302
0
مصير ديكة وزراء الأمير!
بقلم: محمد شريم
*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام
عرف أمير أحد الأقاليم بحبه لصراع الديكة، فأوعز إلى أبناء شعبه بتنظيم مهرجان سنوي لهذا الغرض، يحضره بشخصه مع وزرائه ومستشاريه وكبار رجال الدولة بالإضافة إلى عامة الشعب.
وكان من عادة هذا الأمير أن يطلب من منظمي المهرجان أن يحضروا الديكة المغلوبة
- دون المنتصرة لغرض في نفسه - إلى مطبخ قصره ليعد له الطاهي منها الطعام والحساء، وعندما سئل عن هذه العادة الغريبة قال أنه يجد الكثير من المتعة في أكل الديوك الضعيفة. أما الديوك القوية المنتصره، فكان يأمر لكل منها بما يكفيها من الأعلاف لمدة عام كامل، وخصص مكافأة مالية لملاكها، لتشجيع الناس على الاقتداء بهؤلاء الملاك بالعناية بالديوك وتدريبها على المصارعة.
فازداد عدد المقبلين على تربية الديكة، وازدهرت هذه المصارعة في تلك البلاد. ولما رأى الوزراء ما كان يحظى به ملاك الديكة ومربوها في ذلك المهرجان من التكريم قرر كل منهم أن يربي ديكا، وأن يعده للمشاركة في ذلك المهرجان في وقته المعتاد، لعله يفوز في المصارعة، فينال شرف فوز ديكه، حتى لو لم يكن بحاجة إلى المكافأة.
فاحتج مربو الديكة من أبناء الشعب على رغبة الوزراء في مزاحمتهم بهذا المهرجان، ولما وصل الاحتجاج إلى علم الأمير بحث شكوى الناس مع وزرائه، فتظلم الوزراء أمام الأمير، وأعلنوا أنهم مواطنون كسائر أفراد الرعية ويحق لهم ما يحق لغيرهم بغض النظر عن طبيعة وظيفتهم.
فتقبل الناس حجة الوزراء على مضض، ولكن الذي أثار حفيظتهم بعد انتهاء المهرجان الذي شاركت فيه ديكة الوزراء للمرة الأولى، أن المحكمين المكلفين بإعلان فوز الديكة أصبحوا يميلون في أحكامهم إلى محاباة الوزراء، كأن يفصلوا بين الديكين إذا استشعروا إرهاق ديك الوزير، ليأخذ قسطا من الراحة، بهذه الحجة أو تلك، أو بأن يؤخروا فوز الديك الخصم أو تسريع الحكم بفوز ديك الوزير قدر المستطاع.
فبدأ العوام من أبناء الشعب بالأحجام عن إحضار الديكة للمشاركة في المهرجان، وبعد ثلاثة أعوام من بدء مشاركة ديكة الوزراء في ذلك المهرجان، لم يعد من عامة الشعب من يشارك فيه بديكه، ولكن الكثيرين منهم استمروا بحضور المهرجان كمتفرجين، وحينذاك أصبحت المفاضلة في المحاباة من قبل المحكمين هي بين الوزراء أصحاب الديوك، فصاروا يميلون في تحكيمهم مع هذا الوزير أو ذاك بناء على قوة الوزير ومصالح المحكم!
فاحتدت المنافسة بين الوزراء، وانصرفوا عن شؤون الحكم إلى شؤون الديكة، وأصبحت هي موضع اهتماماتهم وموضوع محادثاتهم ومحور مناقشاتهم وميدان مفاخراتهم ومجال خلافاتهم، فأهملوا أمور الرعية إلى حد كبير، فبدأت أحوال الناس بالسوء، وألسنتهم بالتذمر.
