189

0

منهج الحضارة الإنسانية للشيخ الإمام محمد سعيد رمضان البوطي



كتاب في مقال / محمد مراح
مجلة الأمة /عدد 72 /ذو الحجة 1406 ه
  تنويه :
°°°°°°°°
كانت قطر تطير بجناحي الهوية ( العروبة و الإسلام ) إلى أرجاء العالم العربي ؛الجناح العربي ترفع لواءه مجلة ( الدوحة ) ، والجناح ( الإسلامي ) ترسل أنواره مجلة ( الأمة ) – تأسست في غرة محرم 1401 هـ الموافق نوفمبر 1980 م  –   وتوقف طال المجلتين جميعا سنة 1986 م . وكم تركت المفاجأة من دهشة وأسى بالغين في نفوس  المثقفين ، وعامة القراء المهتمين أنئذاك.

.وقد كانت كل منهما تحمل غذاء  ثقافيا وفكريا وروحيا باذخا ، كل شهر إلى ربوع العالم العربي ، يتهافت على التغذي منه بنهم جمهور واسع ، في زمن ثقافي اتسم بعديد من المميزات :في مقدمتها  الإقبال  الواسع على القراءة والمطالعة ؛ نتيجة لعوامل عدة منها : انحصار وسائل الترفيه والانشغال الإعلامي في التلفاز ، والسينما في الدول العربية التي عرفت هذا النشاط الإعلامي والفني الثقافي، إلى جانب المذياع والصحافة المكتوبة، وكذا إتساع التعليم في البلاد العربية بوتيرة جيدة ، بعد حرمان إستعماري، أو الفقر في الموارد والثروات الطبيعية.

ومن العوامل أيضا استقطاب المنابر الإعلامية والثقافية الخليجية كوكبة من أعلام الثقافة والفكر والأدب العرب ، لتتوشح بهم أغلفة المجلات ـ خصوصا ـ جاذبة إلى صفحاتها أعين وقلوب وفكر ذوي النهامة من القراء لعطاء أولئك الأعلام وإبداعهم.
ومن العوامل النوعية البالغة الأهمية أيضا ، الدور الكبير الذي لعبته ( الصحوة الإسلامية ) ، في هذا المضمار ؛ فقد أثمرت جحافل من الشباب ، تنافس في كينونته التدين بروحانيته وعباداته وأبعاده الاجتماعية ، والسلوكية والأخلاقية ، ونزوعه السياسي ، نافس التزود المعرفي والعلمي ، والثقافي ، والتكويني العقدي . فأصبحت المكتبة والكتاب والمجلة والشريط السمعي ، من أبرز عناصر المشهد التديني الصحوي الإسلامي * ولأهمية العرض الذي نشر في عدد 72 ، 1 أخترته ؛ باعتباره وديعة زمن .
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
 بلغت الكتابة في موضوع الحضارة حَدَّ التضخم والتقديس. ولا أجد غضاضة في سحب هذا الحكم على الكتابة في موضوع الحضارة الإسلامية. لكن مع ذلك، قلَّ من وراء هذا الركام من قادتهم بصائرهم إلى الاهتداء بالسبيل القويم، بل البسيط في صورة عرضه كما يعلن هو عن نفسه من خلال المنهج الأصيل، "القرآن الكريم". وأحسبني لا أبلغ إتمام أصابع اليدين إن ذهبت أَعُدُّ الذين حباهم الله شرف الوقوف على هذا المنهج القرآني القويم.
بل إن السطحيين من مثقفينا ومفكرينا الذين انحسرت فهومهم للكتاب العزيز في دائرة محدودة نربأ نحن أن نضع فيها هذا الكتاب الكريم. هؤلاء جميعهم يستكثرون عليه احتواء مثل هذا المنهج إن دار في أذهانهم يوماً مثل هذا التفكير. لكن إرادة الله عز وجل تُقَيّض بصائر مستنيرة تجلو للأبصار الكليلة بعضاً من وميض جواهر الكنز العظيم الباقي.
 لذلك أحببت أن أشاركك معي - أخي القارئ - في بعض ما يُحَقّقه كتاب "منهج الحضارة الإنسانية في القرآن" من متعة؛ من خلال وقوف صاحبه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي - ذكره الله بخير  دنيا وأُخرى ــــ على معالم المنهج الأصيل الذي نحن بصدد الكلام عنه.
فصول الكتاب عبارة عن بناء معماري يفقد تماسكه وارتباطه إن امتدت إليه يَدٌ  بوضع فصل موضع آخر، بل إنَّ الترتيب الطبيعي والمنطقي للكتاب يريد رسم منهج حضاري؛ ففضلاً على أن يكون مستخرجاً من كتاب هو آخر كلمات السماء إلى الأرض، والكتاب مع ذلك لا تفارقه بساطة العرض و وضوحه، إذ تحاشى صاحبه اللجوء إلى  التعقيدات والإشكالات التي تقف بسبيل أي باحث في موضوع الحضارة. كُلُّ ذلك مع استحضار عبودية الله عز وجل وربوبيته في كل موضع من مواضيع البحث التي يتصل بها المنهج الحضاري المرسوم اتصالاً جذرياً.
يفتتح الكتاب بمقدمة يعنى فيها صاحبه  بتفنيد المنهج الوصفي العقيم المعتمد في تتبع مراحل  هذه الحضارة ومنجزاتها، وما ينتجه هذا المنهج حتماً من تساؤل عن سرّ إقبال هذه الحضارة وإدبارها.

