508
0
لماذا أمر حكيم السفينة بإلقاء الربان في البحر؟!:
بقلم: محمد شريم.
*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.
ذات يوم، استأجر عدد من سكان أحد الأقاليم - بعد أن ضاقت بهم الأحوال - سفينة لتقلهم إلى جزيرة جميلة المنظر كثيرة الخيرات تسمى "جزيرة الأحلام".
وأثناء الرحلة، صعد الرّبان الصاري ليعالج بنفسه خللا طرأ على وضع أحد الأشرعة، فسقط على سطح السفينة، ففقد وعيه، فنقله البحارة إلى حجرته، وأحضروا طبيبا كان ضمن ركاب السفينة لمعالجته، فأخبر الطبيب أبناء الربان الثلاثة الذين كانوا يعملون كمعاونين لأبيهم أن الرجل في حالة الخطر، ونصحهم بالعودة إلى الميناء لنقله إلى مشفى المدينة، أو أن يعرّجوا به على أقرب جزيرة يتوفر فيها مشفى.
فقال أبناء الربان للطبيب: لا نقدر على هذه ولا تلك! فإن من الصعب علينا أن نعود بالركاب إلى الميناء، بعد أن ابتعدنا عنه مسيرة ثلاثة أيام، فقد يتمردون علينا، ومن الصعب أيضا أن نترك أبانا على هذه الحال في جزيرة غريبة دون أن يبقى أحدنا إلى جواره، ولن يستطيع أي منا البقاء معه، فإن على كل واحد منا مهمات يقوم بها أثناء الإبحار! لكن، ألا تستطيع أنت تطبيبه ريثما نصل "جزيرة الأحلام"؟ فإن فيها مشفى عريقا.. فقال الطبيب: إذا لم يكن غير هذا الخيار سأقدم له من الخدمة ما أستطيع!
وبعد أن غادر الطبيب، سأل كبير الإخوة واسمه "ملاّح" أخويه: ألا يستدعي الأمر أن يتولى أحدنا مهمة الربان ما دام أبونا على هذه الحال؟ فأجابا: فلنستشر أبانا! فسألهما مستنكرا: وكيف نستشيره وهو فاقد الوعي؟ فقالا: ومن أخبرك أنه فاقد الوعي؟ فقال "ملاح": الطبيب! فقال أخواه: لو كان الطبيب واثقا من طبّه لما اقترح أن نعود بأبينا إلى الميناء! فقال أخوهما: وكيف يجيبنا حتى لو كان واعيا؟ فقالا: ألا تراه يحرك يديه ورجليه وجفنيه ورأسه بين الفينة والأخرى ولو بشكل محدود؟ ذلك يكفي للرد علينا، فنحن تكفينا الإشارة! فقال: استشيراه! فقالا: بل استشره أنت.. فأنت كبيرنا!
فتقدم منه "ملاح" وسأله: ألا ترى يا أبانا أن يكون أحدنا ربان السفينة حتى تشفى؟ فلم تبدر عن الربان أية حركة، فقال "ملاّح": أرأيتم؟ ها هو لم يجب! فقالا: بل أجاب! فسألهما: كيف؟ فقالا: لم تصدر عنه أية حركة لأنه رأى أن سؤالنا لا يستحق الرد.. وكأنه يقول لنا: ما دمت على هذه الحال فمن الطبيعي أن تختاروا ربانا بديلا! فقال أخوهما: إذن سأتولى مهمة الربان! فسأله أخواه: ومن الذي اختارك لهذا؟ فقال: أنا كبيركم! فقالوا: وما علاقة السن بهذا؟ فقال: أنا أكثركم سفرا مع والدي، وكنت المعاون الأول له، وعلى دراية بأنواء البحر، وأجيد الاستدلال بالنجوم، وأحفظ خريطة الموانئ وطرق الإبحار! فقال الأخ الأوسط واسمه "هدار": بل أنا الأحق، فأنا أتابع مع البحارة أعمال صيانة السفينة ونشر الأشرعة وتوجيهها وطيها وتفقد أوضاعها، كما أتابع معهم سائر إجراءات تسيير السفينة وإدارة الدفة! فقال أصغرهم واسمه "غطّاس" لأخيه "هدّار": لو كنت تتابع أعمال صيانة السفينة وأوضاع الأشرعة مع البحارة كما يجب لما اضطر والدنا للصعود بنفسه إلى الشراع على عجل حتى سقط فكان ما كان! بل أنا الأحق بالقيادة، فأنا من يتدبر مع البحارة شؤون الركاب ويوفر لهم ما يحتاجون إليه أثناء الإبحار! فتعالت أصوات الإخوة، حتى تناهى صراخهم إلى مسامع الركاب..
