418
0
حكاية الأعرابي "مسعود" وديناره المفقود
إضاءة
بقلم: محمد شريم/ المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام
ذات يوم حضر أعرابي فقير الحال واسمه "مسعود" ومعه ولده الصبي إلى مجلس شيخ قبيلته، فوجد عنده نفرا من وجهاء القبيلة، فألقى التحية، ثم هم بالجلوس بوجه عبوس، فلما رآه شيخ القبيلة على تلك الحال، عرف أن في الأمر شيئا ما، فدعا الرجل للجلوس إلى جواره، وبعد أن استقر في مجلسه، نظر الأعرابي "مسعود" إلى ولده ثم أجهش بالبكاء، ففوجئ الحضور ببكائه، وشرع الشيخ بتهدئة الرجل، وطلب من خادم مجلسه أن يقدم لمسعود وولده قدحين من اللبن، وبعد أن رشف الرجل من قدحه رشفة، وضع القدح على الأرض، وقال للشيخ: جئتك مفوضا أمري إلى الله ومن بعده إليك يا شيخ القبيلة! فنظر الشيخ إلى جلسائه نظرة خاطفة ثم قال: أبشر بالخير يا "مسعود"! ولكن، ما الذي يحزنك؟ فقال "مسعود": يا شيخنا، لقد أصاب ولدي الوحيد هذا بعد وفاة أمه مرض عجز طبيب القبيلة عن معالجته، فأخذته إلى مارستان المدينة، فأشار علي الأطباء هناك بأن يعالج في ذلك المشفى، وهو الأمر الذي أحتاج لأجله الكثير من المال، فبعت بعضا من أغنامي بدينار ذهبي واحد، ووضعته في كيس صغير من الجلد، ووضعت الكيس في صندوق الثياب الذي في خيمتي بمحاذاة فراشي، أما ما تبقى من الأغنام، وكانت قليلة العدد، فقد احتفظت بهن ريثما تضع كل منهن حملها، فأبيعهن مع صغارهن بثمن أعلى يساعدني على تدبر أموري. ولم يطل الوقت بالأغنام المتبقية حتى ولدن في بضعة أيام الواحدة تلو الأخرى، فبعتهن مع ما ولدن بدينار ذهبي آخر وقبضت الثمن، فحمدت الله كثيرا، وتفاءلت بقرب معالجة ولدي، ولما ذهبت إلى صندوقي لأضم الدينار الجديد إلى الدينار القديم، لأبدأ بتهيئة نفسي وولدي للسفر إلى المدينة، كم كانت المفاجأة عظيمة على نفسي حين وجدت الكيس خاليا من الدينار الأول! فوضعت الدينار الثاني مكانه حتى لا يسقط مني في الطرقات، وهأنذا حضرت إليك لأشكو همي، لعلي أجد بحكمتك ما يساعدني على العثور على ديناري المفقود، وإلا فإنني سأفقد ولدي بفقد ذلك الدينار!
فنظر الشيخ إلى جلسائه مرة أخرى، ثم التفت إلى الرجل، وهمس في أذنه قائلا: لا عليك "يا مسعود"! اذهب الآن إلى بيتك، وعد إليّ مع ولدك بعد انفضاض مجلسي هذا وانصراف الوجهاء إلى بيوتهم، وذلك بعد العشاء، فإن من الحكمة أن نتابع أمرك بعيدا عن العيون والآذان! فشكر الأعرابي شيخ القبيلة واستأذنه بالانصراف.
ولما غادر "مسعود" المجلس، تأمل الشيخ وجوه جلسائه وسألهم: ماذا تقولون بشأن "مسعود"؟ فقال أحد الوجهاء: نقول ما تراه أيها الشيخ! فقال الشيخ: سأعوض الرجل عن ديناره المفقود من مالي الخاص! فقال أحد جلسائه: ولماذا تريد أن تحرمنا من المشاركة بعمل الخير أيها الشيخ؟ أنا ومن يرغب في المساعدة شركاؤك! كل منا يتصدق بشاة، ثم نبيع الشياه لأحدنا بدينار ذهبي، ونعطيه للرجل. فقال الآخرون: ونعم الرأي!
