901

3

منفًى في جبال الأوراس يكشف عورات التنمية ويُصِرّ على البقاء

الدرمون ببلدية كيمل.. واقع تنموي هش في قلب الولاية الثورية

في أقصى تخوم الجنوب الشرقي لولاية باتنة، على حافة الحدود مع ولاية بسكرة، تقبع قرية "الدرمون" كندبة غائرة في الجغرافيا الجزائرية، لا شيء يُوحي بأنك ما تزال في حدود ولاية باتنة حين تسلك طريق الوصول إليها، بل يكاد الزائر ينسى، وسط الكثبان والواحات والممرات الجبلية، أن هذه القرية هي في الأصل جزء من إقليم ولاية كانت ذات يوم مهدًا للثورة التحريرية.

ريبورتاج:ضياء الدين سعداوي 

فحتى تصل إلى الدرمون، لا بد أن تعبر من باتنة إلى القنطرة، ثم سيدي عقبة و زريبة الوادي بولاية بسكرة، على مسافة تتعدى 220 كيلومتراً،في رحلة تشبه عبور الزمن أكثر منها عبور الجغرافيا،  عندها فقط، وعلى مشارف بلدية زريبة الوادي، تصادف لافتة تُذكّرك بأنك على بُعد 22 كيلومترًا فقط من الدرمون، ولكنك ما تزال بعيدًا جدًا عن قلب التنمية.

 

حين يكون التاريخ عبئًا!

ليست الدرمون مجرد قرية نائية تقاوم النسيان ، بل هي شاهد حي على مرحلة من أمجد صفحات الثورة الجزائرية، فقد اتخذ منها الشهيد مصطفى بن بولعيد مركزًا لقيادة عملياته، لما توفره من تضاريس وعرة وغابات كثيفة، جعلت منها مأوى طبيعيًا للثوار، وكابوسًا دائمًا للإستعمار الفرنسي.

في غاباتها أُنشئ أول مستشفى ميداني للمجاهدين، وعلى أطرافها لا تزال حطام الطائرات الفرنسية تشهد على معارك طاحنة، حتى اليوم، تُعرض أجزاء من هذه الحطام في بهو مقر الولاية، في إحتفاء رمزي بما قد يكون آخر ما تبقّى من ذكرى الدرمون الرسمية.

لكن كل هذا المجد الثوري لم يُترجم إلى تنمية، فما كانت عليه القرية زمن الكفاح، لا تزال عليه اليوم تقريبًا، طرق وعرة، مياه شحيحة، وانقطاع دائم عن الحياة الإدارية والخدمات الأساسية، كأن التاريخ هنا انتهى مع الاستقلال، وبدأ زمن الإقصاء.

العزلة بوصفها قدَرًا

بلدية كيمل، التي تنتمي إليها الدرمون إداريًا، نفسها تعاني من موقع جغرافي معقد، محاطة بولايات خنشلة، بسكرة و باتنة، لكن العزلة مضاعفة في الدرمون، حيث الطريق الطبيعي الرابط بينها وبين مركز البلدية غير صالح للإستعمال، خاصة خلال فصل الشتاء، وهذا ما يجعل إدراجها ضمن برامج التنمية تحديًا بيروقراطيًا أكثر منه مسألة تخطيط.

في واقع كهذا، يصبح أبسط مطلب – كحفر بئر أو إنشاء قاعة علاج – مشروعًا معقّدًا يتطلب تنسيقًا عابرًا للولايات، وإرادة نادرة الحدوث.

الماء.. الحلم المتجدد
في الدرمون، الماء ليس مجرّد حاجة يومية، بل قضية وجود. لا شبكة مياه دائمة، ولا مصادر طبيعية كافية، يعتمد السكان على نقل الماء من منابع طبيعية بعيدة مثل "عين لبعل" و"تاغليسية"، أو انتظار صهاريج تمرّ كل حين.

