967
0
ما فعله الأسد حينما اكتشف أنه ليس ملك الغابة!
بقلم: محمد شريم
*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.
عاش أسد معتزا بنفسه كملك للغابة حتى أصابه الكبر، وكانت له من اللبؤات زوجة فتية،
وذات يوم كان الأسد يحاور جلساءه في أمر من أمور الغابة وقعد أقعى على عجزه، فشعر بحركة خفيفة مفاجئة بطرف ذيله، وعندما التفت إلى الوراء، وإذا به يرى الفأر يهرب من المكان، فتبسم وهو يشعر بالحرج ليقول: كم هو لطيف هذا الفأر عندما يلاطف مليكه!
وذات يوم، كان الأسد يتناول غداءه، وإذا بالقط يقترب منه، فنهره الأسد، فابتعد قليلا، وسرعان ما فوجئ الأسد وهو يشاهد القط يغير على طعامه ويختطف مزقة من اللحم ويهرب بها، فوقف محاولا اللحاق به، فاستوقفته زوجته قائلة: لو شئت لاحقته بدلا منك يا ملك الغابة، ولكن من الحكمة أن تتركه وشأنه، فالقط جائع وهو من رعيتك، تصدق عليه بما أخذ..
وبعد بضعة أيام، اصطاد الأسد غزالا، وما أن هم بأكله حتى اقترب منه قطيع من الضباع، فشاغلته حتى أنهكته ثم أخذت الفريسة منه.
فابتعد الأسد عن الفريسة جائعا، وبينما هو يسير، وإذا به يرى النمر مقبلا من بعيد، وفي هذه الأثناء عرض لهما خنزير، فاستبقا إليه، فأدركه النمر أولا، وقتله، ولم يسمح للأسد بالاقتراب منه.
فشعر الأسد بالعطش، فتوجه إلى النهر ليشرب، ولما وضع فمه في الماء انقض عليه تمساح كالسهم، ولولا شدة حذر الأسد لأصاب منه التمساح مقتلا، فعاد ملك الغابة إلى عرينه جائعا ذليلا، فقالت له لبؤته: ما بك يا أبا الأشبال؟ فقال: أشكو الهرم وقلة الحيلة يا أم الأشبال! فقالت له: لقد طلبت منك أن تدع لي شأن مطاردة الفرائس وأنت أبديت الاصرار على مطاردة ما لاح لك منها! فقال الأسد: هموم ملك الغاب لا يتعلق بأمر مطاردة الفرائس وحده! إنها الغابة يا أم الأشبال بما تفرض على الملك من مسؤوليات وواجبات! فقالت: وهل نازعك أحد في ملكك؟! مازال الجميع يدينون لك بالولاء! فأجاب الأسد: كم من مليك دانت له الرعية بالولاء وليس له من ولائها سوى الاسم! لقد اكتشفت أنني لم أعد ملك الغابة حقا يا عظيمة الوفاء! فسألت اللبوة: وماذا أنت فاعل؟ فقال الأسد: سترين ما يكون!
وفي اليوم التالي، أمر الأسد الديك بأن يصيح داعيا الحيوانات إلى اجتماع طارئ، فتشاغل الديك بنقر بعض حبات الشعير بادئ الأمر، وبعد أن ألح الأسد بطلبه، التمس منه الديك أن يمهله ريثما يستكمل تناول حبات الشعير، فهدده الأسد بأن يصدر قانونا يبيح للثعالب أكل الديكة إن لم يلب طلبه على الفور، فصاح الديك على عجل داعيا الحيوانات للحضور فحضرت، فوقف فيها الأسد خطيبا، وقال: يا معاشر الحيوان، لقد جمعتكن اليوم وقد رأيت منكن ما رأيت من انعدام الوفاء وقلة الحياء، فظن بعضكن تساهلي ضعفا، وتسامحي خوفا، ولقد حان الوقت لأن أضع الأمور في نصابها.. فإذا بالذئب يقاطعه قائلا: لقد حان وقت طلب الرزق أيها الملك، ففي مثل هذا الوقت يتجول الراعي بأغنامه في طرف الغابة، فلعلي أرى منه غفلة فأنال نصيبي منها.. ولكنني قبل أن أذهب سأقول لك نصيحة: إياك وشجرة الطوفان! ودون أن ينتظر ردا من الأسد أدار الثعلب عجزه تجاه ملك الغابة، وغادر مكان الاجتماع مسرعا!
فتهامست بعض الحيوانات بطريقة مريبة، وبدرت من بعضها ابتسامة خبيثة، أما الأسد فقد قرأ بتلك اللحظة في عيون الحيوانات شعورا بالتشفي، بعد أن آل حاله إلى ما هو عليه الآن، وهو الذي حكمها سنوات عديدة بقوة وجبروت!