وهذا التساؤل دليل عملي على عجزه أو نقصه على الأقل. ثم ما ساهم به من تدعيم فاحش لرأي  "شبنجلر" في اعتراء الحضارات ما يعتري العمر البشري من أطوار. 
ولا يفوت المؤلف أن يؤكد على حقيقة ذات بال في هذا المقام هي: أن الوقوف على معالم هذا المنهج وتفاصيله لا يعدو أن يكون صورة منهج تربوي متكامل يهدف إلى تربية من يَمُتُّ له بسبب من إيمان وفهم و عمل ، تربية هي أسمى وأمثل ما عرفته البشرية ؛ فيتخرج في هذه المدرسة بُنَاة  الحضارة الإنسانية المثلى، إذن فجذور هذه التربية المثلى جذور للتربية الإنسانية في القرآن.
في تمهيده للكتاب يجرّنا الكاتب لمشاركته في رأيه حول انعدام الفائدة في الإغراق في تعريف الحضارة، مع التأكيد على أنه لم يعثر على تعريف علمي دقيق لها في كتابات الآخرين. هذا كله يضعنا أمام نقطتين يخلص من خلالهما إلى تعريفها:
الأولى: أن مدار الحضارة على الجهود البشرية المبذولة في نطاق انتقال الإنسان من حياة البداوة وبساطتها إلى حياة العمران وتعقيداتها. الثانية: أن هذا الأساس مُسَوِّغ لنا لتعريف الحضارة بأنها : "ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة" ومنه يحدد هذه العناصر الثلاثة للحضارة بمسمياتها المذكورة دون غيرها: كالزمن والطبيعة والتراب لدقة مدلولات الألفاظ الأولى والاحتمالات الكثيرة التي يمكن أن تَرِدَ على الثانية.

فإذا تبين ذلك جميعه اتضح  أن ليس هناك تلازم بين الحضارة من حيث هي ، وما قد تستهدفه من مبادئ الحق والخير ؛ فقد تهتدي إليها وقد تتنكبها ؛ لهذا نقصى تحديدا معنى الحضارة من كلا الاحتمالين . ثم يمضي ليبين كيفية تحميل القرآن الإنسان مسؤوليات بناء الحضارة ؛ من أن هذا الكتاب لم يكن كتاب دين وعبادة إلا لتحميله الإنسان هذه المسؤولية ، فمحور الدين تزكية النفس ، وهي الشرط الأساسي لأهلية المسؤولية الحضارية بصدق ، فَانْبَنَى على ذلك تحديد مهمة الإنسان في هذا الكون بأنها عمارة الأرض بمعناها الشامل: ۞ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ۞ هود (61)  ، أما كيف بصَّرَه القرآن بعناصر هذه الحضارة و دلّه على سبيل التعاون 
     معها ، فقد تمثل ذلك في تعريفه ودلّه على سبيل التعاون معها ، فقد تمثل ذلك في تعريفه تعريفا دقيقا على ذاته وحياته والكون المحيط به . وما سبيل سير الحضارة المثلى في طريقها القويم إلا الوقوف على التعريف الدقيق بهذه العناصر . ولمّا كان حصول ذلك متعذرا قرن له مع  تلك العناصر كتابا مفصلا يهديه إلى كيفية استعمالها. 
وبعد هذه المقدمات والتمهيدات  التي هي مهاد طبيعي للموضوع شرع في توضيح هذا المنهج الرباني:
{1} ما هو الإنسان ؟ :

