515526
0
مذكرت شاهد على سنوات الجمر الحلقة 163

بقلم اسماعين تماووست
في خضم هذه المرحلة العصيبة، التي كانت أشبه باختبارٍ للوجود، وجدنا أنفسنا في قلب معركة بين الحياة والموت، بين الوطن والأفكار المظلمة التي حاولت اقتناصه في الظلام. لم تكن هذه المعركة مجرد صراع على الأرض أو على السلطة، بل كانت اختبارًا لجوهر الهوية، لم تكن تلك اللحظة مجرد انعكاس لواقع سياسي أو أمني، بل كانت أزمة وجود، تنسج خيوطها من زمن طويل، من آلام الماضي، ومن دماء الأجداد، التي لم تجف بعد، وحلمٍ مؤجل بالحرية.
الإرهاب الذي حاول فرض نفسه بآيديولوجية مغلفة بالدين والعدالة، لم يكن سوى تجسيدٍ لجنون الإنسان الذي يحاول خلق واقع موازٍ، واقع قائم على الخوف والدم، كان هذا الإرهاب أشبه بتشويهٍ لفطرة الإنسان، محاولة لتمزيق النسق الاجتماعي، وتحويل الحياة إلى سلسلة من القرارات العمياء التي لا تستند إلى العقل أو الحكمة.
العدو، الذي ظهر لنا بوجوه متعددة، كان في النهاية مجرد ظلالٍ يسعى لنشر الضياع، كان مجهولًا في ملامحه، لكنه حاضر في كل التفاصيل الصغيرة التي تلون واقعنا المرهق، ليخلق عالمًا لا مكان فيه للسلام أو للأمان.
لكن الصراع لم يكن مقتصرًا على جبهات القتال وحدها. كان هذا الصراع أعمق وأكبر؛ فقد كان معركة داخل العقول والقلوب. فالإرهاب لم يكتفِ بالسطوة على الأرض، بل سعى جاهدًا لاحتلال الوعي الجماعي، لتغيير مفاهيم الحق والباطل، والجيد والسيئ. كان يريد أن يزرع الشك في قلوبنا، ليقنعنا بأن الظلام هو الأفق الوحيد. لكن في الحقيقة، كانت تلك الساعات الطويلة التي قضيناها في مواجهة هذا الفكر، بمثابة درس فلسفي عميق: هل ننحني أمام هذا الواقع، أم نقاومه، مهما كانت التضحيات؟
هنا تكمن معركة الوجود نفسها، في اللحظة التي يواجه فيها الإنسان احتمالات الخوف، والخذلان، والشعور بالعجز. كانت الجزائر، في هذه اللحظة، ليست مجرد قطعة أرض، بل كانت تجسد مفهوم الوطن الذي لا يُمَس.
المقاومة لم تكن مجرد قتال، بل كانت إرادة وجود، كانت لحظة يُعاد فيها تعريف معنى الوطنية والكرامة، كان الشعب الجزائري، في صموده، يصرخ في وجه هذا الواقع المظلم: إن الوطن هو الفكرة التي لا يمكن قتلها، والهوية التي لا يمكن تهشيمها.
في الوقت نفسه، كان لزامًا على الجميع أن يختاروا مواقفهم: إما أن يكونوا جزءًا من هذه المأساة، ويقبلوا بالخضوع، أو أن يظلوا يقاومون، حتى وإن كان الطريق مظلمًا. هذه الفلسفة ليست مجرد دعوة للمقاومة، بل دعوة لإعادة النظر في جوهر الإنسان، وفي معركة الوعي التي لا نهاية لها، حيث لا تكمن الشجاعة فقط في مواجهة الأعداء الخارجيين، بل في مواجهة الظلام الداخلي الذي يحاول اجتياح العقول.
ومع مرور الوقت، بدأ وعي الشعب الجزائري يتبلور أكثر. أصبح يدرك أن المعركة ليست فقط ضد إرهاب الدماء، بل ضد الإرهاب الفكري الذي يحاول غزو الأذهان، قد أظهرت المقاومة أن النصر لا يكمن في هزيمة العدو الظاهر، بل في تكسير قيوده الفكرية، في تحرير العقول من قيود الخوف والشك.
كانت المقاومة تتجسد في القدرة على الإيمان بالحياة رغم كل شيء، في التصالح مع الذات، وفي العودة إلى القيم التي تربط الإنسان بالأرض.
لكن مع كل تلك التضحيات، كانت الجزائر تخرج من تحت الرماد أكثر قوة. كان الثمن باهظًا، آلاف الأرواح والدماء، ولكن الجزائر قد تجددت، وقد أصبحت أكثر إدراكًا لحقيقة العيش. حقيقة أن الحرية، وإن كانت مرهقة، فهي تُكتسب بالوعي والصمود.
وفي النهاية، ما عاشه الشعب الجزائري لم يكن مجرد محنة، بل كان درسًا فلسفيًا عميقًا في معنى المقاومة والوجود. لقد أظهرت هذه المرحلة أن الصمود لا يعني فقط مواجهة العدو، بل يعني الصمود أمام الظلام الذي يحاول اجتياح العقول والنفوس. فالمقاومة الحقيقية تكمن في الوعي، في القدرة على مواجهة الخوف وعدم الاستسلام له، بل في إصرار الإنسان على أن يبقى متمسكًا بمبادئه وهويته مهما كانت التحديات.
