غروب الشمس يصبح كل شيء مسموحا مرة أخرى. وتنطبق القواعد نفسها على العلاقات الجنسية"... وبالتالي، بالنسبة لنفس الفعل، سيتلقى الانسان تعليمات متعارضة مرتين، في اليوم: الأولى بالامتناع، والثانية بالتصرف. فهل سيتحمل المسلم عناء تنفيذ هذين الأمرين في نطاقها الخاص، والبدء في نفس التمرين مرة أخرى خلال شهر كامل، يا له من استرخاء للإرادة! لأنه بالطاعة يصبح الإنسان مطيعًا؛ وبفضل القيادة يصبح الإنسان حرا بل سيدًا حقيقيًا. علاوة على ذلك، لا يهدف هذا التمرين إلى أن يقتصر على الكائن المادي الذي ينطبق عليه؛ فهو يستهدف سلوكاتنا بأكملها".
مستطردا بقوله: " إن الأهمية الأخلاقية للصيام، كما عرفناها للتو، لا تنبع فقط من الإطار العام للتعاليم القرآنية؛ وقد ورد ذلك في نفس النص الذي يأمر بهذه الممارسة: " يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". ويقول لنا أهل العلم: « أن الله تعالى يكافئ الصائمين بلا حدٍّ؛ وأن الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان »، أو يقول لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) : «الصوم جنة». لا يوجد أي إشارة في هذه النصوص، ولا في أي مكان آخر أعلمه، إلى أن المعاناة الجسدية تشكل واجبًا أو إحدى العواقب التي يشير إليها التشريع الرباني !!
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع و... وبشر الصابرين :
ولا ينبغي للإنسان أن يتصرف بالصبر والكرامة فحسب، كما هو الحال في وجود حدث مؤسف لا مفر منه يتحدث عنه القرآن، في سورة[ البقرة، الآية : 155] :" ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
و النبي (صلى الله عليه وسلم) من جهته يبشر الذين يعانون من الألم، في أي ما موضع، أن لهم أجرا عظيما، لكن هذه فرصة ممتازة يجب أن نغتنمها للقيام بتأملات صحية حول طبيعتنا وعلاقاتنا مع الله ومع الناس !!
مبينا بقوله: " بأي تواضع يجب علينا أن ننظر إلى ضعفنا في ظل الضرورات التي تثقل أجسادنا! كم هو عظيم وصالح أن نعترف بأن الله أعطانا هذا النور. و أخيرا، دعونا نفكر في أولئك المخلوقات من بني البشر الذين يعانون في حياتهم العادية دون أن يضطروا إلى ذلك، سواء بسبب الالتزامات الأخلاقية أو بسبب الظروف العالمية للطبيعة، أو بسبب الحرمان في بعض بلداننا المستعمرة. إن مساعدة المحتاجين في هذه المناطق، والتي يوصى بها الإسلام بشكل خاص خلال شهر الصوم والتي تصبح التزامًا رسميًا في اليوم التالي للصوم، سوى نتيجة منطقية".
هذا في عمومه باختصار قطوف لترجمة ما نشرته جريدة الشاب المسلم أيامه من عام 1952، بالفرنسية في عددها الأول، بقلم الدكتور محمد عبدالله دراز، و الذي طبع فيما بعد بالعربية، في كتاب غاية في الأهمية، بعنوان، "الصوم تربية وجهاد".
!!"الصوم تربية وجهاد"، كتابٌ قيّم لا غنى لمسلمٍ عن فوائده
و "الصوم تربية وجهاد" كتابٌ قيّم قديم يقع في 87 صفحة نشر في خمسينات القرن الماضي (1957)، أعادت طباعته بعد ذلك العديد من دور النشر في 90 صفحة بتقديمات لشيوخ الازهر و آخرين، ويتحدث الكتاب عن الصوم كمدرسة للتربية وميدان للجهاد، وهو مجموعة من البحوث التحليلية الممتعة، لا غنى لمثقف عنها، ومن الموضوعات و الفصول التي تضمنها الكتاب : "شريعة الصيام"، "الصوم والمعاني الإيجابية"، "الصوم والمظهر الجماعي"، "الصوم والمعاني الإنسانية"، "كتاب الله"، "ليلة القدر"، "الأعياد الإسلامية"، و "وداعا".
كتاب "الصوم تربية وجهاد" بهذه الكلمات القوية (تربية وجهاد)، عَنوَنَ الدكتور دراز كتابه القيّم؛ مُبلورًا جوهر الصوم وغايته في كلمة جامعة؛ إذ الصوم ليس كفًّا عن إشباع شهوتي البطن والفرج وقتًا من الزمان فحسب؛ بل هو مجاهدة للنفس، وتهذيب للطبع، وتغذية إيمانية للرُّوح". ويعدّ الكتاب مجموعة من البحوث التحليلية النافعة مما لا غنى لمسلمٍ عن معرفتها، قدَّمها الدكتور دراز في أسلوب إبداعيّ؛ حواريّ حِينًا، وأدبيّ أحيانًا أخرى".
إنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر !!
ورغم أن صفحات الكتاب لم تتجاوز المائة؛ إلا أن الكاتب بما حباه الله من قوة بيانٍ استطاع أن يُطوِّف بالقارئ بين معانٍ مُلهِمَةٍ، وموضوعات مُهمَّةٍ؛ نُوردُها مُجملةً في النِّقاط الآتية:
على واحدة من صفحات الكتاب نقرأ، الجزء الثاني من عنوان مقالنا : " وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر"، بهذه الكلمات يشير الأستاذ الدكتور دراز في كتابه "الصوم تربية وجهاد" إلى سعة المعاني التي يحملها الصوم، وتشعب تأثيراته في مشاعر المسلم وتفكيره وسلوكه.
في البداية يوجه لنا صاحب الكتاب الدعوة لنباشر عملنا في رمضان شهر الصوم بالإقلاع عن كل ظلم، والتوبة والإنابة من كل إثم. فإذا أتممنا هذه الخطوة السلبية بالتنزه والتطهر، بقي علينا أن نتبعها بخطوة إيجابية بالتجميل والتكمل، والبناء والإنشاء. فبعد أن تُفرغ قلوبنا من ظلمات الشهوة، يجب أن نملأها بنور الحكمة !!
بعدها نمضي مع الدكتور دراز في تقصيه غايات الصوم، إذ يتوقف أولاً للتنبيه إلى أن الله عز وجل حين قال لنا: "كُتب عليكم الصيام" أتبعتها بالقول: "لعلكم تتقون". فجعل الصوم اختبارا روحيا، وتجربة خلقية، وأراد منه أن يكون الوسيلة إلى نيل صفة المتقين، والأداة في اكتساب ملكة التقوى!!
فلئن علمنا الصوم أن نصبر اليوم طائعين مختارين في وقت الأمن والرخاء، فنحن غدا أقدر على الصبر والمصابرة في البأساء والضراء؛ ولئن علمنا الصوم كيف ننتصر اليوم على أنفسنا، فلقد أصبحنا به أجدر أن ننتصر غدا على عدونا. و تلك عاقبة التقوى التي أراد الله أن يرشحنا لها بالصيام، لكن ذلك الهدف إنما يقوم في منتصف الطريق، الذي رسمه الله للصائمين، وإن في نهاية الطريق أهدافا أخرى أهم وأعظم و أجل !!.
الشأن الأعظم في الصوم أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحا لمسالك الروح !!
فليس الشأن كل الشأن في أن يغلق الصائم منافذ حسه، ويُسكت صوت الهوى في نفسه، فذلك إنما يمثل إغلاق أبواب النيران، ولكن الشأن الأعظم أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحا لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينا لكلمة الحق والهدى. فتلك هي مفاتيح أبواب الجنان. و الإسلام لما جعل شهر الصوم موسما لانطلاق الروح من عقالها، فتح فيها للأرواح بابين تتدفق منهما: بابا إنسانيا وبابا ربانيا!!.
فأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الإنساني فذلك أنه أرشدنا إلى أن يكون زهدنا في الطعام والشراب ليس قبضا وإمساكا بالحفظ والادخار، بل بسطا وسخاءً بالبذل والإيثار. فالصائم مدعو ليطعم الجائع، ويسقي الظمآن.. كيف لا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم "كان أجود ما يكون في رمضان، حتَّى إنه كان أجود من الريح المرسلة".
وأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الرباني فذلك أن الإسلام فتح فيه للطاعة مسالك مسلوكة، ورسم لها سبلاً ذللاً؛ فيها تسبيح وتحميد، وتكبير وتمجيد، وفيها تضرع وابتهال، ودعاء وسؤال، وفيها ركوع وسجود، وقيام وتشمير ونهوض، فإنه "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه". وذروة الأمر وسنامه في هذا الجانب الرباني، إنما هو في مناجاة الله بكلامه وفي دراسة كتابه، فتتأكد الصلة الوثيقة بين رمضان وبين القرآن، التي نتبينها في قوله تعالى:
[ البقرة: 185] - {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
وقفات عابرة في بعض أهم فصول هذا الكتاب الملهم :
• عَرَّفَ المُؤلِّف في البداية بفضل شهر رمضان الكريم، وأثره النافع في النفوس المؤمنة، ومكانته بين شهور السَّنة؛ ثم تحدث عن استقباله بلسان الوَجْد والاشتياق.
فقال: «أقبل إذًا هلال رمضان، ليكن مطلعك على الإسلام من أفُقِ العزة والنصر، وعلى المسلمين من فلك السؤدد والمجد، وليكن مقدمك على البلاد أمنًا ورخاءً ونعمة، وعلى العباد يُمنًا وإخاءً ورحمة»
• ثم تحدث عن الهدف من الصوم، والتأهب لاغتنام فرصته، والاستعداد لبذل تضحيته، والإقبال عليه بإيمان واعتقاد، وعبادة وانقياد.