لأهمية الإنسان الزائدة على العنصرين الأولين بدأ القرآن بتبيين حقيقته وقيمته سواء من حيث الترتيب النزولي أو الكتابي : الأول في سورة العلق ، والثاني في سورة البقرة حيث قسّم الإنسان إلى مسلم وكافر ومنافق ، ثم شرع في تبيين أصلهم . 
فتعريفه ــــ إذن ـــ كان من خلال التركيز على حقيقتين ؛ الأولى : أنه مخلوق من تراب ، ومن سلالة من ماء مهين ۞ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ۞ عبس 7.
     الثانية : إن هذا الإنسان هو المخلوق المكرّم الذي سجدت له الملائكة ، وهو خليفة الله في الأرض . والغاية من التركيز على هاتين الحقيقتين هي : أن دوام استحضار الحقيقة الأولى  دون الثانية يورث الإنسان الذل والاستكانة للطغيان ؛ فيمتهن ذاته ويتعطل تلقائيا عن القيام بمهمته ؛ وإن حصل عكس ذلك بأن ظَلَّ يستحضر الثانية دون الأولى تيقظت في نفسه دواعي الكبر والغرور ، وعاش لا يرى فيها سوى العظمة والتكريم فأدى به ذلك إلى أن يُنَصِّبَ نفسه إلها من دون الله عزّ وجلّ ، ونظرة في حديث القرآن عن مصائر الأمم ، ونظرة في حديث القرآن عن مصائر الأمم تهديك إلى هذه الحقيقة ،  وأنصع مثال لذلك قصة فرعون مع قومه ، فمن جانبه كان العلوّ والطغيان ، والذل والخنوع من جانبهم  : ۞ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ۞القصص 4 والعلاج هو تلك اليقظة الإيمانية التي يهديها الله عز وجلّ إلى كلّ ذي لُبٍّ و فكر،  ۞ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ۞.القصص 5
أما الأمة التي تربّت أحاسيسها  ومشاعرها على هاتين الحقيقتين فتنامى في كيانها هويتها الإنسانية الكاملة ؛ فيرتفع مستضعفوها من وهدة الذلّ ، ويطامن مستكبروها من الكبر و العلوّ ليتلاقوا جميعا في صعيد واحد ، ويمضوا في سبيل بناء هذه الحضارة.
 {2} ما هي الحياة الإنسانية في القران ؟  تتحدد هذه الحياة في أغلى ما يكسبه الإنسان ؛ وهو عمره ، إذ هو الوسيلة الزمنية لنهوض أسباب وشروط عمارة الأرض جميعا ، لذلك وجب تسخيرها لما هو بصدده من واجبات وأعمال ، واتخاذها أداة  لأداء مهمته ، ومن هنا يتّضح له سبيل الحفاظ عليها أو التضحية ، وسبيل ذلك معرفة قيمة الحياة ؛ و بالمقابل الأهداف التي تسخرها لنيلها ، وهذا لا يتأتّى إلا بمعرفة حقيقة الحياة ـــ مصدرها و مآلها ـــ وقد تَمَّ  هذا في المنهج القرآني من خلال النص على حقيقتين ؛ الأولى : أن هذه الحياة ليست إلا معبرا للآخرة ، والإنسان يأخذ من الأولى لهذه . 
الحقيقة الثانية  هي : الكشف عن قداسة هذه الحياة وحرمتها ودفع الإنسان إلى وجوب رعايتها ليتخذ منها مَمَرًّا إلى خَيْر مستقر ، وحتى لا يضيِّع لحظة من حياته في غير طائل ، ثم يسخرها لإنجاز مهمّته في الأرض .

