309419
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 146

بقلم اسماعين تماووست
كان واضحًا تمامًا في تلك اللحظة الحاسمة: إذا لم أتمكن من إيقافهم، سواء أحياءً كانوا أم أمواتًا، فإن هؤلاء الإرهابيين لن يتركوا لنا فرصة للبقاء. كانوا يمضون في طريقهم بلا ضمير، يعيثون في الأرض فسادًا، يجمعون بين أيديهم أرواح الأبرياء، بلا تمييز، حتى الأطفال لم يسلموا من بطشهم. كانت بشاعة ما ارتكبوه من جرائم لا تُحتمل، وكأن الدماء التي أراقوها كانت رسالة من الشيطان ذاته.
في تلك الفترة، كان تمردهم المشؤوم، الذي أسسوه على أكاذيب وافتراءات، يرافقه سلسلة من الجرائم البشعة التي لا تُعد ولا تحصى، ارتكبوها ضد شعب لم يكن يفهم سبب هذا العنف الهمجي الذي ضربه بغتة، في حين كان هذا الشعب بريئًا تمامًا، عاجزًا عن الدفاع عن نفسه، بلا سلاح سوى سكونه الذي يقتله.
لكنني كنت أعرف بعمق أنه في اللحظة التي أتمكن فيها من القضاء على إرهابي أو أكثر، كنت قد أنقذت، بلا شك، حياة العديد من الرجال والنساء في وطني.
قد يرى البعض هذه الأفعال كأعمال همجية، ولكن الحقيقة أنها كانت تجسيدًا حقيقيًا للشجاعة، كانت مواقف لا مجال للتردد فيها. كشرطي، كان واجبي في الدفاع عن وطني وشعبي جزءًا من إيماني العميق برسالتي. كنت أدرك، أكثر من أي وقت مضى، أن هذه المعركة لم تكن مجرد معركة ضد الإرهابيين، بل كانت معركة ضد الظلم والشر الذي يهدد كل ما نؤمن به.
مهما كانت خطورة المهمة، فإنني كنت مستعدًا لها، إذ إن وطني، الذي تربيت فيه وعشته لأجله، كان يستحق كل ما يمكنني بذله من جهد، وكل قطرة من دمي. لقد كانت هذه الفضائل، الشجاعة والإخلاص، هي التي تحدد هويتي وتوجّه خطواتي في هذا الطريق.
لم يكن الأمر متعلقًا فقط بالدفاع عن الوطن فحسب، بل كان عن الإيمان بالقيم التي تربيت عليها. كان إيماني العميق بخالقنا، وثقتي في أن كل خطوة أقدم عليها هي جزء من مصير أكبر، هو ما منحني القوة للاستمرار. لم تكن تلك التضحية مجرد واجب عسكري أو مهني، بل كانت فعلًا إيمانيًا في ذاته. كنت أشعر في أعماقي أن كل فعل أقدمه، مهما كان قاسيًا، كان يقربني من رحمة الله، وكان ذلك هو الأمل الذي يضيء طريقي وسط الظلام. وإذا كان ثمة جزاء، كنت على يقين أن مكافأتي لن تأتي من أحد سواه، بل ستكون في الآخرة، حيث لا يُضيع أجر من عمل صالحًا.
في ليالي الظلام الحالكة التي اجتاحت الوطن، كان صوت الرصاص يخترق السكون، محملاً بذكريات الألم والأمل، يكتب صفحات من المعاناة والصمود في تاريخنا المشترك. لم يكن الخوف مجرد عدو عابر، بل كان رفيقًا دائمًا، يرافقنا في كل خطوة ونظرة، اختبارًا حقيقيًا لقوة الإرادة وصلابة الإيمان، كنا، نحن رجال الشرطة، نقف على خطوط النار في مواجهة خصمٍ لا يرحم ولا يعرف حدودًا إنسانية.
لقد أدركنا جميعًا أن مهمتنا لم تكن محصورة فقط في تنفيذ القوانين، بل كانت تتعلق بحماية ما تبقى من حياة وكرامة، بل بحماية أمل الناس في غدٍ أفضل، كان الخطر يلوح من كل زاوية، لكن كانت هناك لحظات صغيرة تكشف لنا بوضوح أننا لسنا وحدنا في هذه المعركة. فبينما نواجه الإرهاب المتسلل إلى كل ركن في وطننا، كنا نعلم أن القيم التي نقاتل من أجلها هي ما يبقي الوطن حيًا في قلوب الناس.