فقال: «فاعرف إذًا ماذا أراد ربك من صومك؟، واعمل على أن تكون نيتك وفق إرادته، وليكن أول ما تذكره من ذلك أنّ الله تعالى الرحيم لا تعنيه من صومك حرارتُه ومرارتُه، ولا يناله من جسمك ذبولةٌ وهزالةٌ ... إنّ الله عز وجل حين قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} لم يقل: لعلكم تتألمون، أو تصِحُّون، أو تقتصدون، وإنما قال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)} [البقرة]، فأراد من الصوم أن يكون وسيلتك لنيل صفة المتقين، وأداتك في اكتساب ملكة التقوى».
• وبيَّن أن لهذه الفريضة طاقة إيجابية، ومظاهر اجتماعية وإنسانية، ودعا كلَّ ذي لبٍ إلى تدبر مقاصدها، ووعي دروسها، ونيل جائزتها.
فقال: «إني أدعوكم إلى التفكير مليًّا في سر هذا التشريع، لتعلموا أنه تشريع مثاليّ، يخلق المجتمع المثاليّ، انظر إلى هذه التربية العملية على الوحدة والمُساواة، مرتين تتنازل الأمة كلها جملة واحدة للتذوق مع المحرومين طعم العوز والحرمان، ثم تصعد الأمة كلها أخذًا بعضها بأيدى بعض لترتفع فوق مستوى العوز والحرمان، وتتذوق مع المتذوقين طعم الإرتقاء الذي يليق بالإنسان، وبهذا وحده يكون يوم العيد، يوم بهجة وسرور، فهل أعيادنا حقًّا أعياد بهجة وسرور؟»
• ثم ألقى الضوءَ على ما حدث في هذا الشّهر الكريم من أحداث عِظام، ووقائع جِسام، فرقت بين الباطل والحقّ، والنّفاق والصدق.
فقال: «في هذا الشهر الكريم غزوة بدر الكبرى، وفي هذا الشهر فتح مكة، الذي أتمَّ الله فيه النصر للإيمان والحق، وأعلن فيه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه سياسة الحبّ والصّفاء والسّلام»
• بعد ذلك تحدَّث عن ليلة القدر، ومنزلتها، وفضلها، وتشريف رمضان بها.
فقال: «كانت الإيحاءة القرآنية الأولى إذا هي باكورة هذه النعمة العُظمى، وارتبطت ذكراها بتاريخ نزولها ... إنها ليست دورة فلكيّة آليّة، إنها منحة ربانية يبارك الله بها، الليلة التي يشاء إنزال الملائكة والروح فيها»
• ثم كان ختام الحديث مع عنوان: «وداعًا»، الذي ودَّع فيه المُؤلِّف شهر الصوم بوصايا نافعة، وكلمات ماتعة، منها قوله:
«مهلًا مهلًا رمضان، ما أعجلك في ارتحالك عنَّا أيها الضيف الكريم، هلَّا أَمتعتنا بك فترة أخرى، يتدارك فيها المقصرون تقصيرهم، ويزيد فيها المُشمرون تشميرهم؟!»
وفي الحقيقة من يقرأ هذه السّطور التي يختم بها المؤلف الكتاب، يجد أنها ليست مجرد كلمات يبثّ فيها حُزنه على فِراق أيام رمضان المُباركات، بقدر ما يقرأ بينها حثّه على التَّأهب لاستقباله كل عام بعلو الهمَّة، وشكر النّعمة، وقِراه بما يناسب قدره وكرمه وسرعة انقضائه؛ فهو الضيف الكريم العجول.
ومن هذه السطور قوله: «ما أكثر الذين اعتذروا إليك بمشاغلهم ومتاعبهم، وما أكثر الذين تعللوا لك بضعفهم ومرضهم .. ولكنه مرض القلوب، وصغر النفوس، وخور العزائم، لقد خانتهم رجولتهم فلم يحاولوا أن يقتحموا العقبة، بل فرُّوا من الميدان قبل الملحمة، وحكَموا على أنفسهم مُقدَّمًا قَبل التّجربة»
• وكانت آخر كلمات الوداع مع زكاة الفطر، ومما قاله الدكتور دراز فيها:
"هذا الضيف الكريم - يقصد به رمضان- لا يُودَّع بمجرد التَّحيات والتّسليمات، ولكن يجهز بالتّحَف والطُّرْفِ ويزود بالهدايا والعطايا، أتدرون ما تحفة ضيفكم؟ زكاة فطركم، إنها طهرة صومكم، وزكاة نفوسكم، وصلاح أمركم"
وبعد هذا العرض الموجز؛ نرجو أن نكون قد وُفِّقنا لإعطاء القارئ الكريم تصوُّرًا عامًّا عن الكتاب ومؤلفه، يدعوه إلى قراءته، ويعينه على فهم الكتاب، وأسلوب كاتبه.. داعين الله أن يوفقنا للصيام و القيام، وَصَلَّىٰ اللَّه وَسَلَّمَ وبارَكَ علىٰ سَيِّدِنَا ومَولَانَا مُحَمَّد، والحَمْدُ للَّه ربِّ العَالَمِينَ.