فقال أحد الوجهاء: ولكن ثمة أمر لم تحسبوا له حسابا أيها الأخيار! فسأله الشيخ: وما هو؟ فقال: أنا أعرف هذا الرجل. إنه على قدر من العفة عظيم، وقد يرفض الصّدقة! فقال الشيخ: ولكنني طلبت منه أن يعود بعد انفضاض المجلس لأجنّبه الحرج! فرد الرجل: وهل تضمن ألا يتحرّج منك أنت - أيها الشيخ - فيتعفف؟! فقال أحد الحضور: لا أظنه سيرفض أخذ الدينار، فالأمر يتعلق بعلاج ولده الوحيد! فصمت الشيخ للحظة ثم قال: لا عليكم، أنا سأتدبر الأمر!
وبعد العشاء، وبعيد انفضاض مجلس شيخ القبيلة، عاد "مسعود" إلى الشيخ ومعه ولده، ولم يكن عند الشيخ سوى خادم مجلسه. فقال "مسعود" للشيخ: أفدنا يا شيخنا، لعل حكمتك أوصلتك إلى شيء يفيدنا بشأن الدينار! ولم يكد الرجل ينهي عبارته حتى قام خادم مجلس الشيخ طالبا الإذن من شيخ القبيلة ليسمح له بالانصراف إلى خيمته القريبة من خيمة الشيخ، لأن موعد نومه قد اقترب، فأذن الشيخ له قائلا: يمكنك الذهاب لتستريح يا بني، ولكن لا تنس القيام بما طلبته منك على وجه السرعة قبل أن تنام. فقال الخادم قبل أن ينصرف: أعطني زمن حلب أربعة من الشياه فقط ويكون أمرك قد أنجز يا شيخنا!
وبعد انصراف الخادم قال الشيخ لمسعود: لقد فضلت أن نكون لوحدنا عند الحديث بشأنك، فالأمر ليس بالهين، فقد يقودنا التفكير بهذا الاتجاه أو ذاك إلى أن نفسد على أنفسنا خطتنا إذا علم الكثيرون بالذي نفكر به. ولكن قبل أن أقول لك ما يدور في ذهني، فإنني أطلب منك أن تعود الآن إلى بيتك، وأن تتأكد من فقدك الدينار! هل خطر ببالك أن من الممكن وجود الدينار بين الثياب أو أنه سقط إلى أسفل الصندوق؟ فرد الرجل: بحثت جيدا عنه في الصندوق وبين الثياب يا شيخنا، فإنه ديناري الذي أعوّل عليه لمعالجة ولدي. فقال الشيخ: كم حصل وأن وجدنا شيئا فقدناه في مكان بحثنا عنه فيه لمرات! وأحيانا نجتهد في البحث عن المفقود وهو في أيدينا! لن نخسر شيئا، فلتذهب لتتأكد قبل أن نقدم على عمل هو الآن في ذهني، لأن ما أفكر فيه قد يقودنا للسعي وراء الظن الآثم والوقوع في الخطأ. اترك الصبي عندي حتى لا يؤخرك في مشيك، واذهب ولا تطل الغياب!
ونزولا عند رغبة شيخ قبيلته، غادر "مسعود" خيمة الشيخ تاركا ولده عنده، ولم يطل الرجل الغيبة، وإذا به يعود مسرعا ويدخل خيمة الشيخ مذعورا وهو يحمل سيفه مخضبا بالدم ويصيح: قتلته! لقد قتلته!
