384
0
لماذا سمح حكيم الجواميس للأسود بافتراس أخيه؟!
بقلم: محمد شريم.
*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.
تخلف جاموس وحشي كبير السن ذات يوم عن قطيعه لعجزه عن مماشاة القطيع، فهاجمه أسد قوي، وكاد أن يقتله، فسمع صوت الجاموس أثناء الصراع صديقه الفيل، وكان قريبا من المكان، فهب الفيل مسرعا لينجد صديقه، فوصله في الوقت المناسب وأبعد الأسد عنه.
وبعد انصراف الأسد، سأل الفيل صاحبه: وما الذي ألقى بك إلى شفا المهالك يا كبير الجواميس؟ فأجابه الجاموس الوحشي: إنه الكبر والعجز يا أبا الدغفل! فقال له الفيل: هيا معي، سأرافقك إلى قطيعك لعلك تبلغ مأمنك!
فسار الفيل بالجاموس الوحشي حتى بلغ معه قطيعه، فصاح الفيل بالجواميس مناديا: يا معشر الجواميس، إياكن والتفريط، فقد كاد كبيركن هذا أن يكون غداء للأسود!
فأخذ جاموس فتي قوي البنية نشيط الحركة اسمه " نطّاح "على عاتقه أن يتولى حماية الجاموس الكبير، وأن يرافقه إن أسرع وإن أبطأ.
أما الأسد فقد عاد إلى عرينه القريب مغضبا من الفيل، وقال للبؤة: لولا أن الفيل حشر خرطومه الطويل، وجسمه الثقيل، وأنيابه الحادة بيني وبين الجاموس لكان الجاموس الهرم غداءنا اليوم يا أم الأشبال! فقالت له اللبؤة: لا عليك، غدا أتابع معك قطيع الجواميس، فإذا تمكنا من جاموسك هذا وحضر الفيل لمساعدته، فأنت تشاغل الفيل ريثما أستكمل أنا القضاء على الجاموس، فوافق الأسد على خطة لبؤته.
وفي اليوم التالي تابع الأسد واللبؤة قطيع الجواميس الوحشية، وتحينا فرصة كان فيها كبير الجواميس بطرف القطيع، ولكن مرافقه "نطاحا" لم يكن عنه ببعيد، فهاجم الأسد واللبؤة كبير الجواميس، فوقفت معظم الجواميس تنظر إلى كبيرها الذي يصارع الأسد واللبؤة بقواه الضعيفة دون أن تحرك ساكنا، ولم يبادر لمساعدته سوى مرافقه الجاموس الفتي " نطاح " الذي هب مسرعا لنجدته، فقذف " نطاح " الأسد في الهواء بعيدا عن الجاموس الكبير، فتعلقت اللبؤة برأس "نطاح" محاولة عضه في رقبته، فسار "نطاح" بحركة عفوية باتجاه ساق شجرة غليظة كانت بالقرب منه وهو يهز رأسه وعنقه محاولا إسقاط اللبؤة عنه، فاصطدم بساق تلك الشجرة بشدة فضغط اللبؤة بتلك الساق ضغطة قوية ومفاجئة فسقطت اللبؤة على الأرض مشلولة الحركة، وانقلب "نطاح" نحو الأسد ففر الأسد من المكان، أما اللبؤة فبقيت في مكانها حتى نفقت.
وعندما شاهدت الجواميس ما فعله أخوها الجاموس الفتي "نطاح" أطلقت صوتا عظيما احتفالا بانتصاره، ووقف كبيرها وشكر "نطاحا" على ما قدمه له من المساعدة والنصرة، ثم طلب من حكيم الجواميس أن يتقدم لإلقاء خطبة بهذه المناسبة السعيدة، فوقف حكيم الجواميس على نشز من الأرض خطيبا وقال: يا معشر الجواميس الوحشية، لقد حقق قطيعنا العظيم اليوم نصرا مشهودا، وظفرا مؤزرا، بفضل قوة وشهامة وشجاعة أخينا الجاموس الفتي "نطاح" ستتحدث عنه بنو الحيوان، فما أجمل النصر! وهل يكون النصر إلا بتأمير قائد شجاع يلتف الجميع حوله بوحدة لا تنقسم، وترابط لا ينفصم، وتعاون لا يفتر؟! وما أجدر هذا الجاموس القوي الفتي "نطاحا" بالتفاتنا إليه، وثنائنا عليه، واعتزازنا به، وولائنا له، ليقود قطيعنا ويكون أميرنا لما يعرف عنه من القوة، ويتصف به من النباهة، ويشتهر به من الشجاعة ويتحلى به من الإقدام! فتحمست الجواميس لهذا الاقتراح، فهتفت حتى تردد صدى هتافها في أرجاء الغابة: "نطاح".. "نطاح"! فأعلن الجاموس الفتيّ "نطاح" قبوله تولي إمارة الجواميس الوحشية على أن تلتزم الجواميس جميعها بما أشار إليه الحكيم في خطبته عندما أكد على أهمية الإلتفاف حول القائد بالوحدة والتعاون، وأعلن "نطاح" أن خطته تقضي بأن تقوم الجواميس بتعيين جماعة من أفراد القطيع لأجل الحراسة، على أن يحف الحراس بالقطيع من جميع الجهات، وأن تقاتل الجواميس جنبا إلى جنب إذا تعرض أحدها لعدوان، فوافقت الجواميس، وأعلنت عن تنصيب "نطاح" أميرا عليها!