السلطات المحلية وعدت مؤخرًا بحفر بئر ارتوازي وتخصيص مشروع ثانٍ للدرمون. لكن السكان، الذين اعتادوا على الوعود، لا يعلّقون آمالًا كبيرة إلا حين يُسمع خرير الماء في حنفيات منازلهم.

الصحة.. حين يصبح الجيش ملاذًا

قاعة العلاج الوحيدة في الدرمون شبه مغلقة، ممرض واحد يتولّى إسعافات بسيطة، ولا وجود لطبيب أو حتى سيارة إسعاف، في حالات الطوارئ، خصوصًا في فصل الصيف مع انتشار العقارب، يلجأ السكان إلى الثكنة العسكرية القريبة.

الجيش هنا ليس فقط حاميًا للحدود الجغرافية، بل أيضًا مزودًا لخدمات صحية أولية، مشهد يكشف إلى أي حدّ يمكن أن تُترك منطقة بكاملها خارج اهتمام المنظومة الصحية.

الكهرباء والغاز.. أحلام تنتظر التمويل

قرى الدرمون، ومنها لبعل وتاغليسية، لا تزال خارج نطاق الربط الكامل بالكهرباء، رغم أن المشاريع وُضعت على الورق. 

خلال جلسة العمل التي جمعت ممثلين عن المجتمع المدني لبلدية كيمل و مداشرها ، مع السلطات الولائية إلى جانب المدراء التنفيذيين لمختلف القطاعات، بتاريخ 18 ماي 2025، أعطى الأمين العام للولاية أوامر صارمة باستئناف الأشغال.

أما الغاز الطبيعي، فالدراسة التقنية جاهزة، لكن المشروع ينتظر اعتماد الغلاف المالي ضمن ميزانية 2025/2026. وهو ما يجعل الحلم مؤجلاً مجددًا، في منطقة تنخفض درجات حرارتها إلى مستويات قاسية شتاءً.

 

الطرقات.. شرايين مقطوعة

الطريق الرابط بين كيمل وتكوت، ومقطعه المعروف بـ"شبكة بن خليفة"، طوله لا يتجاوز 1.8 كلم، ومع ذلك لا يزال قيد الدراسة منذ سنوات. المشروع سُجّل أخيرًا على عاتق ميزانية البلدية، في محاولة لبعث شريان الحياة.

كذلك هو حال الطريق الرابط بين عين البيضاء والدرمون، الذي تبقّى منه 10 كلم فقط، تتكفل بها مديرية الغابات كحل مؤقت، في انتظار تمويل أشمل.

أما جسر "قاوقيش"، فتمت المصادقة على تسجيله ضمن مشاريع صندوق التضامن و الضمان للجماعات المحلية، ما يعكس نوعًا من الجدية المستجدة، لكن التنفيذ يبقى الرهان الحقيقي.

 

الحواجز المائية.. الزراعة تحت رحمة الدراسات


بسبب ملوحة الآبار وندرة المياه، اقترحت المنظمة الوطنية للفلاحين -مكتب كيمل- إنشاء حواجز مائية كحل بديل ، المشروع حظي بموافقة مبدئية من مديرية الري، بشرط توفر الدراسات التقنية، والتي يُفترض أن تتكفل بها الجمعيات الفلاحية بالتنسيق مع البلدية.

الواقع الزراعي في الدرمون هشّ، يعتمد على مبادرات فردية ومزروعات مقاومة، كالتبغ، الذي أصبح ملاذًا اقتصاديًا لعدد من العائلات، رغم مخاطره البيئية والصحية.

نزيف بشري.. الدرمون يهاجر

أمام هذا الواقع المتردي، لم يكن أمام شباب الدرمون سوى الرحيل، الهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى أصبحت خيارًا شبه جماعي، ومن تبقّى، اختار التعايش مع الصعوبات، أو الاتكال على مشاريع صغيرة مدعومة بصعوبة من الدولة.

السلطات وعدت بإطلاق آليات دعم الريف والتكوين المهني، لكن الميدان لا يزال ينتظر أولى البوادر.

