386
0
ميادة سليمان في "حكايات شامية" وجهاً لوجه مع القصة الواقعية

بقلم : فرحان الخطيب
إذا كانت القصة القصيرة من حيث بنائها وأغراضها تنتمي إلى أنواع عدة، كالفانتازيا والبوليسية والخيال العلمي وغير ذلك، فإن ميادة سليمان بدأت منذ العنوان بإعلانها أن قصصها قصص واقعية، تنطلق من بيئة شامية، وبهذا تكون قد أعلنت عن عنصر هام من عناصر تكوين القصة القصيرة، وقد كانت الشام السورية مكاناً تدور فيه قصص الكاتبة بشكل واضح وجلي، وفي إهدائها حكاياتها لزوجها تثبت ميادة صوابية رؤيتنا إلى أن ما تكتبه ليس حلماً وخارج حدود الواقع، بل كان إهداؤها لمن قاسمها واقعية الحياة التي يعيشانها راسمين طموحهما بالأمل، ويعملان على السير فيه بجد واجتهاد.
وإذا حددنا التوصيف أكثر لقصص ميادة نجدها قد تعمقت بدراسة واقع مجتمعها، وأتت على سلبياته التي يعيشها في زمن يجب علينا أن نتجاوزها، وننطلق إلى الأسمى والأجل والأرحب، وأن نرمي خلفنا كل العادات والتقاليد والأعراف التي لما تزل تشدّ بقبضتها على منعنا من الانعتاق، وما زالت تغلق نوافذ الحرية التي هي حلم كل مواطن، فهي طريق الخلاص والتقدم .
ولكي تعفينا الكاتبة من التقصي والبحث في التبويب والتصنيف فيما كتبت، فقد أشارت إلى أن حكاياتها انضوت تحت ثلاثة عنوانات رئيسة وزعت قصصها عليها بالتساوي تقريبا، وكانت رؤيتها واضحة، وقصديتها في مرمى إبداعها محققة، ولأنها قصّها كان واقعيا بامتياز فقد متحت أفكارها من معين محيطها، بل ومن تجاربها الشخصية كما نوّهت في أكثر من قصة، وكما يستشف القارىء الحصيف من خلال سير وسلوك شخصياتها، وإذا عرفنا أن ميادة تعمل في سلك التعليم ندرك كم كان ولعها وشغفها كبيرين في البحث عن القيم التربوية والأخلاقية والجمالية، محاولة ترسيخها من خلال الكتابة عن أضدادها ونتائجها المدمرة في مداميك البناء المجتمعي التي تتوخاها صلبة ومتينة وشاهقة.
عنونت ميادة القسم الأول ب " اعترافات ضمير" والذي احتوى على ست عشرة قصة قصيرة، وكانت الشخصية البطل في كل قصة هو " الضمير" مشاركة مع صاحبه كي يكتمل الحدث، والكاتبة تدرك بوعي تام أن القصة القصيرة غالباً ما تقدم لنا حدثاُ واحداً في زمن محدد، وأبطالها أشخاص قليلون، وبهذا نكون أمام إجادة بالغة من هذه الناحية من قبل القاصة، فبالإضافة إلى البطلين الرئيسين الضمير وصاحبه، هناك شخصيات ثانوية تدخل على البناء الدرامي لتكتمل الحبكة، وغالبا يكون حضورهم بعد العقدة، أي عند الحلحلة والنهاية، مثال على ذلك :
قصة " سعادة آثمة " تتلخص أن رجلاً اغتصب طفلة، أودعتها جارتها عند زوجته أمانة ريثما تعود من مشوار أقتضته الحاجة، واضطرت الزوجة لترك الابنة الأمانة النائمة في البيت لتحادث جارتها لأمر مهم، فقام الزوج واغتصب الطفلة، وحاول الهرب، إلا أن صراخ زوجتها بعد عودتها بالوقت المناسب، جعل الجيران يقبضون عليه ويسلمونه للعدالة.
