22
0
تحليل الشخصية بين علي الوردي وإريك فروم

بقلم: إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
علي الوَرْدِي ( 1913 _ 1995 ) عَالِم اجتماع عِرَاقي ومُؤرِّخ، اهتمَّ بِتَحليلِ شَخصيةِ الإنسانِ انطلاقًا مِنْ حَقيقةٍ بسيطة، وَهِيَ أنَّ الإنسانَ لَيْسَ كائنًا نقيًّا، ولا شِرِّيرًا خالصًا .
إنَّه يعيشُ مُمَزَّقًا بَيْنَ مَا يُمْليه المِثَالُ، ومَا يَفرِضه الواقعُ، وهَذا التَّمَزُّقُ يَصْنَعُ ازدواجيَّةً تُكوِّن جَوْهَرَ الشَّخْصيةِ الإنسانيةِ .
لا يُمكِن دِراسةُ الفَرْدِ عِندَه بِمَعْزِلٍ عَنْ مُحِيطه . فالشَّخْصِيَّةُ ، كَمَا يُصوِّرها ، هِيَ في النِّهايةِ انعكاسٌ لاختلالاتِ المُجتمعِ . والشَّخْصِيَّةُ عِندَه لَيْسَتْ مَسألةً نَفْسِيَّةً فَحَسْب ، بَلْ أيضًا هِيَ سَرْدِيَّة اجتماعيَّة . وكُلُّ فَرْدٍ يَحمِل في داخله تاريخًا طويلًا مِنَ التَّحَوُّلاتِ والصِّرَاعاتِ .
أوْجَدَ مُعَادَلَةً نادرةً ، فَهُوَ يَدْرُسُ الشَّخْصِيَّةَ بِمَنهجٍ عِلْمِيٍّ واضح ، وَيُصِرُّ على التَّوثيقِ والاستشهادِ ، لكنَّه يَترُك مَساحةً واسعة للفِكْرِ الإنسانيِّ العاطفيِّ ، وهَذا جَعَلَ تَحليلَه للشَّخْصِيَّةِ ذا نَبْرَةٍ خَاصَّة تَجْمَعُ بَيْنَ الرَّصَانةِ العِلْمِيَّةِ وَدِفْءِ الأدبِ .
تَرَكَ تأثيرًا واضحًا ، لأنَّ مَا تَنَاوَلَه لَمْ يَكُنْ قَضِيَّةً عابرة ، بَلْ مَسَّ جَوْهَرَ الإنسانِ في لَحْظةٍ تاريخية مُضطربة، وكَشَفَ تناقضاتِ التفكيرِ التقليديِّ ، وَفَتَحَ البابَ أمامَ نَمَطٍ جَديدٍ مِنَ النَّقْدِ الاجتماعيِّ الذي يَجْمَعُ بَيْنَ السوسيولوجيا والتَّحْليلِ النَّفْسِيِّ والفَلسفةِ . وَقَدْ أعادَ صِياغةَ السُّؤالِ المَركزيِّ : مَنْ نَحْنُ ؟ . لَيْسَ بِوَصْفِهِ سُؤال هُوِيَّة فَحَسْب ، بَلْ أيضًا بِوَصْفِهِ سُؤالًا أخلاقيًّا وَنَفْسِيًّا واجتماعيًّا يَعكِس رَغْبَةً في فَهْمِ الذاتِ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَيْها .
تَحليلُ الشَّخْصيةِ عِنْدَه لَيْسَ وَصْفًا لِمَرَضٍ نَفْسِيٍّ ، بَلْ هُوَ مُحَاوَلَةٌ لِتَحريرِ الإنسانِ مِنْ سَطْوةِ أوهامِه ، فَهُوَ يَدْعُو بِلا مَلَلٍ إلى التَّفريقِ بَيْنَ مَا نَقُولُه ومَا نَفْعَلُه ، وَمُواجهةِ ذَواتِنا بِجُرْأةٍ ، والتَّخَلُّصِ مِنَ المَظاهرِ الزائفةِ التي تَمْنعنا مِنْ رُؤيةِ حقيقتنا، وأنْ نَكُونَ لا كَما يُريدُ المُجتمعُ التقليديُّ ، ولا كما نَتخيَّل أنفُسَنا في لَحَظَاتِ الكِبْرَياء، بَلْ كما نَحْنُ فِعْلًا ، مَخْلوقات تَبْحَث عَنْ مَعْنى ، وَتَتَعَثَّر ، وَتَتعلَّم ، وتَتناقض ، وتَنْهَض مِنْ جديد .
إريك فروم ( 1900 _ 1980 ) عَالِم نَفْسٍ وفَيْلسوف ألماني أمريكي . لَمْ يَكُنْ مُحَلِّلًا نَفْسِيًّا تقليديًّا . لَقَدْ كانَ شاعرًا يَكْتُب بِلُغَةِ العِلْمِ ، وفَيْلسوفًا يُعالِج النَّفْسَ ، وإنسانًا يَرى في كُلِّ رُوحٍ احتمالًا للخَلاصِ . وهَذا مَا يَجْعَل تَحليلَ الشَّخْصِيَّةِ لَدَيْهِ مَشروعًا إنسانيًّا قَبْلَ أنْ يَكُونَ تَفْسيرًا نَفْسِيًّا .