فحضر جمع من الركاب وفصلوا بين الإخوة، وقالوا: لن نسمح لكم بالاختلاف الآن حفاظا على السفينة، ولن يتولى أي منكم مهمة الرّبان، وسنسمي رجلا موثوقا من الركاب ليكون آمرا للسفينة بما تقتضيه حكمته.
فتشاور الركاب فيما بينهم لاختيار آمر السفينة، فتساءل أحدهم: أليس في السفينة رجل حكيم؟ فقال آخر: ثمة شاعر لا يبرح حجرته إلا مرتين كل نهار، مرة عند شروق الشمس وأخرى قبيل الغروب، يتأمل الشمس فيهما من فوق سطح السفينة ثم يعود لحجرته. فقال ثالث: أحضروه، فالشاعر إلى الحكمة أقرب من سواه! فقال رابع: بل هو شاعر وحكيم! فهتف ركاب السفينة: أحضروه.. أحضروه! .. فأحضروه.
فوافق الشاعر الحكيم على تولي مهمة "آمر السفينة"، على أن لا يستشار بأي شأن لا دراية له فيه، فقال الركاب: لهذا اخترناك!
وعند المساء، دخل "ملاّح" وقال لأخويه: نحن مقبلون على ساعات عصيبة! فسأله أخواه: لماذا؟ فأجاب: المكان الذي نبحر فيه الآن معرّض في هذا الوقت من السنة للعواصف الشديدة، وقد ظهر للديدبان من أعلى الصاري من البوادر ما يؤكد أننا مقبلون على ليلة عاصفة، فما رأيكما؟ فقالا: الرأي لوالدنا! فاقتربوا من سريره، وقال "هدّار": نحن مقبلون على ليلة عاصفة يا أبتِ.. هل نبطء في الإبحار أم نسرع؟ فتحرك جفن الرّبان قليلا فقال "هدّار": أرأيتم؟ أعطانا إشارة بتحريك جفنه بعد أن ذكرت خيار الإسراع.. فلنسرع إذن ! فقال "ملاح": فلننشر المزيد من الأشرعة إذن لزيادة الاستفادة من قوة الرياح!.. وما أن نُشرت تلك الأشرعة حتى أدركت العاصفة السفينة، فازدادت سرعتها، كما ارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة بالتمايل، فاضطرب الركاب، وجاؤوا آمر السفينة، فاستوضح الرجل من أبناء الربان عن واقع الحال، فأخبروه أنهم استشاروا والدهم فأشار عليهم بالإسراع، وأنهم زادوا سرعة السفينة فبدأت بالتمايل مع ارتفاع الأمواج. فاستغرب من أمرهم، وقال: كيف تستشيرون رجلا على هذه الحال؟ فقالوا: هو يعطينا الإشارة ليس غير! فقال لهم آمر السفينة: أبوكم علّمكم الإبحار لتسدوا مسده في موقف كهذا، فاتركوه وشأنه للطبيب! ابذلوا جهدكم لتعدّلوا وضع السفينة حتى تقل سرعتها ويخف تمايلها..
غادر آمر السفينة حجرة الرّبان، حيث يتواجد الإخوة، وعاد إلى حجرته، فتشاور الإخوة في الأمر، فقال "غطّاس": يجب ألا نستفز الركاب! فتساءل "ملاح": وكيف يتأتى لنا ذلك؟ فأجابه "هدّار": بأن نطوي ما يجب طيه من الأشرعة.. فلاحظ "غطاس" أن والده ضغط شفتيه بعض الشيء فقال لأخويه: انظرا.. لقد تبسم والدنا.. إنه يؤيد طي شيء من الأشرعة! فتابع "هدار": ولنسر مع التيار باتجاه "جزيرة السكينة" القريبة حتى تمر العاصفة.. فلاحظ "غطاس" أن أباه أمال برأسه قليلا على الوسادة باتجاه اليمين، فصاح: لا.. لا يكون هذا! لقد أشاح والدي برأسه جانبا، وهذه عادته حينما يظهر الرفض! سنطوي ما يجب طيه من الأشرعة، ولكننا سنستمر في الإبحار بنفس الاتجاه! فطووا ما ارتأوا طيه من الأشرعة، فقلت سرعة السفينة كما قل تمايلها.
