506
0
سقوط غرناطة: من الحدث التاريخي إلى الذاكرة الجريحة… الأندلس في الثقافة والأدب العربي عبر العصور

بقلم الحاج بن معمر
لم يكن سقوط غرناطة في الثاني من جانفي سنة 1492م مجرّد هزيمة عسكرية أنهت وجود المسلمين السياسي في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل كان – كما يؤكد المؤرخون العرب وغير العرب – لحظة فاصلة في التاريخ الإنساني، انتقلت فيها الأندلس من كونها فضاءً للحضارة والتعدد والتسامح إلى رمزٍ للفقد والانكسار، وتحولت من جغرافيا مزدهرة إلى جرحٍ مفتوح في الذاكرة العربية والإسلامية.
لقد مثّل سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس ذروة مسار طويل من التراجع الداخلي والصراع السياسي، أكثر مما كان نتيجة قوة الخصم وحدها، وهو ما شدد عليه عبد الرحمن بن خلدون حين قرر قاعدته الشهيرة: «إذا فسد الداخل، كان الخارج أهون أسباب السقوط»، وهي عبارة تكاد تختصر مأساة الأندلس بأكملها.
يؤكد ابن خلدون في «كتاب العبر» أن الدول لا تسقط فجأة، بل تمرّ بدورات من الازدهار فالترهل فالانهيار، وهو ما ينطبق بدقة على التجربة الأندلسية التي امتدت قرابة ثمانية قرون.
فقد بلغت الأندلس في أوجها درجة من الرقي العلمي والعمراني جعلت المستشرق الإسباني أميركو كاسترو يصفها بأنها «المختبر الأول للتعايش الحضاري في أوروبا»، بينما ذهب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى اعتبارها «واحدة من أعظم الاستجابات الحضارية للتحديات التاريخية».
غير أن هذا الازدهار لم يمنع عوامل التآكل الداخلي من التسلل: صراعات ملوك الطوائف، الاستعانة بالخصوم، الترف السياسي، والانقسام الاجتماعي، وهي كلها عوامل أشار إليها المقري التلمساني في كتابه الشهير «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، حيث كتب بأسى واضح: «فلم يكن العدو بأشد بأسًا من الفرقة، ولا السيف أمضى من الخيانة».
في الوجدان العربي، لم يُستقبل سقوط غرناطة بوصفه حدثًا سياسيًا منتهيًا، بل باعتباره مأساة حضارية كبرى.
منذ اللحظة الأولى، ظهر ما يمكن تسميته بـ«أدب الرثاء الأندلسي»، الذي لم يكن بكاءً على الأطلال فقط، بل صرخة وعي مبكر. ويعدّ المؤرخون قصيدة أبي البقاء الرندي «لكل شيء إذا ما تم نقصان» وثيقة أدبية وتاريخية في آن واحد، لأنها ربطت بين سقوط المدن وسقوط القيم، وبين خراب العمران وخراب الإنسان. يقول الرندي:
«تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ
كما بكى لفراق الإلف هيمانُ»
وهو بيت يختزل إحساسًا جمعيًا بأن ما سقط لم يكن مدينة، بل مشروعًا حضاريًا بأكمله.
وقد أكد المستشرق الفرنسي جاك بيرك أن الشعر الأندلسي في مرحلة السقوط «تحول من ترفٍ جمالي إلى وظيفة تاريخية، حيث صار الشاعر شاهدًا على النهاية»، وهو ما يفسر كثافة النصوص التي رثت الأندلس مقارنة بأي تجربة حضارية أخرى في التاريخ الإسلامي. هذا الحضور القوي للأندلس في الأدب العربي استمر عبر العصور، لأن الجرح لم يُغلق، ولأن الأسئلة التي طرحها السقوط لم تفقد راهنيتها.
في العصر الحديث، ومع صدمة الاستعمار الأوروبي للبلدان العربية، عاد سؤال الأندلس بقوة، لكن بوعيٍ مختلف. لم تعد الأندلس مجرد ذكرى بعيدة، بل أصبحت مرآةً يُعاد عبرها النظر في الحاضر. شكيب أرسلان، في كتابه «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟»، استحضر الأندلس ليؤكد أن الهزيمة ليست قدرًا، بل نتيجة حتمية للتخلي عن العلم والوحدة، أما طه حسين، فقد رأى في الأندلس مثالًا على قدرة العرب على الإبداع حين تتوفر الحرية والعقلانية، معتبرًا أن «ضياع الأندلس لم يكن نهاية الإبداع العربي، بل بداية اغترابه عن ذاته».