يَرى أنَّ اللحْظَةَ التي يُصْبح فيها الإنسانُ حُرًّا هِيَ اللحْظَةُ نَفْسُها التي يَكتشف فِيها هَشَاشَتَه.فالحُرِّيةُ _ في نَظَرِه _ لَيْسَتْ عَطِيَّةً سَهْلة ، بَلْ هِيَ عِبْء يَحتاج إلى شَجاعة ، وَمَسؤولية تَحْتاج إلى رُوحٍ مُستقرة . ولأنَّ الإنسانَ كثيرًا مَا يَعْجِزُ عَنْ تَحَمُّلِ هَذا العِبْء ، فإنَّه يُهْرَعُ إلى الهُروبِ ، يَهْرُبُ إلى سُلطةٍ قوية يَنصاع لها ، أوْ إلى جَماعةٍ تُذيب فَرْدِيَّتَه ، أوْ إلى عَالَمٍ داخليٍّ يَنْسِجُ فيه أوهامًا تُغْنيه عَنْ مُواجهةِ الواقعِ . وهَكذا تُصْبح الشَّخْصِيَّةُ صِرَاعًا بَيْنَ مَيْلِ الإنسانِ إلى التَّحَرُّرِ ، وَبَيْنَ خَوْفِهِ مِنَ العُزْلة .
يُقَدِّمُ وَصْفًا لثلاثة مَفاهيم يَعْتمدها الإنسانُ للإفلاتِ مِنْ مُواجهةِ ذاتِه ، وَهِيَ الخُضوع ، والتَّسَلُّط ، والامتثال الأعمى . الخُضُوعُ هُوَ أنْ يَتخلَّى الإنسانُ عَنْ إرادته لِسُلطةٍ مَا ، كَيْ يَطْمئن إلى أنَّ الآخَرين سَيُقَرِّرُون عَنْه . والتَّسَلُّطُ هُوَ الوَجْهُ الآخَرُ للخُضُوعِ ، إنَّه مُحاوَلة السَّيطرةِ على الآخَرِ كَيْ يَشْعُرَ المَرْءُ بأنَّه غَيْرُ ضعيفٍ . والامتثالُ هُوَ إذابةُ الذاتِ داخلَ الجَماعةِ ، حتى يَفْقِدَ الفَرْدُ حُدودَه ، وَيَتمرَّد على خُصُوصيته .
يَنْتقد الإنسانَ الحديثَ الذي يعيشُ بَيْنَ الزِّحَامِ ، لكنَّه يَشْعُرُ بالوَحْدَةِ . يَملِك الأشياءَ ، لكنَّ الأشياءَ تَملِكه . يَركضُ خَلْفَ الإنتاجِ والاستهلاكِ حتى يَنْسَى مَنْ يَكُون . وهَذا الإنسانُ يُعاني مِنَ الاغترابِ . يَغترِب عَنْ عَمَلِه لأنَّه يُؤَدِّيه بِلا مَعْنى ، وَيَغترِب عَن الآخَرين لأنَّه يَخْشَاهُم ، ويَغترِب عَنْ نَفْسِه لأنَّه لا يَعرِف مَا يُريد . وهَكذا تَتحوَّل الشَّخْصِيَّةُ إلى آلَةٍ تُحرِّكها الإعلاناتُ ، والضُّغوطُ، والمَعاييرُ الاجتماعية ، بَدَلًا مِنْ أنْ تُحرِّكها قِيَمٌ أصيلة نابعة مِنَ الداخل .
إنَّ الشَّخْصِيَّة المُتَوَازنة ، في رَأيِه ، لَيْسَتْ تِلْك التي تَخْلُو مِنَ التناقض ، بَلْ تِلْك التي تَتعلَّم كَيْفَ تعيشُ بَيْنَ تناقضاتِها بِسَلام ، وكَيْفَ تَخْتار الخَيْرَ رَغْمَ صُعوبته ، وكَيْفَ تَتحمَّل تَبِعَاتِ الحُرِّيةِ رَغْمَ ثِقَلِها. وتَحليلُ الشَّخْصِيَّةِ عِندَه لَيْسَ مُجرَّد نظرية نَفْسِيَّة ، بَلْ هُوَ نِداء إنساني كبير .
الوَرْدِيُّ وفروم كانا يَبْحثان عَن الإنسانِ الذي يُصارِع ذَاتَه قَبْلَ أنْ يُصَارِعَ العَالَمَ ، الإنسان الذي يَتشكَّل مِنَ الطِّينِ نَفْسِه ، لكنْ يُعاد تَشكيلُه مَرَّاتٍ كثيرة بِفِعْلِ الظُّروفِ والضُّغوطِ والمُعْتَقَدَاتِ .
وعلى الرَّغْمِ مِن اختلافِ السِّيَاقِ الحَضَارِيِّ ، يَلْتقي الوَرْدِيُّ وفروم في نُقْطَةٍ مِحْوَرِيَّة ، وَهِيَ أنَّ الإنسانَ كائنٌ هَشٌّ ، لِدَرَجَةِ أنَّ أفكارَه قَدْ تَنقلِب عَلَيْه ، وقويٌّ لِدَرَجَةِ أنَّه قادرٌ على إعادةِ تشكيلِ ذَاتِه إنْ أرادَ. لَدَى الوَرْدِيِّ ، الهَشَاشَةُ تأتي مِنَ المُجتمعِ الذي يُحاصِر الفَرْدَ بِمَعاييره المُتناقِضة ، وَلَدَى فروم ، تأتي مِنَ الخَوْفِ العميقِ مِنَ الحِّريةِ ، والرَّغْبَةِ في الاختباءِ داخلَ الجَماعة مَهْما كانَ الثمن . وَيُركِّز الوَرْدِيُّ على تَفْسيرِ الشَّخْصِيَّةِ بِوَصْفِهَا نِتَاجًا للصِّراعِ الاجتماعيِّ والثقافيِّ ، بَيْنَما يُركِّز فروم على تَفْسيرها بِوَصْفِهَا نِتَاجًا لِحَاجَاتِ وَدَوافع نَفْسِيَّةٍ داخلية مُرتبطة بالوُجودِ الإنسانيِّ .

