471
0
رسول الله ــ صلى الله عليه و سلم ــ في كتابات الأديب العالمي تولستوي
بقلم : د. إبراهيم نويري
العظمة دائما كفؤها العظماء ـــــ كما يقول الأستاذ العقاد رحمه الله ــــــ و النفوس الفياضة تصبو إلى معادنها ؛ هذه الحكمة وقفت عليها في كتابات الكثير من الأدباء و الفلاسفة و المفكرين ، ممن كتبوا عن رسولنا و نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ، الذي مدحه ربه جلّ جلاله فقال : " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:4).
و من بين أشهر الأدباء و الفلاسفة الذين هاموا بأخلاق رسول الهدى صلى الله عليه و سلم ، و بإنسانيته الفذة و مواقفه و معاملاته مع المسلمين أو مع أهل الكتاب ، أديب روسيا الكبير الكونت ليو تولستوي (1828 ــ 1910 م ) ، الذي أثارت كتاباته و تصريحاته عن الإسلام و نبي الإسلام الكثير من أعلام أمتنا و مصلحيها ، و يحسن أن أكتفي هنا في هذا المقام بمقاطع قصيرة من قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله التي رثى بها رحيل هذا الأديب الفيلسوف ، و ذلك بعد أن تأثر بقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله التي مدح و أشاد فيها بخصال أديب روسيا الكبير إبان رحيله و هي قصيدة مطولة عدد أبياتها ثلاثة و خمسون بيتا و مطلعها :
تولستوي تجري آية العلم دمعها ** عليك و يبكي بائسٌ و فقيرُ
حيث يقول حافظ إبراهيم :
رثاك أميرُ الشعر في الشرق و انبرى ** لمدحك من كُتاب مصر كبيرُ
و لستُ أبالي حين أرثيك بعده ** إذا قيل عني قد رثاه صغيرُ
فإني أحبُّ النابغين لعلمهم ** و أعشق روض الفكر و هو نضيرُ
و من بين العلماء المصلحين الذين أعجبوا أيما إعجاب بمواقف تولستوي المشرّفة إزاء الإسلام و القرآن و الرسول الخاتم صلى الله عليه و سلم ، الإمام محمد عبده ، الذي راسله قبل رحيله عن الدنيا ببضع سنوات ، بخطاب مطول ينمُّ عن مدى إعزازه و احترامه له و لمواقفه و آرائه . و لا بأس أن أقتطف هذه الكلمات التي وردت في طيات هذا الخطاب : " أيها الحكيم الجليل تولستوي لم نحظَ بمعرفة شخصك ، و لكننا لم نُحرم التعارف مع روحك ، سطع علينا نورٌ من أفكارك ، و أشرقتْ في آفاقنا شموسٌ من آرائك ، ألّفتَ بين نفوس العقلاء و نفسك ، هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التي فَطر الناس عليها ، و وقفك على الغاية التي هدى البشر إليها .. نظرتَ نظرةً في الدين مزّقتْ حُجُبَ التقاليد ، و وصلتَ بها إلى حقيقة التوحيد ، و رفعتَ صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه ، و كما كانت آراؤك ضياءً يهتدي به الضالون ، كان مثالك في العمل إماماً يقتدي به المسترشدون .. هذا و إنّ نفوسنا لمتشوّقة إلى ما يتجدّد من آثار قلمك فيما تَستقبل من أيام عمرك ، و يفتح أبواب القلوب لفهم قولك ، و يسوق النفوس إلى التأسي بك في عملك و السلام " .
