16

0

رابح خدوسي… حين تنتصر اللغة على النسيان ويقف الوفاء شامخًا في مسرح البليدة

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات، وتُزاح فيه اللغة العربية أحيانًا إلى هامش الاهتمام تحت ضغط العولمة والاستهلاك السريع للمعرفة.

الحاج بن معمر

جاء تكريم الدكتور رابح خدوسي بقاعة المسرح محمد التوري بمدينة البليدة كفعل ثقافي عميق الدلالة، يتجاوز حدود الاحتفال الشكلي ليُلامس جوهر السؤال الثقافي الجزائري: من يحمي اللغة؟ ومن يصون الذاكرة؟ ومن يدفع بالكلمة العربية لتبقى حية، قادرة على التجدد، وعلى مخاطبة الأجيال دون أن تفقد أصالتها؟.

لقد بدا المشهد، في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، أقرب إلى لحظة مصالحة بين الجامعة والمجتمع، وبين الباحث والمدينة، وبين اللغة وأبنائها الأوفياء. فالدكتور رابح خدوسي لم يكن مجرد اسم يُستدعى للتكريم، بل كان سيرةً علميةً وأدبيةً طويلة، اختزلت عقودًا من العمل الهادئ، والصبر المعرفي، والإيمان العميق بأن اللغة العربية ليست ماضيًا يُحتفى به في المناسبات، بل مشروع حاضر ومستقبل.

وُلد خدوسي من رحم الجزائر، وتفتّح وعيه في حضن العربية، فاختار منذ شبابه أن يجعل منها مسار حياة، لا تخصصًا جامعيًا فحسب، فانصرف إلى دراسة اللغة العربية وآدابها، وتدرّج في مدارج العلم باحثًا وأستاذًا جامعيًا، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا: أن تكون المعرفة جسراً لا جدارًا، وأن تكون الجامعة فضاءً للتنوير لا معبرًا شكليًا للشهادات.

لقد شكّل حضوره في الجامعة الجزائرية علامة فارقة، ليس فقط بما قدّمه من دروس ومحاضرات، بل بما بثّه من روح في نفوس طلبته، حيث لم يكن التعليم عنده تلقينًا، بل حوارًا، ولم تكن اللغة مادة جامدة، بل كائنًا حيًا يتغذى من التاريخ، ويتفاعل مع الواقع، ويُنتج المعنى.

تميّز الدكتور رابح خدوسي بقدرة نادرة على الجمع بين التحليل اللغوي العميق، والرؤية الأدبية الواسعة، والإحساس الإبداعي المرهف، فكان أديبًا حين يكتب، وباحثًا حين يُحلل، ومؤرخًا حين يستحضر الذاكرة، دون أن يفقد خيط الانسجام بين هذه العوالم. ومن هنا جاءت أعماله متنوّعة في الأجناس، غنية في المضامين، واضحة في الرؤية، حاملة لهمّ ثقافي وطني بامتياز.

ففي روايته “الضحية” الصادرة سنة 1984، لم يكن السرد مجرد حكاية، بل كان مرآة لأسئلة الإنسان والمجتمع، وفي مجموعته القصصية “احتراق العصافير” بدا الهم الإنساني متشابكًا مع الواقع الاجتماعي، بلغة مكثفة ودلالات عميقة. أما في سلاسله القصصية الموجهة، فقد نجح في مخاطبة القارئ البسيط دون أن يفرّط في القيمة الفنية، رابطًا الأجيال الجديدة بحكايات جزائرية تنبع من الأرض والذاكرة.

وإلى جانب الإبداع، كان خدوسي منشغلاً بالفعل التوثيقي والعلمي، مدركًا أن الأمم التي لا توثّق ذاكرتها محكوم عليها بالتشظي، فأنجز “موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين”، مساهمًا في حفظ أسماء وتجارب صنعت الثقافة الوطنية، كما قدّم “موسوعة الأمثال الشعبية الجزائرية” باعتبارها خزّان حكمة جماعية، وذاكرة شفوية تعكس روح المجتمع وتحوّلاته.

وفي كتابه “ألف صورة وصورة من أيام الثورة”، اشتغل على التاريخ بوصفه سردًا ووعيًا، لا مجرد تواريخ وأرقام، مستحضرًا الثورة الجزائرية كملحمة إنسانية وثقافية قبل أن تكون حدثًا عسكريًا.

إن هذا التنوّع في الإنتاج لم يكن ترفًا معرفيًا، بل تعبيرًا عن رؤية شاملة للثقافة، ترى في اللغة العربية وعاءً جامعًا للأدب، والتاريخ، والتراث، والفكر، وترى في المثقف فاعلًا اجتماعيًا لا معزولًا عن قضايا أمته.

ومن هنا، فإن تكريم الدكتور رابح خدوسي لم يكن تكريمًا لمسار فردي فحسب، بل كان اعترافًا بقيمة العمل الثقافي طويل النفس، وبأهمية الباحث الذي يشتغل في صمت، بعيدًا عن الأضواء، لكنه يترك أثرًا عميقًا في الوعي الجمعي.

لقد حمل هذا التكريم رسالة واضحة مفادها أن الجزائر، رغم كل التحديات، لا تزال قادرة على الاعتراف بأبنائها الأوفياء للغة والثقافة، وأن المؤسسات الثقافية، حين تلتقي مع الإرادة المحلية، تستطيع أن تصنع لحظات مضيئة في المشهد العام.

وفي أسبوع اليوم العالمي للغة العربية، اكتسب هذا الحدث رمزية إضافية، إذ بدا وكأن اللغة العربية، وهي تواجه تحديات العصر الرقمي والتراجع القرائي، تجد في مسيرة خدوسي نموذجًا حيًا للصمود والتجدد، نموذجًا يؤكد أن العربية ليست لغة ماضٍ متحفي، بل لغة فكر وإبداع وبحث علمي، قادرة على مواكبة العصر متى وجدت من يؤمن بها ويخدمها بصدق.

إن تكريم رابح خدوسي هو تكريم للمعلم الذي لم يبخل بعلمه، وللباحث الذي لم يساوم على العمق، وللأديب الذي كتب من قلب المجتمع وإليه، وهو في الوقت ذاته دعوة مفتوحة للأجيال الجديدة كي تعيد اكتشاف لغتها، لا بوصفها واجبًا مدرسياً، بل هويةً حيّة، وفضاءً للتعبير، وأداةً للفهم والتغيير.

وهكذا، لم يكن المسرح محمد التوري في تلك الأمسية مجرد فضاء للاحتفال، بل تحوّل إلى منبر للوفاء، وإلى شاهد على أن الكلمة الصادقة لا تموت، وأن من يزرع المعرفة يحصد الاعتراف ولو بعد حين، وأن اللغة العربية، ما دامت تنجب رجالًا من طينة رابح خدوسي، ستظل قادرة على الوقوف شامخة في وجه النسيان.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services