49
0
صرخة البيرة: وجع الأسرى في سجون الاحتلال… ونداء الحرية لا يموت

بن معمر الحاج عيسى
في ساحة مدينتها الصامدة، وقفت البيرة اليوم شاهدة على صوت لا يهدأ، وصدى لا ينكسر، صدى الأسرى القابعين خلف قضبان الاحتلال، أولئك الذين يُكابدون الألم بصمت، ويخوضون معركة البقاء بكرامة لا تشيخ.
اعتصام أسبوعي بات نبضًا في قلب المدينة، تنظمه مؤسسات الأسرى: نادي الأسير الفلسطيني، الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، والقوى الوطنية والإسلامية، في وقفة وفاء لا تنكسر، ورسالة صمود لا تتبدد، في وجه عدوان يزداد وحشية، وهجمة لا تعرف رحمة، تمارسها دولة الاحتلال بحق الأسرى في سجونها، وبحق أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان، وفي القلب منهم غزة التي تتعرض لإبادة ممنهجة يندى لها جبين الإنسانية.
ليست الوقفة في البيرة مجرد تظاهرة عابرة، بل هي صرخة شعب، وشاهد حي على معاناة متفاقمة، وعلى نداءات تتكرر منذ سنوات دون أن تجد آذانًا صاغية في هذا العالم الأعمى. المشاركون لم يأتوا ليملأوا الفراغ، بل ليكسروا جدار الصمت، ويكتبوا بأجسادهم رسالة لا تنسى: أسرانا ليسوا وحدهم. وفي مقدمة هذه الرسائل، كانت سناء دقة، الأسيرة التي تقبع اليوم خلف القضبان، تُنادى باسمها، ويُرفع صوتها عالياً، لا فقط بصفتها أسيرة، بل بصفتها زوجة شهيد الحركة الأسيرة، وليد دقة، الذي ارتقى وترك جثمانه رهينة في ثلاجات الاحتلال، في جريمة مركبة، تبدأ بحرمان الجسد من الدفن، ولا تنتهي بتعذيب الذاكرة الفلسطينية.
وفي قلب هذا المشهد الحي، لم يكن غائبًا وجه الفتى الأسير محمد وايد خضيرات، ذاك الطفل الذي تسكنه البطولة وتنهشه الخلايا الخبيثة. محمد الذي يواجه مرض السرطان خلف الأسوار، يصرخ في وجه الإهمال الطبي المتعمد، وفي وجه نظام سجون لا يعرف من الإنسانية إلا نقيضها. فتى يعاني بصمت، تحاصره قسوة الاحتلال من جهة، وصمت العالم من جهة أخرى، بينما تصرخ أمهات فلسطين على أبواب السجون، في محاولة لحماية ما تبقى من حياة أبنائهن.
المعتصمون اليوم في البيرة لم يرفعوا شعارات حزبية ولا رايات فصائلية، بل رفعوا وجعاً موحداً، وهتفوا بوطن ممزق لكنه لم يسقط، وكتبوا على جبين الزمن: الحرية حق، والكرامة لا تُساوم. كانت الهتافات تعبّر عن كل ما هو مكبوت، عن كل شهيد لم يُدفن، وكل أسير يُعذّب، وكل طفل يُنتهك حقه في العلاج، وكل أم تُحرم من لمسة يد ابنها. كانت الوقفة بمثابة محكمة شعبية للاحتلال، أدانته بصوت الأمهات، وبدموع الأسرى، وبنضال لا يُقهر ولا يُساوم.
إنها البيرة، مدينة القلوب الثائرة، والوجوه الصلبة، التي ترفض أن تنسى، وترفض أن تهادن، وتُصر أن تكون صوت الأسرى حين يخفت صوت الإعلام، وأن تكون لسان غزة حين ينقطع عنها النبض. وفي لحظة يبدو فيها العالم منشغلاً بالحسابات والخرائط، تبقى فلسطين تقف في وجه الريح، بشعبٍ يحمل الشهداء في قلبه، ويرفع الأسرى على كتفيه، ولا يعرف الاستسلام.
في كل جمعة، تعود البيرة لتُذكّر أن المعركة لم تنتهِ، وأن الأسرى ليسوا أرقامًا، بل حكايات من لحم ودم، من حب وعناد، من ألم وصبر.
إنها وقفة لا تُنسى، في زمن يحاول النسيان أن يكون سيد الموقف، لكنها تبقى عنوانًا لوطن لا يركع، لأسرى لا ينهزمون، ولشعب يُقاتل ليحيا، لا ليموت.