وفي هذا السياق، تظهر الحكمة التي تقول: "إذا أردت أن تحيا بحرية، لا تترك الظلام يستقر في قلبك." فإن الشعب الجزائري أثبت أن الحرية لا تُعطى بل تُنتزع، وأن النضال الحقيقي يبدأ من الداخل، من القدرة على أن تبقى مخلصًا لمبادئك، وأن تواصل السير رغم كل الصعاب..
لم تكن مجرد أزمة عابرة، بل وضعٌ خطير كاد أن يُسقط البلاد في مستنقع البؤس والفوضى، حيث يصبح النظام ذكرى، والعقلانية رفاهية لا مكان لها. لم تكن التهديدات مقتصرة على العنف المسلح، بل كان هناك عدو آخر أكثر دهاءً: الأكاذيب التي تُنسج بمهارة شيطانية لتبديل الحقائق، وتشويه الأحداث، وتحريف مسار التاريخ لصالح الإرهاب.
انتشرت معلومات زائفة، مصاغة بأسلوب خبيث، تُجمّل صورة العدو، وتصور الضحية على أنها الجلاد. هذه الحرب لم تكن تُخاض فقط بالسلاح، بل بالكلمات والأفكار أيضاً. فالعدو لم يكتفِ بزرع الموت في الطرقات، بل سعى لامتلاك العقول، لإعادة كتابة التاريخ وفقًا لمخططاته، وأمام هذا السيل الجارف من التضليل، أدركت أن السكوت جريمة، وأن الصمت لم يكن سوى خيانة مؤجلة.
لكن التمرد كان يزداد شراسة، والتهديد أصبح أكثر وقاحة، وكنا جميعًا مطالبين بالإجابة عن سؤال مصيري: ماذا فعلنا لحماية الوطن؟ وما الذي تقاعسنا عن فعله؟ كان الصراع يتجاوز المواجهة العسكرية، ليُصبح صراعًا أخلاقيًا يمزّق المجتمع إلى قسمين: فئة صامدة، تُقاتل بكل ما أوتيت من قوة دفاعًا عن الأرض والشرف، وأخرى خانعة، اختارت الخضوع والتعاون مع الظلاميين، إما خوفًا أو طمعًا.
لقد كان الخونة كُثرًا، يتسللون بين الصفوف، يبيعون مبادئهم بثمن بخس، ويرهنون حاضر الأمة ومستقبلها من أجل مصلحتهم الضيقة. ورغم هذا المشهد القاتم، كان لا يزال هناك بصيص أمل. فبعض الأصوات العاقلة حاولت أن تجد مخرجًا قبل فوات الأوان، أن تمنع السقوط الحرّ في الهاوية. لكنها كانت أصواتًا خافتة، بالكاد تُسمع وسط ضجيج المعارك وصرخات الضحايا.
كان الضباب يزداد كثافة، وكان من الواضح أن المجهول يُسيطر على المشهد.، لكنني كنت أعرف أن الوقت ليس في صالحنا، وأن الانتظار يعني الهزيمة. فالتردد لم يكن خيارًا، والتراخي لم يكن سوى دعوة مفتوحة للعدو كي يزداد تغوّلاً. كان علينا الضرب بقوة، لكن ليس بعشوائية. كان لا بد من تفكيك مكامن الخطر، واستئصال السرطان قبل أن ينتشر أكثر.
غير أن المواجهة لم تكن عسكرية فقط، بل كان هناك جرحٌ آخر لا يقل عمقًا: العلاقة الممزقة بين الشعب والسلطة. كان الإرهاب يُغذّي تلك الهوة، يعزف على أوتار الغضب الشعبي، مستغلًا الأخطاء الماضية لإقناع البعض بأن الدولة هي العدو. ولإلحاق الهزيمة الحقيقية بالإرهاب، لم يكن يكفي القضاء عليه عسكريًا، بل كان يجب ترميم الثقة، بناء جسرٍ بين السلطة والشعب، حيث لا مكان للخوف، ولا مكان للخذلان.
لقد شعرتُ بذلك بوضوح، فقد كنت رجلًا في الميدان، أراقب الوجوه، وأقرأ المشاعر في أعين الناس. لم يكن جميعهم خونة أو متآمرين، بل كان هناك من ينتظر فقط يدًا تُمدّ إليه، إشارةً تدل على أنه لم يُنسَ، ولم يُترك ليواجه مصيره وحيدًا. كان بعضهم غارقًا في الغضب، لكنه لم يكن غضبًا نابعًا من العداء، بل من الخذلان. كانوا أبناء هذا الوطن، لكنهم شعروا وكأن الوطن لم يعد لهم.
وهنا، أدركت أن الحرب التي نخوضها ليست فقط ضد عدوٍ خارجيّ أو خفيّ، بل ضد الفراغ الذي تركته السلطة في نفوس مواطنيها. كان لا بد من جبهة أخرى، موازية للمعركة العسكرية، تهدف إلى احتضان هؤلاء، إعادة الأمل إليهم، وإعادتهم إلى حضن الوطن. فالعدو الحقيقيّ لم يكن مجرد رجل يحمل سلاحًا، بل كان كل فكرة تزرع الشك، وكل شعور بالعزلة يدفع مواطنًا إلى أن يصبح عدوًا لوطنه.
كان الطريق طويلًا، محفوفًا بالمخاطر، لكنني كنت أعلم أن النصر لا يتحقق فقط بالرصاص، بل أيضًا بالعقل، بالقلب، وبالعدالة التي تعيد التوازن إلى أمةٍ كادت أن تنزلق إلى الظلام الأبدي.
تتبع...