فأصدر الأمير مرسوماً رسميا سماه "مرسوم مصارعة الديكة" يقضي بإنشاء حديقة لديكة المصارعة، بطرف العاصمة، تودع فيها ديكة الوزراء، وفق ما ينبغي أن يكون عليه حالها كديكة للمصارعة، على أن يكون لكل وزير الحق في أن يزور ديكه مرة في الأسبوع، وله أن يعهد بأمر متابعة شؤون الديك إلى من يثق به، وذلك حتى يتفرغ الوزراء لعملهم المعتاد.
كما نص مرسوم الأمير على عزل محكّمي المهرجان جميعا، واعتماد لجنة محكمين في كل جولة من جولات المصارعة، من جميع الوزراء باستثناء الوزيرين مالكي الديكين المتنافسين، وذلك حفاظا على النزاهة وللحد من إمكانية وقوع الخلافات.
فرحب الوزراء بهذا القرار في بادئ الأمر، لأنه يمنح ديوكهم الامتيازات، ولأنه يعفيهم من الحرج ومشقة المتابعة الحثيثة، ولكن الأمر لم يسر وفق ما توقعوا تماما، فقد صار المحكمون ينقسمون في كل مرة من مرات التحكيم إلى فريقين، كل فريق منهما يميل لأحد الديكين، وفق علاقة الوزير المحكم مع الوزير صاحب الديك، وهذا ما زاد الوزراء انقساما، وضاعف من مشاحناتهم ومشاجراتهم ومن حرص كل منهم على متابعة شؤون ديكه وتدريبه، حتى ولو لم يستطع زيارته إلا مرة واحدة في الأسبوع، وفق مرسوم الأمير.
فازداد تذمر الناس وتعاظمت شكواهم، وذات يوم خسر ديك أحد الوزراء المعركة، فشعر الوزير بالحقد على زملائه الوزراء المحكمين وعلى الوزير صاحب الديك الفائز، فقرر الانتقام منهم جميعا.
وعندما اقترب موعد المهرجان التالي، ذهب الوزير إلى آمر محرس حديقة الديكة وقال له: كم تتقاضى من المال مقابل عملك يا آمر المحرس؟ فقال له الآمر: ستة دنانير ذهبية في العام. فقال له الوزير: هي لك مع مثليها مقابل خدمة لن تكلفك الكثير! فسأله الآمر: وما هي؟ فأجاب الوزير: ما دمنا اتفقنا على العمل، فلنلجس قليلا لنتحدث.
وفي يوم المهرجان، دخل الأمير من ممر أسفل المدرج الذي تقام في ساحته مصارعة الديكة، وهو مدرج حجري متوسط الارتفاع، وأخذ مكانه في مقصورته الكائنة بمحاذاة الممر المخصص لكبار الحضور، وما أن قرع ناقوس بدء المهرجان كما جرت العادة، حتى دخل ساحة المهرجان آمر المحرس ليقول بصوت متهدج: بعد التحية لسمو الأمير ولجميع الوزراء وأبناء الشعب، فإن عندي خبرا غير سار! فقال الوزراء من مقصورة المراقبة الكائنة على الجانب الثاني من الممر: ما هو أيها الآمر؟ فقال: لقد نفقت الديكة! فخرج من المقصورة أحد الوزراء واقترب من الآمر وهو يقول: ماذا تقول يا نذير الشؤم؟ فأجاب الآمر: هو ما سمعت أيها الوزير! فصاح آخر: وكيف حصل ذلك وأنت آمر المحرس يا عديم المسؤولية؟ فقال آمر المحرس: بالغت في توصية الحراس الثلاثة الذين تحت إمرتي بتفقد الجدار المحيط بحديقة الديكة في الليلة الماضية، بأن يتفقده كل منهم لمرة واحدة، وذلك بدلا من أن يتفقد هذا الجدار حارس واحد لمرة واحدة كما هو الحال في كل ليلة، ولكن الذي حدث هو أن كل واحد من الحراس اطمأن إلى متابعة زميليه، فقال في نفسه: ماذا لو تأخرت عن تفقد الجدار في هذه الليلة، فإننا في كل ليلة نتفقده مرة واحدة، ويكفي أن يتفقده زميلاي مرتين هذه الليلة! فجاء أحدهم فأحدث ثغرة أسفل الجدار، فدخلت الذئاب وقتلت ما قتلت وأخذت ما أخذت من الديكة! والحراس جميعا يعترفون بذنبهم، ومستعدون لتلقي العقوبة على هذا التقصير!