الألياف البصرية.. الفجوة الرقمية

في زمن الرقمنة والحوكمة الذكية، لا تزال الدرمون تنتظر ربطها بشبكة الألياف البصرية، المشروع مكتمل على الورق، والدراسة التقنية منجزة، لكن التنفيذ مؤجل إلى إشعار مالي آخر، الإنترنت في الدرمون حلم، والاتصال بالعالم الخارجي وسيلة مكلفة وموسمية.

المجتمع المدني.. صوت الداخل

ما ميّز الاجتماع التنسيقي الأخير، هو الحضور اللافت لممثلي المجتمع المدني، خصوصًا من منظمات فلاحية وتنموية. هذا الحضور لم يكن شكليًا، بل ساهم في نقل انشغالات السكان، واقتراح حلول ملموسة، انطلاقًا من واقع ملموس.

يبدو أن السلطة بدأت تفهم أن القرارات من الأعلى لا تكفي، ما لم تُبنى على معرفة دقيقة بالواقع اليومي للمواطن.


مشاريع واعدة.. ومصير معلق

من بين أبرز المشاريع التي أُدرجت ضمن الأولويات في الإجتماع، مشروع سد الدرمون، الذي اكتملت دراسته وينتظر رفع التجميد وموافقة الوزارة. كما أثيرت مسألة ترسيم الحدود الإدارية بين كيمل وزريبة الوادي، لما لها من تبعات مباشرة على التنمية.

المشاريع كثيرة، والوعود وفيرة، لكن التجربة علمت سكان الدرمون أن الفارق بين الإعلان والتنفيذ هو خيبة أمل متكررة.


طريق الوصول.. عقبة أولى في وجه التنمية


المسلك الطبيعي الذي يربط بلدية كيمل (التي تتبع لها الدرمون) بهذه القرية، لا يزيد عن عشرين كيلومتراً، لكنه طريق جبلي مهترئ، يكاد يكون مغلقاً في الشتاء. أما الطريق العملي الوحيد فهو يمر عبر خمس بلديات من ولاية بسكرة، ما يجعل زيارة المسؤولين أو إيصال الخدمات أكثر تعقيداً.
هذه العزلة ليست فقط جغرافية، بل إدارية أيضاً، إذ يصعب إدراج الدرمون في مخططات تنموية فعالة بسبب بعدها وتداخل صلاحيات الولايات المجاورة.


الدرمون.. حين تصرخ الجغرافيا

الدرمون ليست فقط قرية نائية أو منطقة ظل، إنها مرآة لعشرات مناطق ولاية باتنة التي وقعت ضحية لتقاطع الجغرافيا والتاريخ والإدارة، لا يكفي أن يُحتفى بها في المناسبات الوطنية، أو تُستعرض صورها في نشرات الأخبار، المطلوب اليوم هو جبر ضرر عمره عقود.

ربما تشكّل جلسة السلطات الولائية مع ممثلي المواطنين لحظة تحول، لكن التحول الحقيقي يبدأ حين يُفتح الطريق، ويصل الماء، وتُشعل الكهرباء، وتُفعّل قاعة العلاج، ويُوفَّر منصب عمل.

حينها فقط، يمكن للدرمون أن تنتقل من خانة "المنسية" إلى "الناجية"، ومن الهامش إلى المركز.

الدرمون.. ذاكرة وطن وهوامش الحاضر

الدرمون ليست مجرد قرية نائية، بل مرآة لواقع الجزائر العميقة، قرى صنعت التاريخ، لكنها اليوم تواجه التهميش والنسيان ، إنها قصة ولاء ووفاء للوطن، يُقابلها جفاء إداري مزمن.

ربما تكون جلسة 18 ماي 2025 بداية تصحيح لهذا المسار، بشرط تحويل الوعود إلى أفعال، وإعادة الاعتبار لهذه القرية المنسية، لتُصبح رمزًا للتنمية كما كانت رمزًا للثورة.

     الدرمون.. التاريخ يشهد، فهل تشهد التنمية؟

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services