أمّا الآثار الحضارية للمجتمع الذي أخذ بهذه التربية وتقويمها على أساس استخدام حياته من أدقّ السُّبل لتحقيق مبادئه وغاياته دون الدخول مع الآخرين في أيّ مزاحمة أو صراع ، ودون زهد في فرصها السانحة وأعمالها المفيدة ، واستعاضة عن ذلك بالفرار إلى الكهوف .
{3} ما هو الكون في القرآن ؟  :

الكون هو كلّ ما عدا الإنسان من المظاهر الكونية التي نراها  ، أمّا حديث القرآن عنه فنضبطه في النقاط التالية : 
١ ـــــ    نتعرف منه على البراهين المنقوشة على صفحته من وجود مُكَّوَنِه سبحانه ودلائل وحدانيته ، و هذه خطوة لها خطرها في ضمان استماع الإنسان استماعا تامّا ؛ إذا أيقن أن  التعاليم التي تُملى عليه من خالق هذا الكون .
٢ ـــــ إلا أن البيان الإلهي استثنى طائفة من الظواهر الكونية التي تندّ عن التذليل والتسخير فهي قائمة على أصلها ؛ لا سبيل لتبديلها ؛ منها " الموت  ــــــــ حجب حقيقة الروح  ـــــــ سير الحياة الإنسانية في مسارها المعروف من ضعف إلى قوة فضعف وشبية ..... إلخ ".
فإذا استقر ذلك في خّلَدِ الإنسان أخذ  القرآن ينبهه إلى  قيمتها فيحذره من الانخداع بها وبذلك يدرك قيمة هذه الدنيا ، و وجوب  الاقتصار على بلوغ الطريق  منها . إلا أن القرآن الكريم مضى في سبيله ليبين للإنسان ندب التعامل مع الكون فجاءت الآيات التي تتكلم عن ذلك كأنها استدراك على ما قد يفهمه الإنسان من المعنى الأول فينجرف في تيار انحراف آخر .