غيرة مثالية على الحقيقة :
من أمارات و علامات الإنسان النقي الشريف أنه صاحب ضمير حي ، و أن الحقيقة عنده مقدَّمة على أيّ وازع آخر لديه بما في ذلك مصالحه الشخصية ، و هذا ما رصدناه في ضمير و فكر و أخلاق تولستوي ، و مثال ذلك أنه عندما رأى بعض جمعيات التبشير في منطقة قازان الروسية تَنسب إلى الإسلام مَعرات و هِنات و مثالب هو منها براءٌ براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ، سارع تولستوي إلى تفنيد مزاعمها ، و بما أنه كان مطلعاً على القرآن الكريم و السيرة النبوية العطرة ، فقد ألف كتاباً صغيراً جعل عنوانه [ حِكمُ النبيّ محمد ] ضمّنه العديد من الأحاديث النبوية الشريفة ، و بعضاً من الآيات القرآنية المنتقاة ، تدور في مجملها حول تأكيد وحدانية الله تعالى و تنزيهه ، و إنسانية الإنسان و أنه كائن مكرّم مُفضّل ، و التحلي الدائم بحسن الخلق و الإحسان إلى الضعفاء و الفقراء و المساكين ، و الحرص على ما ينفع الناس .. إلخ ، و أرسل بتلك الرسالة إلى تلك الجمعيات .
ثم وَعَدَ في مقدمة تلك الرسالة بأنه سوف يؤلف كتاباً بعنوان ( محمد ) يسلط فيه الأضواء على شخصية رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم ، و شمائله و أخلاقه و صفاته و ما أسداه للإنسانية من خير عميم ، تَمثّل في ترسيخ مفهوم الدين الحق ، و بسطِ قيم التعاون و التعايش بين البشر جميعاً و نشر ثقافة السلام و الاحترام و كلّ ما يُسهم في سعادتهم .
و من بين العبارات النفيسة المؤثرة التي وردت في ثنايا هذه الرسالة الجليلة ما يلي : " مما لا ريب فيه أنّ النبيّ محمداً من عظماء المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة ، و يكفيه فخراً أنه هدى أمة ً برمتها إلى نور الحق ، و جعلها تجنح للسكينة و السلام ، و تفضّل عيشةَ الزهد ، و مَنَعها من سفك الدماء ، و تقديم الضحايا البشرية ، و فتَحَ لها طريق الرقي و المدنية ، و هو عملٌ عظيمٌ لا يقوم به إلاّ شخص أوتي قوةً ، و رجلٌ مثله جديرٌ بالاحترام و التوقير و الإكرام " . و في موضع آخر يقول تولستوي " و محمد لم يقل عن نفسه إنه نبي الله الوحيد بل اعتقد بنبوة الأنبياء السابقين مثل نبوة موسى و عيسى .. و في آخر رحلة رحلها إلى مكة جمع الحجاج [ حجة الوداع ] و ذكّرهم بجميع وصايا الإسلام ، و نصح لهم بأن يعيشوا مع بعضهم عيشة سلام و أمان ، وأن يكونوا إخوانا و أن يتناسوا الأحقاد القديمة ، و أوصاهم خيراً بزوجاتهم و عبيدهم .. إن الحق الذي لا مراء فيه أن النبيّ محمداً قام بعمل عظيم ، و مَن أراد أن يستيقن من حقيقة الدين الإسلامي عليه أن يطالع القرآن الكريم بإمعان " .
هكذا تكلم الأديب و الفيلسوف الروسي العالمي الكبير ليو تولستوي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و عن الإسلام ، و لا شكّ أنّ أقواله و آراءه تدلّ على الإنصاف و محبة إقرار الحقيقة ؛ و المسلم يسعد بوجود هذا الصنف من الحكماء ، و يروقه أن ينبري رجال الفضل المنصفون بالدفاع عن الحق و إرشاد الناس إلى الحقيقة ، فهؤلاء الحكماء هم مصابيح الأزمنة ، ينيرون الأفئدة و يجلون عنها ما رسخ فيها من أهواء و أباطيل و مَيْن الكُتّاب الذين يزيفون حقيقة الدين و التاريخ و العلم .
و صلّى و سلّم و بارك على النبي الخاتم و على آله و صحبه الأطهار.