25
0
شمس الذاكرة

بقلم: الحاج بن معمر
حين نقرأ كتاب «حتى الشمس.. ليست وحيدة» لبشرى محمد أبو شرار، نشعر أننا أمام نصّ ينهض من رماد التجربة الفلسطينية ليعيد صياغة الحنين في هيئة سرد غنائي، تتناوب فيه اللغة بين همسٍ داخلي وحوارٍ مع الوطن والمكان والذاكرة.
ليس الكتاب مجموعة نصوص متفرقة بقدر ما هو حديقة من الحروف، تتناثر فيها الأزهار على هيئة صور واستعارات، وتختبئ تحت ترابها جذورٌ ممتدة إلى الأرض التي لا تُفارق القلب مهما أبعدها الاحتلال والمنافي. كل مقطع فيه يبدو كأنه حجرٌ في فسيفساء كبيرة، تتداخل فيها الذاكرة الفردية مع الجماعية، والحنين الشخصي مع التاريخ الجمعي، حتى يغدو النص نفسه وطناً بديلًا، يُشيّد بالكلمات حين تضيق الأرض.
تكتب بشرى أبو شرار من قلب الجرح، لكنها لا تستسلم لمجرد الرثاء، بل تصوغ لغة مشحونة بالحياة، لغة تحمل في طياتها موسيقى عميقة تجعل الجملة نغمة، والمقطع أنشودة، والنص أغنية حزينة مشبعة بالأمل.
إن ما يميز هذا الكتاب أنه يحوّل الذاكرة إلى طاقة جمالية، فلا يغرق في الحزن وحده، بل ينسج من المرارة غناءً، ومن فقدان الوطن محاولة لخلقه من جديد داخل الكلمات. فكل مدينة مذكورة تتحول إلى معادل شعوري: «عمّان» ليست جغرافيا، بل أمّ حانية وجرح نازف، و«طبربور» ليس مبنىً بيروقراطياً بل مرآة لأزمة هوية، ولحظة قاسية يتجسد فيها سؤال الوجود الفلسطيني بين الورق والختم، بين الاسم الذي يُكتب على شاشة الحاسوب والإنسان الذي يقف على الرصيف.
اللغة في هذا الكتاب لغة متوترة، تتدفق مثل نهرٍ لا يعرف السكون، تُحاكي في انسيابها حركة الروح التائهة بين المنافي. نلمح فيها إصراراً على تحويل التجربة إلى موسيقى، حيث الجمل القصيرة تتلاحق كأنها نبضات قلبٍ يتسارع حين يقترب من أبواب الوطن، أو حين تُغلق أمامه الأبواب فجأة. الاستعارات المكثفة، الصور المتقابلة، الإيقاع المتكرر، كلها تجعل النص أقرب إلى قصيدة طويلة مكتوبة بسطر نثري، قصيدة تتنفس من رئة الأرض المسلوبة. وحتى في أشد اللحظات قسوة، حين تتجسد المرارة في صورة منع إصدار بطاقة هوية أو في وداع قريبٍ رحل إلى الأبد، تبقى اللغة مشعةً بضوء داخلي، كأنها تقول للقارئ إن الخسارة ليست سوى شكل آخر من أشكال الانتماء.
إن ما يعمّق فرادة النصوص هو هذا المزج بين الحميمي والجمعي. فالكاتبة تنطلق من تفاصيل شخصية للغاية: صوت أختها وهي تناجيها أن تبقى، رائحة خبز التنور، أصابع الجدة «وضحة» وهي تعجن الزبد وتعجن معه الذاكرة، صور الطفولة في الأسواق القديمة، حذاء صديق قديم أو كتاب في حقيبة مسافر.
لكنها لا تبقى عند حدود الفردي، بل ترفع هذه التفاصيل إلى مقام الرموز التي تخصّ كل فلسطيني وعربي، لتصير الذكريات الشخصية جسرًا يعبر من الذات إلى الجماعة. فالحزن هنا ليس فردياً، بل هو نصيب شعبٍ بأكمله، والذاكرة ليست مجرد صور قديمة، بل ذاكرة وطن يسكن في المنافي ويعود في الحلم.
من الناحية الجمالية، يشي النص بوعي حادّ بعلاقة الكتابة بالهوية. الكاتبة تدرك أن الوطن قد يُسرق، لكن اللغة لا تُسرق، وأن الجسد قد يُنفى، لكن الحروف هي جغرافيا أخرى يمكن أن تُشيّد. لذا نجدها تستدعي التاريخ، التراث، النقوش الكنعانية، الأغنيات الشعبية، السجاد البدوي، لتصوغ منها هوية مكتوبة تُقاوم المحو. وكأن الكتاب في جوهره هو محاولة لمواجهة الاغتراب بالكتابة، ولمقاومة النسيان بالتدوين، ولمداواة الجرح بالشعر. هكذا تصبح الكتابة فعل بقاء، واللغة بيتًا آخر حين يضيع البيت الأول.
ومع كل هذا الشجن، لا يغيب البعد الموسيقي عن النص. فهناك إيقاع داخلي يتخلل العبارات، يجعلها أقرب إلى لحنٍ يتصاعد وينخفض، إلى سيمفونية من الذاكرة. يتكرر حضور الشمس بوصفها رمزًا مزدوجًا: نورًا لا يغيب رغم العتمة، وشاهدًا على وحدتنا واغترابنا. لكن الكاتبة تقول منذ العنوان إن الشمس «ليست وحيدة»، أي أن ثمة دائمًا ما يشاركها في الوجود، كما أن الفلسطيني ليس وحيدًا في نكبته، بل معه ذاكرة، معه لغة، ومعه حنين يحول الغياب إلى حضور.
إن القراءة في «حتى الشمس.. ليست وحيدة» تترك في القلب أثرًا يشبه أثر الموسيقى الحزينة التي تظل عالقة في الذاكرة طويلاً. إنه كتاب يعلّمنا أن الكتابة ليست ترفًا، بل مقاومة، وأن النص يمكن أن يكون بيتًا، وأن اللغة حين تتألق تصبح أكثر صلابة من الحجر. وفي النهاية، يخرج القارئ بإحساس أن هذا الكتاب ليس مجرد نصوص سردية، بل هو جدارية وجدانية تُضاف إلى سجل الأدب الفلسطيني المقاوم، جدارية كتبتها بشرى محمد أبو شرار بمداد الحنين، بالحروف التي صارت جذورًا، وبشمسٍ ليست وحيدة لأنها تسكن قلوبنا جميعًا.