فقام الشيخ وقد أخذه هول المفاجأة ليصيح بمسعود: كفانا الله شرك! من الذي قتلته؟! فأجاب "مسعود" وقد شرع بالبكاء: السارق! سارق الدينار الأول! عندما عدت من عندك دخلت خيمتي ووجدته يفتش صندوقي بحثا عن الكيس.. لقد عاد لسرقة الدينار الثاني بعد أن علم أنني بعت ما تبقى من الأغنام! فسأله الشيخ باضطراب ظاهر: وهل رأيت الكيس بين يديه؟ فقال الرجل دون أن يتوقف عن البكاء: لا.. ولهذا كان يبحث عنه.. فقد أحضرت الكيس معي عندما حضرت إليك بعد العشاء.. لأنني خشيت عليه من عودة سارق الدينار الأول إن تركته في الخيمة بعد أن حل الظلام.. وكانت خشيتي في محلها.. وامصيبتاه!
فقال الشيخ وهو يغادر الخيمة: أمامي إلى بيتك أيها المنكوب! وهل عرفت الرجل القتيل؟ فقال "مسعود" وقد توقف قليلا عن الانتحاب: لا، فقد كان يرتدي عباءة سوداء ويضع لثاما على وجهه لكي لا يعرفه أحد، كما يفعل اللصوص، وعاجلني سيفي إليه دون تفكير مني بضربة قاتلة، وعندما سقط أرضا ذعرت وركضت إليك!
وعندما دخل الرجلان – مسعود والشيخ – خيمة "مسعود" شاهد الشيخ الرجل القتيل فصاح بغضب وتحسّر وهو يضرب الكف بالكف: ألا لعنة الله على العجلة! أعانك الله على ما رميت نفسك به يا قليل السعد! هذا هو خادمي يا قليل الروية، وقد أعطيته دينارا ليضعه في كيسك - أيها الأحمق - ليعوضك عن الدينار الأول دون أن نشعرك بالحرج، ولذلك قلت لك عد إلى بيتك للتأكد من فقد الدينار، وذلك لكي تجد الدينار في الكيس بعد أن يضعه الخادم، فتظن أنك لم تبحث عن الدينار جيدا، فتأخذ الدينار وينتهي الأمر، وتذهب لعلاج ولدك.. ويبدو أنه تأخر في مغادرة بيتك وهو يطيل البحث عن الكيس في الصندوق بين الثياب دون أن يجده، لأنك الكيس معك! آه.. لقد كان أكثر حصافة مني عندما قال قبل أن يوافقني على طلبي: وكيف أدخل بيت "مسعود" في غيابه كما يدخل اللصوص؟ وقد كنت أنا أقل حكمة منه عندما قلت له: لا تطل التفكير.. إنما الأعمال بالنيات!
فصك "مسعود" وجهه وهو يخاطب نفسه بصوت عال: آه.. ما أقل سعدك يا "مسعود"! ما هذه المصيبة التي رميت نفسك بها بسبب تعجلك وقلة أناتك، لقد أخذت الرجل بالشبهة ودون ترو عندما حضر إليك ليفرج عنك كربك! آه مني! وكل ذلك لأنني فقدت الدينار، وهأنذا فقدت كل شيء بعده، حتى ولدي هذا الذي كنت سأعالجه به! فقال الشيخ: إن سلمتُ أنا من عواقب حماقتك سأهتم بعلاج ولدك بنفسي، فالطفل لا ذنب له، وأما أنت.. أعانك الله على ما رميت نفسك به بسبب ضعف حكمتك وسوء تصرفك!
وقال شيخ القبيلة، وكان هو شاعرها وحكيمها:
يا مَنْ أَخَذْتَ الناسَ بالشُّبُهاتِ
وَظَنَنْــتَ مُتَّهمــا بدونِ أَنــــاةِ
فشَتَمْتَ مُنْدفعـا بغيـرِ تَثَبُّــتٍ
وَسَطَـوْتَ مُنْتَقمـا بلا إِثبــاتِ
إِيّـاكَ أَنْ تَبْقــى بِظَــنٍّ ظَالــمٍ
فالظُّلْمُ وُجْهَتُهُ إلى الظُّلُماتِ!