وفي السياق ذاته، يرى المؤرخ المغربي عبد الله العروي أن الأندلس تحولت في الفكر العربي الحديث إلى «أسطورة نقدية»، تُستحضر لا من باب الحنين، بل من باب مساءلة البنية السياسية والثقافية العربية. فالأندلس، في نظره، ليست فردوسًا ضائعًا بقدر ما هي تجربة تاريخية قابلة للتحليل، تكشف أن الحضارة لا تُحمى بالسيوف وحدها، بل بالمؤسسات والوعي الجمعي.
هذا التحول في النظر إلى الأندلس انعكس بوضوح في الرواية العربية المعاصرة. وتُعدّ «ثلاثية غرناطة» للكاتبة رضوى عاشور نموذجًا بالغ الأهمية في هذا السياق، إذ لم تتعامل مع السقوط بوصفه حدثًا مفاجئًا، بل كعملية بطيئة من الإقصاء والاقتلاع الثقافي. الرواية، كما لاحظ الناقد فيصل دراج، «تنقل مأساة الأندلس من التاريخ إلى الحياة اليومية، وتُظهر كيف يبدأ السقوط حين يُجبر الإنسان على التخلي عن لغته، وذاكرته، وأسلوب عيشه». هنا يصبح الأدب وسيلة لحفظ الذاكرة في مواجهة محاولات المحو.
ولعل هذا البعد هو ما يفسر الربط الدائم بين الأندلس وفلسطين في الخطاب الثقافي العربي المعاصر. فالمقارنة ليست سطحية ولا عاطفية فقط، بل تستند إلى تشابه عميق في آليات السيطرة: احتلال الأرض، تهجير السكان، تغيير الأسماء، وفرض رواية تاريخية جديدة. المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه نفسه أقرّ في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» بأن ما جرى للفلسطينيين منذ 1948 يحمل سمات تطهير ممنهج شبيه بما حدث للمسلمين واليهود معًا في الأندلس بعد سقوطها. لذلك لم يكن غريبًا أن تتحول عبارة «فلسطين حتى لا تكون أندلس أخرى» إلى لازمة ثقافية تتردد في المقالات والقصائد والخطب.
ويرى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أن استحضار الأندلس في سياق القضية الفلسطينية «ليس حنينًا إلى الماضي، بل تحذير من المستقبل»، لأن الأندلس تُظهر كيف يمكن للعالم أن يتواطأ بالصمت على جريمة اقتلاع شعب كامل من تاريخه. هذا الصمت، الذي تحدث عنه المقري حين وصف محاكم التفتيش بقوله «فكان البلاء يعمّ، ولا ناصر إلا الله»، يتكرر اليوم بأشكال مختلفة في فلسطين، وهو ما يمنح ذكرى غرناطة راهنية مؤلمة.
إن سقوط الأندلس، في الوجدان العربي، ليس حدثًا منتهيًا، لأنه لم يتحول بعد إلى معرفة تاريخية مكتملة. فكما يقول محمد عابد الجابري، «الماضي الذي لا نفهمه يعود في الحاضر على هيئة أسطورة أو عقدة».
ولذلك ظل الأدب العربي يعود إلى الأندلس، مرة في الشعر، ومرة في الرواية، ومرة في المقال الفكري، محاولًا تفكيك أسباب السقوط بدل الاكتفاء برثائه.
بالنسبة لي، يعني سقوط الأندلس درسًا تاريخيًا قاسيًا مفاده أن الحضارة لا تُهزم من الخارج إلا بعد أن تُهزم من الداخل، وأن أخطر ما في الهزيمة ليس فقدان الأرض، بل فقدان الوعي. كما يعني أن الذاكرة ليست ترفًا ثقافيًا، بل سلاحًا ناعمًا في مواجهة التكرار. فالأندلس، بما تحمله من مجدٍ وانكسار، تضعنا أمام سؤال دائم: هل نتعامل مع التاريخ بوصفه مادة للبكاء، أم باعتباره خبرة إنسانية تمنحنا القدرة على الفهم والتجاوز؟
وهكذا، بعد أكثر من خمسة قرون، لا تزال غرناطة حاضرة في الثقافة العربية، لا كمدينةٍ ضائعة فحسب، بل كرمزٍ لتحذير دائم. إنها تذكّرنا، كما قال توينبي، بأن «الحضارات لا تُقتل، بل تنتحر»، وتدعونا إلى أن نقرأ التاريخ بعين العقل لا بعين الدموع، حتى لا تتحول فلسطين، أو أي أرض عربية أخرى، إلى أندلس جديدة تُرثى بعد فوات الأوان.