عندئذ وقف الوزير السابق الذي أعد المكيدة وأعلن على الملأ من أعلى المدرج أنه شاهد في الليلة السابقة لنهار المهرجان - على ضوء القمر - عبر نافذة منزله في الوادي المقابل للمنزل مجموعة من الذئاب وكان بين فكي بعضها ما يشبه الديكة!
فصاح رجل من بين الحضور: يحيا العدل! تحيا الذئاب! فصاح به أحد الوزراء: أتشمت بنا يا عديم الولاء؟! سترى عقابك! وما أن أتم الوزير كلمته حتى انطلقت الحناجر بالهتاف: يحيا العدل! تحيا الذئاب! .. يحيا العدل! تحيا الذئاب! وعم الهتاف أرجاء المدرج، فغادر الأمير والوزراء المكان على عجل، وما لبث الخبر أن وصل إلى العاصمة، فنزلت جموع الشعب إلى الشوارع مرددة الهتاف: يحيا العدل! تحيا الذئاب!
فاستدعى الأمير قائد الجيش على عجل، وأمره بتهدئة الجموع الثائرة، فاعتذر القائد قائلا: لا يستطيع جنودي إحراق عاصمتهم أيها الأمير! وبعد تلك اللحظة لم يعثر للأمير أو أي من وزرائه على أثر!
وعندما علم الناس باختفاء الأمير والوزراء، وبرفض قائد الجيش موافقة الأمير على مواجهة الناس، علا شأن قائد الجيش بأعين الناس، فهتفت الجموع باسمه، فدعا القائد تلك الجموع إلى المدرج في اليوم التالي للتشاور بشأن حكم الإقليم، فحضر من الناس من حضر، وجلسوا على المدرج ينتظرون قدوم قائد الجيش وأعوانه، وكانت فرقة من الموسيقا تعزف المعزوفات الحماسية، وبعد ثلاث ساعات من الانتظار دخل القائد يرتدي بزته العسكرية ووراءه عشرة من معاونية، بعدد الوزراء السابقين، في طابور واحد، ووقفوا في الساحة التي تتصارع بها الديكة، أمام المدرج، ثم تقدم القائد ليقف منفردا، واصطف معاونوه خلفه الواحد بجوار الآخر، بشكل منتظم، وتحدث القائد أما الناس بنبرة حماسية مهنئا إياهم بنجاح ثورتهم، ووجه الشكر لهم على الهتاف له، مؤكدا أنه يعتبر هتافهم بمثابة تكليف له بأن يقود الإقليم في السنوات المقبلة، وقال: وبناء على اختياركم المقدر لي كحاكم للإقليم، فإنني أعلن عن تعيين هؤلاء المعاونين العشرة كوزراء جدد في حكومة الثورة، فانبرى الناس بالتصفيق الحار والهتاف العالي، وهم يشعرون بفرح غامر لنجاح ثورتهم وأمل عظيم بها، لكن الذي لفت انتباههم ولم يجدوا له تفسيرا آنذاك هو أن كلا من هؤلاء الوزراء كان يحمل في يده قفصا ذهبي اللون فيه ديك فتيّ!
وعندما سمع شاعر الإقليم وحكيمه قصة ديكة وزراء الأمير قال:
ظلموا الديوكَ إذ اعتنَوا بصراعِها
فصِراعُهــا من قَسْــوةِ الإنســــانِ
لكــنّ أطــرافَ الصّـــراعِ حقيقـــةً
مَـــنْ أَدخَلوهــا عَركـــةَ الميــدانِ