فأحس الأسد حينئذ بالإهانة، ولكنه تصنع الحلم وقال بصوت عال وكأنه يريد أن يلحق صوته الذئب المنطلق بأقصى سرعته: أعلم أنك جائع أيها الذئب، أتمنى أن توفق بافتراس خروف سمين، وعندما تعود، ستعلمك سائر الحيوانات بنتائج الاجتماع!
واستأنف الأسد خطابه وقد بلغ الغيظ في نفسه مبلغا عظيما، فقال: يا معاشر الحيوان، لن أطيل في الحديث، فالحق ما سترينه لا ما تسمعنه، والله لأعلمنّ صغيركن وكبيركن، ضعيفكن وقويكن، كيف يكون الولاء للمليك من جديد، حتى لا يجرؤ أي منكن على التطاول على مقامي السامي ومكانتي العالية! انصرفن الآن!
وأثناء انصراف الحيوانات استوقف الأسد الثعلب، وكان بجواره، وسأله: تُرى! ماذا قصد الذئب بشجرة الطوفان يا أبا الهجرس؟ فقال الثعلب بابتسامة خبيثة ماكرة: لا أعرف ماذا قصد بقوله، ولكنني سمعت بحكاية هذه الشجرة! فقال الأسد: قصها علي! فقال الثعلب: كان القرد ذات مرة في أحد الوديان، وقربه بعض الحيوانات، فداهم السيل الوادي، فتوجهت الحيوانات إلى سفح الجبل لترتقيه، أما القرد فقد غررت به مهارته في القفز على أغصان الأشجار والتعلق بها، فصعد شجرة وجلس على غصنها الداني، بدل أن يتوجه نحو سفح الجبل طالبا النجاة. فبدأ الماء بالارتفاع، فاستشعر القرد خطأه، وقرر النزول عن الشجرة، ولكنه أدرك أن ذلك لم يعد في الإمكان الآن، وأن السبيل الوحيد للهروب هو الهروب نحو الأعلى، فأصبح الطوفان يلاحقه من الغصن الذي يقف عليه إلى الغصن الأعلى، حتى بلغ قمة الشجرة والطوفان يرتفع في إثره، وفي نهاية رحلة الصعود لم يجد القرد غصنا يتعلق به غير قمة الشجرة الضعيفة، فأمسك بها، فمالت به نحو الماء، فانكسرت هي، أما القرد فابتلعه الطوفان!
فبات الأسد ليلته وهو يفكر بالذي سيفعله ليسترد هيبته، وفي الصباح قال لزوجته: أول الحيوانات تطاولا على مقامي يا أم الأشبال هو الفأر الذي تلاعب بذيلي على مرأى من بني الحيوان. سأنتظره قرب جحره حتى يعود، ثم أعاجله بضربة، فأضغطه بأسفل رجلي، وأقتله، فأنتقم منه لنفسي، وأرد لها الاعتبار أمام بني الحيوان!
وعندما وصل الأسد جحر الفأر جلس على مقربة منه، فأقبل الليل ولم يعد الفأر، فقرر الأسد العودة إلى بيته ليعود في اليوم التالي، وفي صباح ذلك اليوم أراد الأسد أن يتناول طعامه، وإذا بالفأر يتمشى على صدر الفريسة التي ادخرها ملك الغاب لأهل بيته أمام العرين، وقد ترك عليها الفأر من أثره ما ترك! وعندما رأى الأسد الفأر على تلك الحال، جن جنونه، فقفز باتجاه الفأر مسرعا، فدخل الفأر جحرا في جدار قريب، فالتطم رأس الأسد بذلك الجدار، فغادر ملك الغاب المكان وهو يشعر أنه فقد نصف رأسه من الألم!
فقالت اللبؤة للأسد وهي تواسيه: ما رأيك أن أتصدفه فأنتقم لك منه؟ فقال الأسد: ما بهذا تعود هيبتي! فقالت: وكيف تعود إذن؟ فقال: وهل ثمة ما يعيد لي اعتباري أمام الفئران أفضل من أن أصطاد صيادها الذي سبق وأن تجرأ على طعامي!
