98

0

صليحة واتيكي… ابنة بلكور التي التحفت راية الجزائر فصارت كفنها الأبدي

حكاية أصغر شهيدة في مظاهرات 11 ديسمبر

لم تكن صليحة واتيكي وهي ابنة اثني عشر ربيعا فقط، تدرك أن هتافها البريء "تحيا الجزائر" يعد في نظر المستعمر فعل تمرد يستحق الرصاص، فقد كان حب الوطن يسري في عروقها كما خلقت به؛ فطرة راسخة في طفلة نشأت في حي بلكور العتيق، الحي الذي اعتاد مواجهة قسوة الاستعمار بقوة الحياة. 

نسرين بوزيان 

 

وهناك كان الأطفال يكتشفون معنى الوطن قبل أن يتقنوا  حروف الهجاء، يرون الرجال يعتقلون والنساء يزغردن للشهداء، ويشاهدون الراية الوطنية تهرب تحت الملابس،  لذلك لم يكن غريبا أن تمتلك طفلة في عمر الزهور جرأة الوقوف في وجه جيش الاستعمار الفرنسي الغاشم.


كانت الراية حلمها فصارت كفنها الأبدي

في صباح 11 ديسمبر 1960، نهض الحي كله على غير عادته، ارتجت الأزقة بزغاريد تسمع من الشرفات، واندفع الرجال والنساء والأطفال نحو الشوارع ، خرجت صليحة بين الجموع، مبهورة بالمشهد الذي لم ترى له نظيرا أمواج بشرية تتقدم بثقة، ووجوه يضيئها الإصرار ونساء يرمين الزغاريد فوق رؤوس المتظاهرين كأنهن يباركن خطواتهم نحو الحرية.
كان اتجاه المسيرة واضحا نحو الحي الأوروبي، حيث كانت الأقدام السوداء تتربص بكل حركة، ومع ذلك تابعت الجموع تقدمها غير آبهة بالجنود المنتشرين على الأسطح ولا بعيون القناصة التي تراقب كل خطوة. 
ومع تصاعد الغليان الشعبي، وجد الفرنسيون أنفسهم أمام موجة بشرية لا تقهر، هتافها أقوى من أسلحتهم، أمتدت المسيرة من بلكور عبر المدنية ورويسو وباب الواد، فكانت صرخة مدوية برفض مخطط ديغول الرامي إلى إبقاء الجزائر جزءا لا يتجزأ من فرنسا.
وفي خضم هذا المد البشري اقترب منها أحد المتظاهرين، وقال مبتسما إنه يستطيع رفعها على كتفيه لتعلو بالراية أكثر، تبسمت صليحة ووضعت قدمها الأولى على كتفه، مستعدة لأن ترتفع عاليا كما ترتفع أحلام الأطفال لكن رصاصة واحدة كانت كفيلة بإسكات هذه البراءة إلى الأبد.
انطلقت من إحدى الشرفات واخترقت صدر الطفلة، فسقطت على العلم الذي كانت تستعد لرفعه، فكان كفنها الأول والأخير.
وعندما طال غيابها عن البيت،خرج والدها يبحث عنها في الشوارع المشتعلة بالأحداث، وما إن بلغ أحد الأكشاك حتى وجد الناس قد وضعوها هناك، لم يستطع الأب أن يصرخ ولا أن يبكي؛ فقد شعر أن صوته سيضيع وسط هتاف الجماهير باسم الجزائر.

الحرية تنتزع بدماء البراءة

   

 

 


ويتحدث المؤرخ الدكتور بوعلام بن معمر عن تلك اللحظات، في تصريح لـ"بركة نيوز" قائلا إن مظاهرات 11 ديسمبر كانت نقطة تحول حاسمة، ليس فقط في مسار الثورة، بل في نظرة العالم إليها. 
ويؤكد أن مشاركة الأطفال إلى جانب الكبار حملت رسالة واضحة مفادها أن الثورة لم تكن مشروع نخبة بل إرادة شعب كامل يقف صفا واحدا من أجل الحرية.
مضيفا أن صور الأطفال في الشوارع، ومنهم صليحة، بلغت الصحافة الدولية، فاهتزت لها العواصم، وأصبحت شاهدا دامغا على أن الاستعمار واجه شعبا موحدا لا يمكن كسره.
ويشير الدكتور بن معمر إلى أن صليحة كانت واحدة من جيل كامل من الأطفال الذين حملوا الثورة في قلوبهم، ومنهم عمر ياسف، ومراد بن الصافي، ومحمود بوحميدي، وبوعلام رحّال، وفريد المغراوي، وغيرهم ممن سجلوا أسماءهم في سجل التضحية رغم أن أعمارهم كانت بالكاد تلامس بداية الحياة.
ويروي المؤرخ أن استشهاد صليحة كان مثالا صارخا على أن الثورة لم تكتب فقط بدماء الرجال، بل أيضا بدماء أطفال حلموا بوطن حر، فكانوا هم أنفسهم برهانا على أن الحرية تنتزع ولا تمنح. 
وفي هذا السياق، ذكر المؤرخ مقولة القائد الثوري العقيد كريم بلقاسم ، وهو يصف أصداء الغضب الشعبي الذي اجتاح المدن ، مؤكدا قوة تلك الهبة: "سنسمع نداء بلكور إلى داخل مانهاتن"، أي أن القضية الجزائرية ستصل إلى أكبر العواصم والمراكز العالمية للقرار والرأي العام.

برهان المرأة الجزائرية في النضال الوطني

   

 

 
من جهته، أكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وباحث في التاريخ الإنساني بجامعة البليدة 2، محفوظ عاشور، أن استشهاد صليحة واتيكي أعطى قوة كبيرة للمظاهرات فازدادت أعداد المشاركين بانضمام جيرانها وأطفال حيها، وارتفع الإصرار على المواصلة رغم القمع الاستعماري ، موضحا أن صليحة أصبحت رمزا من رموز صمود الشباب الجزائري وتضحياته في سبيل الحرية والاستقلال.

وأضاف أن هذا الصمود لم يقتصر على الشباب فحسب، بل امتد إلى النساء الجزائريات اللواتي قدمن نموذجا للتضحية والفداء، ومن بين هؤلاء الشهيدات فاطمة حوحو في وهران وشريفة بن بوعزيز في قسنطينة، لتجسد بذلك المرأة الجزائرية دورها الكبير في الدفاع عن الوطن والمشاركة في النضال من أجل الاستقلال.

 وفي الختام  رحلت صليحة واتيكي وهي تهتف: "تحيا الجزائر"، لتصبح رمزا للشجاعة والتضحية، ويبقى هتافها حيا في ذاكرة الوطن، يتردد في مسامع الجزائريين كل 11 ديسمبر من كل عام، صرخة خالدة تذكرهم بأن الحرية تنتزع ولا تمنح.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services