252

0

الجزائر ليست قابلة للتفكيك: وهمُ الانفصال وسقوط رهانات الخارج أمام ذاكرة الدم والوحدة

بقلم الحاج بن معمر 

في خضمّ التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، ومع تصاعد محاولات إعادة تشكيل خرائط النفوذ عبر أدوات ناعمة وخشنة، تطفو على السطح بين الفينة والأخرى أصوات نشاز تحاول عبثًا المساس بوحدة الدول المتجذّرة تاريخيًا، وفي مقدمتها الجزائر، هذه الدولة التي لم تكن يومًا كيانًا طارئًا أو وليد تسويات استعمارية عابرة، بل كانت ولا تزال مشروع أمة صاغته التضحيات وعمّدته الدماء.

لقد بلغ ببعض هذه الأصوات حدّ الهذيان السياسي والعمى التاريخي، حين تجرأت على رفع شعارات الانفصال والاستقلال المزعوم، متستّرة بخطاب “الهوية” و”المظلومية”، بينما الحقيقة العارية تكشف ارتباطها العضوي بأجندات خارجية، وعلى رأسها باريس التي لم تتخلّ يومًا عن نزعتها الوصائية تجاه مستعمرتها السابقة، فوفّرت الحماية والدعم الإعلامي والسياسي لهذه الكيانات الهامشية، وغذّت نزعاتها منذ سنوات، لا حبًا في التعدد ولا دفاعًا عن الحقوق، بل استثمارًا في الفوضى وتصفية حسابات تاريخية لم تُغلق بعد.

إن المتأمل في مسار هذه الجماعات يدرك سريعًا أنها لم تنشأ من رحم معاناة حقيقية ولا من مطالب شعبية جامعة، بل من غرف مظلمة، حيث تُصاغ الخطابات وتُموَّل الحملات ويُعاد تدوير الأساطير، ليُقدَّم للداخل والخارج وهمُ “قضية” لا وجود لها إلا في بيانات ممجوجة ومنصات رقمية معزولة عن نبض الشارع الجزائري.

لقد ارتضى هؤلاء، عن وعي أو جهل، أن يتنكروا لوطنهم وبني جلدتهم، وأن يتحولوا إلى أدوات في أيدي أجهزة استخبارات أجنبية، فرنسية وصهيونية، تُستعمل عند الحاجة ثم يُلقى بها في مزابل التاريخ، وهو المصير ذاته الذي لقيه كل العملاء والخونة عبر العصور، غير آبهين بما يجرّونه من أوهام على بعض المغفلين والمغرَّر بهم الذين يُساقون بشعارات براقة تخفي وراءها مشاريع تفتيت وتمزيق.

إن الجزائر، التي رُسمت حدودها بالدم والأشلاء، لم تُبنَ على منطق الغلبة العابرة ولا على صفقات سياسية آنية، بل تشكّلت عبر مسار طويل من المقاومة والجهاد، من الأمير عبد القادر إلى ثورة نوفمبر المجيدة، مرورًا بكل أشكال الرفض الشعبي للهيمنة والطمس، وفي قلب هذا التاريخ تقف مناطق كجرجرة المجاهدة، برجالها ونسائها، شاهدًا حيًا على أن هذه الأرض لم تكن يومًا قابلة للانكسار أو القسمة، وأن أبناءها كانوا دائمًا في طليعة الصفوف دفاعًا عن وحدة الوطن وسيادته.

ومن العبث، بل من الوقاحة التاريخية، الإدعاء بأن هذه المناطق أو غيرها يمكن أن تكون حاضنة لمشاريع انفصالية، فهذه الشرذمة المعزولة لا تمثل إلا نفسها، ولا تعكس وجدان السكان ولا تطلعاتهم، بل تتغذى على تضخيم الإختلاف الطبيعي وتحويله إلى قطيعة مصطنعة، في تجاهل تام لحقيقة أن التنوع الثقافي واللغوي في الجزائر كان دائمًا مصدر ثراء وقوة، لا مدخلًا للتفكك.

إن الذين يحاولون استنساخ تجارب فاشلة من أقطار أخرى، أو تصدير أزماتهم الداخلية إلينا، يراهنون على صناعة “خاصرة رخوة” عبر اختلاق قضايا أقليات، ينسون أو يتناسون أن الجزائر ليست نتاج سايكس–بيكو، ولا دولة رُسمت حدودها في غرف مغلقة دون إرادة أهلها، ولم تؤجّر أرضها أو مدينة من مدنها لضمان دوام عرش أو ملك، بل هي حصيلة جهاد دام 132 سنة، ومخاض عسير واجه فيه شعب أعزل واحدة من أعتى القوى الاستعمارية، وقدّم ملايين الشهداء من كل المكونات، في كل شبر من ترابه، ليبقى هذا الوطن واحدًا موحَّدًا موحِّدًا، لا يقبل المساومة ولا يخضع للابتزاز.

إن الخطاب الانفصالي، مهما حاول التجمّل بلغة الحقوق، يبقى في جوهره عدوانًا على التاريخ المشترك، وطعنًا في ذاكرة جماعية بُنيت على التضامن والكفاح، وهو خطاب يتغذى على تضليل الشباب واستغلال الإحباطات الاجتماعية، بدل السعي إلى معالجتها في إطار الدولة الوطنية الجامعة. ولعل أخطر ما في هذه المحاولات هو رهانها على الزمن، وعلى إحداث تراكم دعائي يخلق واقعًا افتراضيًا يُقدَّم لاحقًا كحقيقة سياسية، غير أن التجربة أثبتت أن الشعوب التي دفعت ثمن حريتها غاليًا لا تنخدع طويلًا، وأن الوعي الجمعي الجزائري، مهما تعرّض للتشويش، يملك من المناعة ما يجعله يفرّق بين المطالب المشروعة التي تُناقش داخل البيت الوطني، وبين المشاريع التخريبية التي تُدار من الخارج.

إن الدفاع عن وحدة الجزائر لا يعني إنكار التحديات ولا تكميم الأفواه، بل يعني أولًا تحصين النقاش الوطني من الاختراق، وقطع الطريق أمام من يريد تحويل الاختلاف إلى صراع، والهوية إلى سلاح، والتاريخ إلى أداة ابتزاز.

فالجزائر التي صمدت أمام آلة استعمارية شرسة، وواجهت محاولات المسخ والتقسيم، قادرة اليوم، بوعي شعبها ومؤسساتها، على إفشال كل مخططات التفتيت، وعلى إعادة توجيه البوصلة نحو البناء والتنمية والعدالة الاجتماعية، في إطاردولة قوية عادلة، تحتضن كل أبنائها دون تمييز، وتحمي تنوعهم ضمن وحدة لا تتجزأ.

وفي النهاية، يبقى الرهان الحقيقي ليس على إسكات الأصوات الهامشية، بل على تجديد العقد الوطني، وتعميق الثقة بين الدولة والمجتمع، وإغلاق كل المنافذ التي يتسلل منها دعاة الفتنة، حتى تظل الجزائر، كما كانت دائمًا، عصيّة على الانكسار، منيعة أمام المؤامرات، وماضية بثبات في طريقها كدولة ذات سيادة، صنعت تاريخها بدماء أبنائها، ولن تسمح لأحد أن يعبث بمستقبلها.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services