وفي اليوم التالي ذهب الأسد ليبحث عن القط، فإذا به ينتظر الفأر أما جحره المعروف، فاقترب الأسد من القط بترفق شديد، من خلفه، حتى أمسك به، فعرف القط ما في نفس الأسد فقال له: إن قتلتني أيها الملك فلن يفيدك قتلي بشيء! فهل ستتفاخر أمام الحيوانات بأنك تغلبت على قط؟! بل إن في ذلك منقصة لك ولي.. لأن الفئران ستقول: صحيح أن الأسد تغلب على القط، ولكننا نحن على ضعفنا تلاعبنا بذيل الأسد! فما رأيك أن تهبني دمي على ألا تبرح مكانك هذا حتى أسلمك الفأر فتقتص منه كما ينبغي بعد أن تجرأ على ذيلك الطاهر؟ فقال الأسد: لك ذلك، وسأنتقم من هذا الفأر اللعين فأرد اعتباري! فقال القط: كما تعلم – أيها الملك - فإن الفأر يحب التلاعب بذيلك، فأدر ذيلك باتجاه الجحر، لنغريه بالخروج، أما أنا فسوف أقف جانبا، وعندما يخرج الفأر للتلاعب بذيلك أقفز عليه وأسلمك إياه! فأدار الأسد ذيله، وعندما خرج الفأر قفز عليه القط، فأمسكه بفمه، وذهب يعدو بعيدا بدل أن يسلمه للأسد، غير مكترث بما اتفق عليه معه، فتحرج الأسد من ملاحقة القط حتى لا تنتبه الحيوانات إلى ما كان بينهما!
فتوجه الأسد إلى بيته وقد عزم على أن يستعين بأم الأشبال ليصفي حسابه مع الضباع التي أكلت فريسته الغزال من قبل، بتصيد ضبع متفرد منها، فيرد لنفسه الاعتبار بالتغلب على ما هو أكثر قوة من الفأر والقط، وعندما وصل عرينه، وجد الأسد الحال على غير ما يتمنى، فقد كانت الضباع قد سبقته إلى لبؤته وتكاثرت عليها، ولم يبق من لحمها الكثير! فآثر الفرار بعيدا عن أعين الضباع، خوفا على نفسه من أذاها، وليحتفظ لنفسه بما تبقى من الكرامة حتى لا يقال أكلت الضباع لبؤة الملك أمام عينيه.
فانزوى الأسد حزينا، وبعد أيام، قال لنفسه: والله، لا شيء يرد لي اعتباري ويحفظ لي ملكي سوى أن أصرع النمر، فإذا تمكنت منه ستقول الحيوانات: صرع الأسد النمر! فذهب الأسد ليبحث عنه، فوجده قرب النهر، فلما رآه النمر مقبلا عليه، رأى الشر في عينيه، فتذكر ما كان بينهما بشأن الخنزير، وعندما وصله الأسد قال النمر: هل تعلم أيها الملك أن ضميري يؤنبني بشأن استئثاري بفريستنا الخنزير؟! إذا كنت تريد مصارعتي عقابا لي فقد تجانب الحكمة، لأن الحيوانات ستقول: صارع النمر الأسد على مملكته! ولكنك إذا جنحت لمسالمتي فسوف ستنال ما هو خير منها، فإنني سأعوضك عن الفريسة التي تنازلت لي عنها بشيء سيبقى لك فخرا على مدى الزمان! فقال الأسد: كيف؟ فقال النمر: تُرى، أي فخر سيكون للملك أعظم من أن يصارع التمساح في النهر ويصرعه ثم يجره من ذيله أمام الحيوانات؟! فقال الأسد: ولكن في هذا الأمر مخاطرة! فقال النمر: ولماذا قلت لك أنني سأعوضك؟ سنصرعه معا، وتفوز أنت وحدك بالفخر! فقال الأسد في نفسه: والله إنها خطة معقولة! ثم قال للنمر: أوافقك إن كنت صادقا! فقال له النمر: تعال يا ملك الغابة معي إلى حيث يوجد التمساح، ولتقترب وكأنك تريد شرب الماء، فينتبه إليك، وأنا أخوض في الماء بالقرب منك لأمسكه من ذيله عندما يقترب منك، ثم نجرّه معا إلى الشاطئ! فقال الأسد: النصر قريب أيها النمر!.. ووضع الأسد رأسه في الماء، تنفيذا لخطة النمر، وما أن لعق لعقة من الماء حتى وجد رأسه بين فكي فرس النهر! فصاح به النمر وهو يعدو مبتعدا بسرور: فلتسبح قليلا مع فرس النهر - أيها الملك ـ حتى أبحث لك عن تمساح في المستنقع القريب! أنسيت أيها الأسد نصيحة الذئب لك عندما قال: إياك وشجرة الطوفان!
وعندما بلغ الشاعر الحكيم ما كان من أمر الأسد مع رعيته، قال:
إنْ كنــتَ يومـا واعــدا بتفضّــل
أو غاضبـــا مُتوعـــدا بعقـــــابِ
لا تُعطِ وعـدا دون حُسـن تدبّـــر
واحذرْ مِنَ التهديدِ دون حسابِ!