42544
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة "166"

بقلم اسماعين تماووست
لكن، كيف يمكن خوض حربٍ كهذه دون أن نترك ندوبًا في أرواحنا؟ كيف يمكن للمرء أن يواجه هذا الظلام دون أن يلمسه شيء من عتمته؟ كنا ندرك أن الطريق أمامنا طويل، وأن المعركة لن تنتهي بإيقاف مجموعة من الإرهابيين أو تفكيك خلية نائمة، بل كانت معركة وعي، معركة على المستقبل نفسه، لم يكن أمامنا سوى المضي قدمًا، دون أن نسمح للشك بالتسلل إلى نفوسنا، لأن التردد في مثل هذه الظروف يعني الهزيمة قبل بدء القتال.
من الواضح أنها تجاوزت، بطريقة أو بأخرى، بعض القواعد. ولكن أي قواعد؟ تلك التي لا يدركها إلا الرجال الذين واجهوا الرعب بأعينهم، الذين رأوا الظلام يحاول ابتلاع الوطن، والذين أدركوا أن السبيل الوحيد للنجاة هو استعادة السيطرة، إعادة فرض النظام، وضمان الأمن في جميع أنحاء البلاد، هذا هو الثمن الوحيد الذي كنا على استعداد لدفعه لحماية مستقبل أمتنا من كارثة محدقة، كارثة لا أستطيع حتى التفكير في ذكرها.
كارثة زحفت في الخفاء، كما يزحف الفيروس القاتل داخل جسد سليم، تفسد العقول وتغسل النفوس، تجعل المواطنين المخلصين أدوات لخدمة عدو مجهول. لم يكن أمامنا خيار سوى المواجهة. لم تكن لدينا رفاهية التراجع، لم نخش الموت، لأنه كان أقل فظاعة من رؤية وطننا يُسرق من بين أيدينا.
كنا نخوض معركة لا مجال فيها للشك أو التردد، معركة تتطلب يقظة دائمة وولاءً مطلقًا للواجب، مجموعتي من رجال الشرطة كانت تمثل الأمل الأخير لشعب مخلص ينتظر أن تتحقق العدالة، أن يضرب القانون بيد من حديد. لكن المهمة لم تكن سهلة.
انضم إلينا فريق من قوات الكوماندوز المدربة، رجال اعتادوا على القتال في ظروف أشد قسوة. ومع ذلك، كنت أدرك أنني، بصفتي ضابط شرطة، قد دخلت عالمًا جديدًا، عالمًا أكثر خطورة، حيث لا توجد ضمانات، وحيث يكون الخطأ الأول هو الأخير.
كانت مهمتنا واضحة: ملاحقة مجرمين فارين، رجال بلا وجوه، يختبئون في الجبال والغابات، يتحركون بين ثلاث ولايات رئيسية – الجزائر، البليدة، والمدية. عادةً، تُسند مثل هذه العمليات إلى الجيش، نظراً لخبرته في مثل هذه المواجهات. لكن هذه المرة، كان علينا نحن رجال الشرطة أن نتحمل هذا العبء، أن نقود هذه المعركة بأنفسنا، أن نواجه عدوًا يعرف كيف يختبئ، كيف يضرب، وكيف يفرّ قبل أن نتمكن من الإمساك به.
كانت السرية المطلقة أمرًا لا نقاش فيه، فهمت منذ اللحظة الأولى أن أي خطأ قد يكون قاتلًا، ليس فقط بالنسبة لي، ولكن بالنسبة للفريق بأكمله. كنت أعتمد على مصادر موثوقة، على معلومات دقيقة، وعلى نصائح نائب رئيس الأمن لولاية البليدة، الذي كان يملك خبرة واسعة في التعامل مع مثل هذه التهديدات. بفضل التخطيط المحكم، استطعنا قلب المعادلة في بعض العمليات، حوّلنا الفوضى إلى نظام، واليأس إلى انتصار.
في الميدان، لم يكن هناك مكان للخوف. لم يكن هناك وقت للتردد. كنا نعرف أن أعداءنا يراقبوننا كما نراقبهم، يترصدون أخطاءنا كما نترصد تحركاتهم. لكننا لم نكن نمنحهم الفرصة. كنا مستعدين لكل احتمال، لكل فخ، لكل مواجهة محتملة.
لقد حانت ساعة الحسم. لا مكان للهروب بعد اليوم. القانون سيأخذ مجراه، والعدالة ستُنفّذ، شاء من شاء وأبى من أبى.
في كل مهمة كنا نخطو نحو المجهول، ندرك أن الخطر يترصدنا في كل زاوية، وأن لحظة واحدة من التهاون قد تكون كفيلة بإنهاء كل شيء. لم يكن لدينا سلاح أقوى من شجاعتنا وحنكتنا، ولا درع أقوى من إيماننا بعدالة مهمتنا. لم يكن أعداؤنا مجرد مجرمين فارّين، بل كانوا أشباحًا تتحرك في الظلام، كيانات لا وجه لها ولا رحمة، تعرف كيف تختبئ، وكيف تضرب دون أن تترك أثرًا.