وكان بين الجواميس أخوان يتصفان بالجبن الشديد، أحدهما يدعى "فظيعا" وقد عُرف بالخبث الشديد، والثاني يدعى "سريعا" وهو قليل الوفاء عديم الانتماء. فتشاور الأخوان في الأمر، فقال "فظيع" لأخيه "سريع": ما لنا – يا أخي - ولمقاتلة أكلة اللحوم من السباع والضواري؟ ما رأيك في أن نعلن رفضنا لهذا الاقتراح، وانفصالنا عن القطيع، ولكننا سنبقى قريبين منه، فإن حصلت إغارة على القطيع نظهر انشغالنا بالرعي، ونتجاهل الأمر، وإن هوجمنا نحن فلن تتركنا الجواميس دون أن تهب لمساعدتنا، لأن ذلك يتسبب لها بالعار ويظهر ضعفها. فقال "سريع": أوافقك يا أخي على هذا.. فأنا لا يسعدني انتمائي إلى قطيع الجواميس منذ أن كنت صغيرا، فهي ثقيلة الجسم، بطيئة الحركة، ضعيفة التفكير! فأخبر "فظيع" و"سريع" أمير الجواميس "نطاحا" بانفصالهما عن قطيعه.
أما الأسد، فقد عاد إلى عرينه باكيا لفقد لبؤته، وبعد أن أفاق من صدمته، قرر الانتقام من الجاموس الفتي "نطاح" لأنه قتل لبؤته، ولكنه فضل الانتظار حتى تبلغ أشباله أشدها لتعاونه على قتله.
ولما بلغت الأشبال أشدها، تتبعت برفقة والدها الأسد قطيع الجواميس الوحشية حتى أدركته، فلاحظ أحد حراس القطيع قدوم الأسد ومعه أشباله فعرفه، فأخبر أمير القطيع، فأعلن الأمير "نطاح" النفير، ولما اقترب الأسد وأشباله رويدا رويدا من القطيع، فوجئ الأسد بالجواميس وهي تلتف بشكل حلقة حول أميرها "نطاح" ووجوهها نحو خارج الحلقة وقد أخفضت رؤوسها ووجهت قرونها متأهبة للقتال، أما الجاموسان المنفصلان عن القطيع فقد وقفا ينظران من بعيد وهما يستشعران الأمان، وكل منهما يجادل الآخر بتوقع الجاموس الذي ستهاجمه الأسود أولا لتخترق الحلقة من خلاله للوصول إلى أمير الجواميس.
ولكن حال الأسود في مواجهة كامل القطيع لم تكن بالقوة التي توقعها الأخوان المنفصلان عن القطيع، فإن الأسود عندما رأت الجواميس واقفة على هذا النحو، مستعدة للقتال موحدة في المواجهة، أسقط في يدها، وقررت الانسحاب على أن تتحين فرصة سانحة تجد فيها أي جاموس منفرد لتنتقم من قطيع الجواميس بافتراسه.