والحديث عن هذه الحكمة المنطوية على حلّ العقدة الكبرى في طريق إنشاء الحضارة الحاملة في طياتها أسباب بقائها ، ويتمثل ذلك في ممارسة الإنسان لأعماله بدافع استشعار المسؤولية ؛ لا بدافع  التعشق النفسي ، إلا أن استعصاء فهم هذا العامل جعل المفكرين يجنحون إلى رأي "شبنجلر " .
ثم ينتقل الكاتب إلى موضوع له صلة وثيقة بالعناصر و هو " المعرفة في القرآن " وهي  في أبسط صورها معرفة العناصر المذكورة ؛ إلا أن مفهومها لا يتم ضمن قاعدة واسعة من البصيرة العلمية  بالدائرة الكونية كلها ؛ دون هذا تظل المعرفة مبتورة مهزوزة  و قَلَّ أن تكون مرآة موافقة للحقيقة ، وهذا السبب في أن أصحابه يظلون لا يستريحون إلى معناه ويمضون في شَكَاتِهِم ، وهو السرّ في أنّ جُلَّ العلماء والمفكرين يعودون بعد رحلتهم الطويلة يَشْكُونَ الجهل وانطماس المعرفة لديهم ، فلا قيمة  ـــ إذن ـــــــ لأي معرفة جزئية معزولة عن معرفة ما يتصل بها من الأجزاء والجوانب الأخرى .
ولذلك ـــ أيضا ـــــ لزم كل باحث في أي علم من العلوم الكونية ــــــــ التي لا تنفك عن الدخول في أحد عناصر الحضارة الثلاثة ـــــ من التبصّر بالحقيقة الكلية والعلاقة بينها ثم بناء دراسة على ثقافة علمية تتمثّل في التّنَبّه إلى علاقة العلوم بعضها ببعض ، ومنه يتضح معنى قوله عز وجلّ : ۞مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ۞ الأنعام  38 فقد حوى أصول المعارف كلها لما وضع للإنسان الرسم البياني الشامل للوجود ، ثم يتضح لنا على ضوء هذا كله السِرُّ في زَخَارَةِ الدنيا بالعلماء مع عدم إيمانهم بالله ؛ وذلك أنهم ليسوا في الغالب علماء بالمفهوم الحقيقي للكلمة في الوضع القرآني ، فهم أنموذج لمن يحصر نظره من الجسم الإنساني في الكبد وحدها لمعالجة ذلك الجسم .
وفي آخر فصل يبحث أسباب تحجر الحضارة الإسلامية وازدهار الحضارة الغربية ، ثم السبيل إلى انبعاث الحضارة الإسلامية من جديد .
أما فيما يتصل بالسؤال الأول فهو سطحي في طرحه ، وإجابته أكثر سطحية ؛ حين يلون ذلك بعدم انفتاح  المسلمين على الحضارات الأخرى ؛ ففي ذلك مظهر آخر من مظاهر التبعية الذليلة لهذه الأمة ، وترديد لنصيحة الغربيين أنفسهم حين يتكلمون عن عظمة هذه الحضارة ورسم السبيل ذاتها لاستعادتها وهذا أحد ظاهرتين تتسم بهما الكاتبة في موضوع  الحضارة الإسلامية ، أما الثانية فهي الانحصار في الحديث عن المنجزات المادية دون التعرض إلى الروح الباعثة عليها ، ولعل "زيغريد هونكه " مَثَّلَتْ ذلك خير تمثيل حين راحت تتحدّث عن أسباب انهيار الحضارة ثم السبيل لإعادتها استجابة للأسئلة التي انهالت عليها من كلّ صوب بعد أن أطّلعوا على كتابها "شمس الله تطلع على الغرب" ، فاتسمت بالسطحية ، ولا يبرر ذلك إلا بغياب تذوق المنهج القرآني .فالسر في هذا التخلف  ـــ إذن ـــ يكمن في الغشاوات التي أسدلت على بصيرة المسلمين وأقصتهم عن معرفة العناصر الثلاثة التي حددها القرآن .
أما ازدهار الحضارة الغربية دون قيامها على شيء من البصيرة القرآنية ؛ فهذا كما سبق القول أَنْ ليس هناك ارتباط بين الحضارة وما يمكن أن تتبدى عنه، فتوجيه الطاقة الحرارية وقف على عامل خارجي لا صلة له بمعنى الحضارة  وعناصرها ، وهذا العامل هو الرغبة في إقامة البنيان الحضاري لدى الساعين لذلك ، ثم إن وصفها بالازدهار لا يَصْدُق إلا على الطلاء الخارجي ، أما كيف مكّنهم الله في الأرض مع وجود المسلمين ــــــ على ما هم عليه من بُعْدٍ عن الإسلام ــــ فَمَرَدُّ ذلك إلى أمرين ؛ الأول : أنه ــــ تعالى ــــــ لم يلتزم بالتمكين للمستضعفين لمجرد أنهم كذلك بل ألزم نفسه بالنسبة للذين يضعون عبوديتهم له سبحانه موضع التنفيذ ، ويتعاملوا مع المكونات التي تحيطهم طبقا لمنهجه .
الأمر الثاني : مضت سنته سبحانه بأن تظل عامرة بأهلها ؛آخذة زينتها وزحرفها حتى يأتي وَعْدُ الله .