ومع مرور الوقت، بدأنا ندرك أنه حتى في أحلك اللحظات، يجب أن نكون النور الذي يضيء الطريق للمستقبل. في إحدى العمليات المعقدة التي قادتنا إلى تفكيك شبكة إرهابية خطيرة، وقفت لحظة، أغمضت عينيَّ لبضع ثوانٍ، شعرت بالظلام، لكنني أيضًا شعرت بقوة هذا النور الذي لا يمكن للإرهاب أن يطفئه. أدركت في تلك اللحظة أن ما نقوم به ليس مجرد وظيفة، بل هو تضحية ووفاء للوطن.
كل يوم في عملي كشرطي كان يمثل درسًا جديدًا في الحياة. كانت المهام لا تنتهي، والأحداث تتسارع كالعواصف التي لا تهدأ. في بعض الأيام، كنت أشعر وكأنني أعيش في معركة مستمرة، بين الحفاظ على سلامتي الشخصية وأداء واجبي على أكمل وجه.
في الواقع، لم يكن القتال مع الإرهابيين هو التحدي الوحيد الذي واجهته، بل كان أعظم التحديات في داخلي، في كيفية الحفاظ على توازني الشخصي وإيماني بقيم العدالة والحق في ظل هذا الظلام.
في إحدى القضايا التي تطرقت إليها، دخلت منزلًا كانت العائلة قد فقدت فيه كل شيء. كان المنزل مليئًا بالحزن، حتى أن جدرانه بدت وكأنها تبكي أيضًا. ولكن، في وسط تلك الأجواء المظلمة، كانت هناك لحظات من الإنسانية النقية. كانت دموع الأم تفيض من عينيها، بينما عيون الأطفال الصغار تملؤها الأسئلة عن معنى الحياة بعد كل هذا الألم. كنت أشعر وكأنني في موقف لا يمكن تفسيره بالكلمات، فكيف لي أن أواسيهم أو أقدم لهم شيئًا يعيد إليهم الأمل؟
لكنني تعلمت في تلك اللحظة أن مهمتي لم تكن مجرد تطبيق القانون، بل كانت تهدف إلى إعادة الأمل إلى القلوب التي سلبتها سنوات من العنف والدمار. مع كل عملية إنقاذ، ومع كل خطوة نحو تحقيق العدالة، كنت أكتشف جوانب جديدة من نفسي ومن وطننا الذي يستحق الكثير. ومع مرور الوقت، أدركت أن القدرة على الحفاظ على الأمل في أحلك الأوقات هي القوة الحقيقية التي يمتلكها الإنسان.
بينما كنت أواصل عملي في مواجهة الإرهاب، كنت أكتشف شيئًا عميقًا داخل نفسي. في وسط المعركة التي لا تنتهي، هناك لحظات صغيرة تظهر لنا الإنسانية في أبسط صورها. كانت تلك اللحظات التي جعلتني أستمر، حتى عندما كانت الظروف تزداد صعوبة. في كل قضية، وفي كل تحقيق، كنت أرى الجانب المظلم من الواقع، ولكنني أيضًا أرى النور الذي ينبعث من أفعالنا.
أحد المواقف التي لا أستطيع نسيانها كانت عندما قمنا بإنقاذ عائلة من مأساة كانت قاب قوسين أو أدنى. وصلنا في اللحظات الأخيرة، وكانت الأوضاع أكثر تعقيدًا مما كنا نتوقع. على الرغم من الفوضى والتهديدات المتزايدة، كان الهدف واضحًا في أذهاننا: حماية الأبرياء مهما كلف الأمر.
بينما كنا نخرج من المبنى المحترق الذي كان قد تضرر جراء التفجيرات، لاحظت أن الأب الذي كان لا يزال في حالة من الصدمة بدأ يستعيد شيئًا من إنسانيته. كانت دموعه تتناثر على وجنتيه وهو يقول لنا: "أنتم الأمل الوحيد الذي لدينا الآن." كلمات كهذه كانت تعني لي أكثر من أي وسام شرف.
كان ذلك الدرس يزداد وضوحًا في كل مرة: في كل حياة ننقذها، وفي كل شخص نساعده، هناك جزء منا يتجدد. هذا هو المعنى الحقيقي للوطنية: التضحية من أجل الآخرين، واستمرار السعي وراء العدالة والأمل في مواجهة كل المآسي.
يتبع...