كنا نعيش في حالة تأهب دائمة، وندرك أن أي زلة قد تُكلفنا حياتنا، لكننا كنا مستعدين للمجازفة، لأننا لم نخض هذه الحرب دفاعًا عن أنفسنا فحسب، بل عن وطن بأكمله، عن شعب فقد الطمأنينة وأصبح يخشى حتى ظله.
لقد كافحنا طويلاً لفرض النظام، لمواجهة العنف الذي حصد أرواح الأبرياء بلا رحمة. لم يكن مجرد عمل نقوم به، بل كان التزامًا أخلاقيًا، معركة لا تقبل أنصاف الحلول. كنتُ أشعر بذلك أكثر من أي شخص آخر، لأنني كنت في قلب العاصفة، أتحمل مسؤولية لا يمكن التفريط بها. كنتُ أعيش تحت ضغط هائل، محاصرًا بين التعليمات الصارمة التي تُلقى عليّ وبين الواقع المتوحش الذي يفرض نفسه بلا رحمة. كنتُ أطرح الأسئلة، لكن الإجابات كانت قليلة، والشكوك كثيرة.
ثم جاءت المهمة التي غيرت كل شيء. في البداية، بدت وكأنها عملية عادية، مجرد إجراء روتيني بلا تعقيدات واضحة، لكنها كانت خدعة بصرية، ستارًا يخفي خلفه معركة حقيقية، حربًا غير معلنة حيث تتحدد المصائر في لحظات خاطفة. كنتُ أعلم أن ما نواجهه ليس مجرد مجموعة من الخارجين عن القانون، بل شبكة خفية، متغلغلة كخلايا سرطانية، تتغذى على الفوضى وتنمو في الظلام.
عندما تلقيتُ الأوامر، شعرتُ بعبء ثقيل يجثم على صدري. لم يكن مجرد تنفيذ لمهمة، بل كان امتحانًا لكل ما تعلمته طوال سنوات خدمتي. كنتُ أمام قرار لا رجعة فيه، وعليّ أن أكون مستعدًا لما هو قادم. لم يكن لدي رفاهية التردد، فالوقت كان عدونا الأول، والخطأ الأول سيكون الأخير.
وضعتُ خطتي بعناية، متيقنًا أن نجاحها يعتمد على الدقة والسرعة. كنتُ بحاجة إلى رجال يعرفون معنى الولاء، رجال مستعدين للذهاب إلى أقصى الحدود لإنجاز المهمة. كنتُ أعلم أن هذه المواجهة لن تكون كسابقاتها، وأننا مقبلون على اختبار صعب، اختبار سيحدد من منا سينجو ومن سيصبح مجرد ذكرى.
كنا نعلم أننا نتعامل مع عدو شرس، لا يخضع لقوانين الحرب التقليدية، ولا يتوانى عن استغلال كل نقطة ضعف لصالحه. كانت المواجهة أشبه برقصة مع الموت، حيث كل خطوة قد تكون الأخيرة. ومع ذلك، لم نتراجع. لم يكن التراجع خيارًا. كنا نحن من يرسم ملامح المعركة، نحن من يفرض قواعد اللعبة.
الليل كان صديقنا وعدونا في آن واحد. كنا نتحرك في الظلال، نصغي لكل همسة، نترقب كل حركة. لم يكن هناك مجال للخطأ، لأن الخطأ في عالمنا يعني الموت. كنتُ أراقب رجالي، أرى في أعينهم الإصرار ذاته، الرغبة ذاتها في تحقيق العدالة. كنا أكثر من مجرد فريق، كنا كتلة واحدة، قلبًا ينبض بإيقاع واحد، عقلًا يفكر في اتجاه واحد: النجاح، ولا شيء غير النجاح.
كل شيء كان محسوبًا بدقة، ولكن في مثل هذه المهام، لا تسير الأمور دائمًا كما نخطط لها. المفاجآت كانت حتمية، وكان علينا أن نكون مستعدين لها. كنتُ أعلم أن اللحظة الحاسمة تقترب، وأن الصدام بات وشيكًا. كنا على أعتاب المواجهة الأخيرة، حيث لا مجال للهروب، ولا مكان للتراجع.
لقد كانت معركة بين النظام والفوضى، بين الحق والباطل، بين الأمل واليأس. وكنا نحن الحدّ الفاصل بينهما. إما أن ننتصر، أو أن نترك الفوضى تبتلع كل شيء. لكننا لم نكن لنسمح بذلك. كنا هنا لسبب واحد: فرض القانون، وإعادة العدالة إلى مكانها، مهما كان الثمن.
هذه المرة، لن يفلت أحد.
يتبع...