بطلا القصة هما الرجل وضميره الذي حاوره مطولا دون أن يفلح بثنيه عن جريمته البشعة والنكراء والتي تمس أقدس القيم التي نعتز بها وهي أنسنة الإنسان ، وجاءت الشخصيات الأخرى تلبية لمتطلبات الحدث، الطفلة والزوجة والجيران، ويقوم السرد في معظم هذه القصص على حوار سريع بين الضمير وصاحبه، ثم سرد محمول على لغة مفهومة وواقعية، لم تتكلف فيها القاصة، ولم تحمّلها فوق طاقتها، ولم تترك النهايات مفتوحة، بل وضعت الحل لكل قصة وغالبا الإيداع بالسجن، وهنا تنوه أن فعل الشر لن يمر وهو منبوذ في مجتمعنا، ولكنه يقع عند بعض الضمائر التي تنام ساعة وقوع الخطأ، بعد مجادلة لغير صالحه مع صاحبه.
وأما في قصة " اخطبوط " والذي قَتَلَ فيه المسؤولُ موظفا نزيها كشفَ عن تورطه بقضايا فساد فادحة، نرى أن النهاية تُركتْ مفتوحة لأكثر من تأويل، ولظني أن القاصة من أجل أن تعمق واقعية القص، تدرك أن مثل هكذا جرائم من الممكن أن ألا تنتهي بالعقاب المناسب لخلل في العدالة، ولهذا تركت نهايتها مفتوحة.
وفي القسم الثاني المعنون ب " يوميات طالبة مظلومة " رسخت ميادة قدرتها على التجديد والجرأة بآن معاً، فأطلقت العنان لواقعية الهواجس التي تنتاب طالبة مراهقة في مثل هذا السن، وعدم قدرتها على إعطاء ال " أنا " حقّها في الظهور من قبل المجتمع ال " هو " والقيم العليا ال " أنا الأعلى " فذهبت إلى بوح بقالب قصصي رهيف ورشيق ومقصود في بنائه أيضا، ويحسب للكاتبة، أنها لم تتنمّط في القفص البنائي المقرر لتوليد القصة القصيرة عالمياً، كما ابتكره الروسي أنطون تشيخوف في القرن التاسع عشر، أو كما أرساه العرب في مطلع القرن العشرين على يد الأخوين تيمور ومن جاء بعدهما، بل حاولت ميادة أن تقول أن هناك أجيالاً تتعاقب وتبدع ما تراه مناسبا لأفكارها، وتركت للنقاد - بحكم أن الإبداع أولا – أن ينقدوا وينفوا ويكتبوا ما يشاؤون، ولذلك استنطقت طالبة مجتهدة يخفق قلبها في الحصص الدراسية، على غير المعتاد، ففي درس العلوم عندما يسأل المدرس عن اسم الغشاء الذي يغلف القلب، يرد بوحها الهامس، مناجية من تحب :
"إن الغشاء الذي يغلف قلبي ويحميه، هو حبّك"
وفي درس الرياضيات الممل والجاف، تهمس الطالبة :
"بعض معادلات القلوب مستحيلة الحب، كالخطين المستقيمين قلبي وقلبك، مهما اشتاقا لا يلتقيان".
وفي درس الفيزياء تتمتم بصوت خافت :
"أجمل قوانين الحب، سقوط قلبي أمام جاذبية عينيك ".
ولعلّ اهتمام القاصة بهذا النوع من الدفقات الشعورية والشاعرية خلال الدوام في المدرسة أو الجامعة، جاء بعد أن رأت بعض الانحرافات والتي هجست منذ بداية مجموعتها " حكايات شامية " بأن مضمون قصصها كان يسلط الضوء على بعض الأخطاء المجتمعية والواقعية، وهنا أشير إلى واقعتين في هذا القسم، الأولى تتعلق بدرس الجغرافية، فقد وجدت الطالبة أن المدرس يجب أن يكون أباً أو أخا كبيراً، ولكنه من نظراته كان غير ذلك، فانكبت على دفترها لتكتب :
"إنّ هناك جبلاً اسمه الوفاء، يقع بين قلبين عاشقين، وأن أجمل نهرٍ في العالم هو نهر الحب، الذي روافده الإخلاص والاهتمام والصدق ".
وعندما قرأ المدرس أخذها للمدير وتم فصلها.
والواقعة الثانية مع مدرسة الديانة، حيث كان جواب الطالبة رعداً إيمانياً يخلف رذاذً ناعماً يتناغمُ مع حب الله ، سألتها المدرسة :
" كيفَ يصلّي والدُك، هل يسبلُ يديه، أم يضعهما على صدره، فأجبت : يضعها في يدي الله، صعقها جوابي، من يومها بدأت تتآكل علاماتي".