ولم يطل الأمر كثيرا، فبينما كانت الأسود عائدة إلى عرينها، والغيظ يشتعل في صدورها، لمح أحد الأشبال الجاموسين المنفصلين، وكانت الغفلة قد أخذتهما ظنا منهما أن الموقف قد انتهى بانصراف الأسود، فأشار الشبل لوالده باتجاههما، فطلب الأسد من أشباله مرافقته والتوجه نحوهما ببطء وحذر، فلاحظ الجاموس "فظيع" الأسود قادمة تجاهه وتجاه أخيه، فقرر بما يتصف به من الخبث أن يبتعد عن الأسود مسرعا دون أن ينبه أخاه "سريعا" لقدومها وذلك لكي تنشغل الأسود بأخيه، فتكف عن مطاردته هو، وبعد أن ابتعد قليلا وشعر بالأمان نظر إلى الوراء ليرى حال أخيه، فكانت الأسود قد تمكنت منه، وقال وهو يرى الأسود تعتلي أخاه "سريعا": لو لم تكن نبيها يا "فظيع" لكنت الآن مثل "سريع"! أما وقد أكلت الأسود أخاك فليست لها وليمة من الجواميس – بعد اليوم – سواك!
فشاهد ما جرى بين الأخوين المنفصلين عن القطيع والأسود أحد حراس القطيع، فنقل الخبر إلى الأمير "نطاح"، فاستشار الأمير حكيم الجواميس في الأمر، فطلب الحكيم من الأمير أن يرسل إلى "فظيع" من يعرض عليه العودة إلى القطيع إشفاقا عليه، على أن يكون له ما لأفراد القطيع وعليه ما عليهم، فتفكر "فظيع" في الأمر وقال في نفسه: ولماذا أعود إلى القطيع وأعرّض نفسي لأخطار المعارك، فلأبق حيث أنا، فإذا هاجمتني الأسود سأقتحم القطيع وأندمج في سائر الجواميس، ولن يكون أمامها إلا أن تواجه الأسود، إن لم يكن دفاعا عني فدفاعا عن أنفسها، فرفض العودة.
وبعد أيام، وعندما شعر الأسد وأشباله بالجوع الشديد، تذكروا الجاموس الهارب، فقال أحد الأشبال لوالده، إن الجاموس الذي هرب تاركا أخاه هو دائم البقاء على مقربة من قطيع الجواميس، فلنتتبع القطيع حتى نعثر عليه.
فتتبع الأسد والأشبال القطيع حتى عثروا عليه، وكان الجاموس "فظيع" يرعى بالقرب منه، فتوجهت الأسود نحو "فظيع" بخفة وحذر، فأحس بها، ورآها تقترب منه، فانطلق يعدو باتجاه قطيع الجواميس، والأسود تعدو وراءه، فشاهد الموقف أحد حراس القطيع، فأطلق صيحة تحذير مستعجلة فاصطفت الجواميس متحلقة حول الأمير متأهبة للقتال، فلم يستطع "فظيع" اختراقها بسبب تقاربها، وصار يبحث عن ثغرة ليندمج من خلالها بالقطيع فلم يجد، وبقي خارج حلقة اصطفاف الجواميس، وما هي إلا لحظات حتى اعتلته الأسود، فاستشار الأمير "نطاح" حكيم الجواميس بأمر نجدة الجاموس "فظيع" إشفاقا عليه، فرفض الحكيم تقديم العون له وطرد الأسود عنه، فسأله الأمير: لماذا يا حكيمنا وأنت معروف بالرأفة والشفقة؟ فقال الحكيم: إذا انتصرنا لهذا وقد فعل ما فعل، فلسوف نفقد وحدتنا ونخسر قوتنا! فسأله الأمير: وكيف يكون ذلك؟ فأجابه الحكيم: سر قوتنا ووحدتنا أيها الأمير يكمن في خوف كل منا على نفسه، فإذا أمن الواحد منا على نفسه بإشفاق القطيع عليه حين تدهمه الأخطار، فلسوف تجد من أمثال الجاموس "فظيع" الكثير!
ثم قال حكيم الجواميس، على سليقته، وليس من طبيعته قول الشعر:
إيّـاكَ مِنْ هَجْـــر الشقيــقِ للحظـــةٍ
أو أنْ تُقاطعَـــــه مــدى الأزمـــــانِ
والـزمْ مكانَـــكَ بيـنَ أهلِــكَ كُـلّـــهمْ
كالغصــنِ مُؤتلفــا معَ الأغصــــانِ
واجعلْ حُضورَكَ بين شعبك فاعـلا
كالقلــبِ ينبــضُ دائــم الخفقـــــانِ
فالقلبُ في الصدر السليم صلاحُــهُ
وسلامُــــهُ بسَلامَــــةِ الأبـــــــدان!