بقي بعد ذلك جميعه التعرف على السبيل لانبعاث هذه الحضارة المثلى من جديد، وهذا ما يوضحه المؤلف فيما يلي : يشير  في مطلع الأمر إلى أن هذا العلاج شامل للأمة كلها لا لأفراد معينين ؛ لأن أي تحرك نحو الصعود في مراقي الحضارة على جهود جماعية متضافرة . ثم يمضي في توضيح المنهج القمين بإعادة انبعاث تلك الحضارة الوارفة الظلال ، وحتى لا يُطَوَّح بنا الخيال ؛ بل لكي لا تتعدد المسارب الفكرية التي يمكن أن يجري فيها الكلام يضبط هذه العوامل في جملة عناصر هي : 
{1} الرغبة الكافية للسعي لذلك ، وقد يرد هنا على هذا الكلام قولهم : إن هذه الرغبة العارمة تَعُجُّ بها صدور الكثير ؛حتى العوام ، لكن هؤلاء يهملون جانبا مُهِمًّا ؛ فرغبة العوام متجهة إلى النتائج والغايات ولا تلتفت إلى ممارسة الوسائل والأسباب . 
{2} القضاء على التجزؤ  و أسبابه : لأن الجهد الحضاري جهد جماعي، وعوامل  التجزؤ هذه تتسلل للأمة في فراغ فكري ، وفقر في المبادئ والقيم ، وبِسَدِّ هذا الفراغ تتكون قاعدة راسخة من المبادئ والمعتقدات تلتقى عليها فئات الأمة وأفرادها و ما هذه المسلّمات سوى العناصر الثلاثة . أما البَاكُون على الوحدة وعملهم إلى التفريق فعليهم أن يعلموا أن إقامة الوحدة عبارة عن رسم الدائرة ، فعليهم الارتكاز على المحور أولا لِتُرْسَمْ الدّائرة : ۞وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۞آل عمران 103فلم ينههم عن التفرق إلاّ بعد الأمر بالاعتصام . 
{3} الاستقرار النفسي والفكري ؛ وتَحَقُّقُ ذلك عن طريق ترسيخ المسلمات  المذكورة ، وفي ظل الوحدة ؛إضافة إلى العمل الجاد على قطع أسباب الاضطراب الفكري والنفسي الذي يجتاح الأمة ، هذه الأسباب التي جاءت من جَرَّاءِ اجتيازنا منعطفا فكريا واجتماعيا  ، ثم  طول الفترة الزمنية التي استغرقها المرور بهذا المنعطف ، وسبب هذا الطول :{أ} هرم الخلافة الإسلامية {ب} تسابق الدول الكبرى في اقتسام الميراث {جــ} نهضة أوروبا وانبهارنا بها ، ثم سعينا لتفليدها . 
{4} تلاحم الثقة بين قطاعات الأمة من سائر الفئات جميعها على السواء .
{5} استخدام الطاقات التربوية بعواملها وأدواتها كلها لترسيخ المُسَلَّمَاتِ الفكرية الأساسية .
وفي الأخير يشير إلى وفرة المقومات المادية لدى هذه الأمة ، وأنها مهما ازدادت فَسَتُشَكِّل عقبة في الطريق الحضاري مادامت الأجهزة التربوية لا تنهض بالوظيفة المنوطة بها . فمفتاح النهضة العلمية والصناعية والانطلاقة الحضارية لا يتمثل في علوم  التكنولوجيا والمشاريع الاقتصادية فقط ؛ إذ  تغدو  أسبابا و أعباء على كواهل أصحابها ؛ إن لم تنهض بدورها على قاعدة راسخة من المعارف الإنسانية الرشيدة.
لعلك أخي ـــــ القارئ ـــــ قد لاحظت معي  عمق هذا المنهج وضرب جذوره في الأصالة لا لاشيء إلا لأنه ينهل من المعين  الثرّ، و يحتاج للوقوف عليه إلى عقول مؤمنة وبصائر  ترى بنور الله الذي شَعَّ بين جوانح أصحابها ، ثم إن الانظلاق من هذا الفهم الشامل لإقامة الحضارة المنشودة يعد انطلاقا من أرض صُلْبَةٍ و طريق مأمونة ـــ بإذن الله ــــــ  فما على القائمين على أمرها إلا إعمال عقولهم ووجدانهم ، واستغلال الطاقة الإيمانية التي تتولّد من جراء تلك التربية المتفردة من بين المناهج التربوية التي عاشتها البشرية منذ تاريخها السحيق. 
أما ما يمكن أن أكون قد ألحقت بالكتاب من إساءة حين أخذت أقتضب فصوله وكان حقها التفصيل ؛ فعذري : أولا : طبيعة العرض التي اقتضت ذلك ، وثانيا : ما عساني بلغت من إغرائك بقراءة الكتاب وإِغْذَاذِ السّير في البحث عن معالم أخرى قد تكون خَفِيَتْ عن المؤلف . والله من وراء القصد .
°°°°°°°°°°°°°
 :" "قطر {الدوحة } و{الأمة } ؛ محمد مراح، إسلام أون لاين، 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services