وهاتان واقعتان تدلان على ما يشوب حصص التعليم من هفوات وأخطاء تقع في دائرة وضع المنهاج أو سلوك المدرس .
وأشير إلى ماتمتمت في درس القومية، كم حمّلت مشاعرها الرقيقة من الوجع والألم، اللذين يجتاحا الوطن بطريقة شاعرية حفلت بها هذه الجمل القليلة :
" عيناك انتمائي، قلبك وطني، اسمك قوميتي، وحبك تاريخي، كلّ خيام اللجوء باردة ، إلّا خيمة قلبك يدفّئها الحب، منذ أن استعرتْ الحرب في وطني، وأنا لاجئة تحت نخيل قلبك."
وفي درس الخياطة تعلو شاعرية القاصة :
" سأخيط من كلماتي لك قميص عشق، لونه ياسمين قلبينا، أكمامه أشواق، وأزراره حروف حبّ قلتها لي، وربطة عنقه قبلة حمراء . " .
والقاصة الشاعرة في هذا القسم، جذبت انتباهنا إلى وجود الشاعرية في شكل أخر من أشكال السرد النثري، ولم تطلق عباراتها في فضاء الشعر الدّاهش، بل ألقتها على أرائك القص لتمزج اللونين في خلطة سحرية واحدة ، نتج عنها هذه اللمع القصصية، الموشاة والمتلفعة بغلالة الشعر دون أن تفقد الغرضية في طرحها، علما أننا لو جئنا إلى مسطرة النقد القاسية، ربما نخرجها من دائرة الشكل المتفق عليه نقديا، ولكن من قال إن الإبداع يخضع لهذه المساطر، وأنا من أنصار هذا الإنعتاق الإبداعي الراهج.
وتحت عنوان " العزف الحزين الذي وسمت به جزء الحكايات الشامية الثالث، نجد القاصة قد نوّعت بقصصها من حيث موضوعاتها، الوطنية والاجتماعية، وكلها تصب في غاياتها التي ما انفكت تعلن عنها عبر سردها الحكائي الشّيّق والماتع.
ففي قصة " وسام ما بعد الموت " تشير القاصة إلى تكريم شاعر قضى حياته بالفقر دون أي انتباه أو رعاية، وقبل أن يغادر هذه الدنيا دعوه لحفلة تكريمية فرفضها، مشيراً إلى أن الإكرام يجب أن يكون الأديب مكرما في حياته، مختتمة القصة بمقولة مقتبسة من كتابات جبران خليل جبران، فقالت: ويل لأمّة لا تعرف قيمة مبدعيها.
وفي قصّة " معايدة " والتي تسطع بحب الانتماء للوطن، والتضحية لأجل حريته، تزور الأم ابنها الشهيد في عيد الأم، لتؤكد لجاراتها من النسوة أن ابنها هو من عايدها، وهذه دلالة على أن الشهيد يبقى حيّاُ عند أهله ووطنه.
ميادة سليمان في " حكايات شامية " اعتمدت الإسلوب البسيط غير المربك من حيث عناصر القصة جميعها، فأشخاصها قليلو العدد، ولا يوجد عقد في حبكة القصة تجعلنا نجهد لنطارد حلها، وكان المكان واضحا في البيئة الشامية من المدرسة للبيت للشارع للحارة، ولم تغرق بالغموض أثناء السرد مستعينة بشاعريتها ما جمّل السرد مع المونولوج الذي أظهرته من خلال البوح مع الأنا أو الذات، فأدت بذلك ما ابتغت من أهداف تعليمية وتربوية وتصحيح عادات وتقاليد اجتماعية خاطئة، وكل ذلك تحت عنوانات كبرى تنشدها القاصة وهي القيم الأخلاقية المثلى التي يجب على المجتمع أن يتحلى بها، ويسعى لتحقيقها على أرض الواقع .
واغتنم الفرصة لأقول أن ميادة سليمان اشتغلت في عدة حقول من حقول الأدب كالشعر والقصة والرواية وأدب الأطفال والنقد، وهذا ما يجعلني أبارك لها مهنّئاً على مجموعتها القصصية هذه، متمنياً لها المزيد من العطاء والإبداع ..