429
0
رمضان محطّة روحيّة لغسل الأدران المعنويّة
بقلم الاستاذ سيد علي دعاس
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مَحَطَّاتٍ فِي حَيَاتِهِمْ يَتَطَهَّرُونَ فِيهِا مِنْ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، وَيتَزَوَّدُونَ فِيهَا بِالأعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، لِيُوَاصِلُوا دَوْرَهُمْ فِي إِعْمَارِ الأَرْضِ وَطَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَه.
وَمِنْ هَذِهِ المَحَطَّاتِ مَا هُوَ يَوْمِيٌّ كَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أُسْبُوعِيٌّ كَصَلَاِة الجُمُعَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَهْرِيٌّ كَصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلٍّ شَهْر، وَمِنْهَا مَا هُوَ سَنَوِيٌ كَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ إِلَّا َمرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي العُمْرِ وهو الحَجّ.
وَمِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالى- وَرَحْمَتِهِ بعِبَادِهِ أَنّه جَعَلَ بَعْضًا مِنْ هَذِهِ العِبَادَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالبَدَنِ؛ وَبَعْضَهَا مُتَعَلِّقًا بِالرُّوحِ؛ وَبَعْضَهَا مُتَعَلِّقًا بِالمَالِ. بينما الصّيَامُ جعله مِن الفَرَائِضِ التِّي تَجْمَعُ بَيْنَ الرُّوح وَالبَدَن مَعًا.
وَمَا أَكْثَرَ الأَحَادِيثَ التِّي تَنَاوَلَتْ فَضْلَ الصِّيَامِ وَثَوَابِهِ؛ مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".[1]
أَيْ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا بِأَنَّ اللهَ – تَعَالَى- فَرَضَه عليه، وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ والثّواب، وليس لِغَايَةٍ أُخْرَى مِنْ رِيَاءٍ أَوْ قَصْدَ التَّخَلُّصِ مِنْ أَمْرَاضٍ مَثَلاً، أَوْ رَاعَى فِي صِيَامِهِ الصَّوْمَ الحِسِيّ؛ بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا... دون الاهتمام بالصَّوْمٍ المَعْنَوِيِّ؛ بِتَرْكِ المَعَاصِي القَوْلِيَّة وَالفِعْلِيَّة مِنَ الكَذِبِ وَالزُّورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه".[2]
أمّا مَنْ يُرَاعِي في صومه الجانبين معًا (الحسّي والمعنوي) فإنّه – بإذن الله- يُغْفَرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
فَالنَّفْسُ البَشَرِيَّةُ كَالبَدن الذي تَعْتَرِيه الأَدْرَان،[3] فهي بِسَبَبِ الَمَعَاصِي تَحْتَاجُ لمَا يُطَهِّرُهَا وَيَغْسِلُهَا حَتَّى لَا تَتَرَاكَمَ عَلَيْهَا تِلْكَ المَعَاصِي، لأنّ تَرَاكُمَ الأَدْرَانِ عَلَيْهَا يُؤَدِّي إِلَى تَلَفِهَا بِالمَرَض، ثُمَّ المَوْت المَعْنَوِيّ الذِّي تَفْقِدُ مَعَهُ الإِحْسَاسَ بِالمَعَانِي السَّامِيَة، وَالكَمَالَاتِ البَشَرِيَّةِ الرَّاقِيةَ.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر[4] فِي َهَذَا المَوْتِ المَعْنَوِيّ:
"لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاِسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ *** إِنَّ المَيْت مَيِّتُ الأَحْيِاءِ
إِنَّمَا المَيْت مَنْ يَعِيشُ كَئِيبًا *** كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ
وَالحمد لله، الذي جَعَلَ لنا مِنَ المَحَطَّاتِ الِإيمَانِيَّةِ مَا نَغْسِلُ فيها النّفسَ مِن أَدْرَانَهَا، لتَعود إِلَى طهارتها وَحَيَوِيَّتِهَا؛ فَجَعَلَ الصَّلَاةَ إِلَى الصَّلَاةِ محطّة يوميةً، وَالجُمُعَةَ إِلَى الجُمُعَةِ محطّة أسبوعيةً، وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَان محطّة سنويةً... فهي مَحَطَّاتٌ نَغْسِلُ فِيها الذُّنُوب، وهذا لما رواه أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ".[5] لأنّ الكَبَائِر تَحْتَاجُ إِلَى تَوْبَةٍ صَادِقَةٍ، مِنَ الإِقْلاَعِ عَنْ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالعَزْمِ عَلَى أَلاَّ يَعُودَ العبدُ إِلَيْه.
أمّا إِنْ كَانَتْ الكَبيِرَةُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ العِبَادِ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ اسْتِحْلَاِلهِ لَهُ أَوْ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ صَاحِبِ المَالِ المَسْرُوقِ مُسَامَحَتَهُ.
وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم وَاسِع المَغْفِرَةِ لمَنْ صَدَقَ فِي تَوْبَتِه.