ومع مرور الساعات ازدادت سرعة الرياح، فعظم ارتفاع الأمواج، وازدادت سرعة السفينة كما ازداد تمايلها مرة أخرى.. فجاء الركاب آمر السفينة خائفين، فجاء هو الإخوة مستفسرا، فأخبروه بخبرهم وبما كان مع أبيهم. فزجرهم قائلا: ألم أقل لكم اتركوا والدكم وشأنه؟ سيروا وفق ما يرى "هدار"، وتوجهوا إلى شاطئ "جزيرة السكينة" حتى تهدأ العاصفة.. قالوا: نأمل الخير أيها الحكيم..
فغادرهم آمر السفينة، وتشاور الإخوة في الأمر مرة أخرى، فقال "ملاح": رأيي ألا نغضب أبانا وألا نعصي الحكيم! فلنبتعد عن العاصفة، بأن نسلك في إبحارنا إلى "جزيرة الأحلام" طريق "مثلث الحيتان" ذي المياه الهائة، بدل التوجه نحو "جزيرة السكينة" ما دام أبونا يعارض التوجه إليها! فقال "غطاس": ولكن مياه هذا المثلث الواقع بين ثلاث جزر طريق خطيرة لأنها موطن عدد من الحيتان الضخمة الشرسة التي كثيرا ما تصطدم بالسفن! فلم يستجب أخواه لتحذيره، وبعد ساعات بدأت السفينة - في مثلث الحيتان - تسير وفق سيرها المعتاد، وما أن حمد الركاب الله على نجاتهم من العاصفة حتى شعروا باهتزازة مفاجئة تصيب السفينة، فتصايح بعض الركاب من على ظهرها: الحيتان.. الحيتان! وهرولوا إلى آمر السفينة، فوجدوه يلملم أوراقه التي تناثرت على أرض الحجرة، فصاحوا مستغيثين: الحيتان تصادم السفينة يا شاعرنا الحكيم! فهرول آمر السفينة الحكيم إلى حجرة الربان وصاح: ماذا فعلتم؟ هل سلكتم طريق "مثلث الحيتان"؟ لماذا خالفتم اتفاقنا ولم تتوجهوا إلى شاطئ "جزيرة السكينة" الهادئ؟ فقالوا: ظننا أن الحيتان لن تصادفنا!.. لم نشأ أن نعصيك ولا أن نغضب أبانا! فصاح بهم: ظننتم؟! ألا تفهمون؟! تلقون بالسفينة إلى المخاطر لتستأنسوا بحركات عفوية تصدر عن رجل فاقد للوعي؟ فقالوا: لا عليك!.. سنتوجه حالا إلى شاطئ"جزيرة السكينة".
وما أن غادر الحكيم حتى توجه الإخوة إلى أبيهم قائلين: لا تؤاخذنا يا أبانا.. نحن مضطرون للتوجه إلى شاطئ "جزيرة السكينة" مكرهين! فلم تبدر عن أبيهم أية حركة ، فصاح "هدار": يبدو أن أبانا لم يقتنع بفكرة التوجه إلى "جزيرة السكينة" بعد!
ولم تكد ساعة من الزمن تنقضي حتى اهتزت السفينة للمرة الثانية، فضج الركاب بالصياح مرة أخرى، فعاد آمر السفينة الحكيم مسرعا إلى حجرة الربان وصاح: ألم تغيروا مسار السفينة بعد؟! فقالوا: لا تؤاخذنا أيها الحكيم! فقد قررنا تغيير مسارها، ولكن والدنا غضب منا، وأحببنا أن نقنعه أولا! فصاح بهم: وكيف عرفتم أنه غاضب؟ فقالوا: استأذناه بتغيير مسار السفينة فلم يرد! فنظر آمر السفينة إلى الربان فرآه ساكنا، فارتاب بأمره، فأمر باستدعاء الطبيب، وعندما فحص الطبيب جسم الربان، وجد ميتا..
فقال الطبيب: البقاء لله! ولم يكد يتم كلمته حتى تلقت السفينة ضربة ثالثة، فصاح الحكيم: ماذا تنتظرون؟ غيروا مسار السفينة قبل أن تصيبها الحيتان بأذى! فصاح كبير الإخوة: لا والله! لن نغير مسارها! لقد توفي أبانا وهو يرفض هذه الفكرة!
وعندما سمع الركاب ما قاله "ملاح" استبد بهم الخوف، وارتفع صياحهم غضبا، فتلقت السفينة ضربة أخرى اهتزت معها بشدة أكبر، فصاح الحكيم بغضب: أيها الرجال، ائتوني بتسعة شبان أشداء! فتقدم منه الشبان التسعة وقال: فلتربطوا أبناء الربان الثلاثة كلا منهم على انفراد! فصاح ثلاثتهم: ماذا تقول أيها الحكيم؟! فلم يأبه الشبان لصياحهم، فربطوهم وأجلسوهم في حجرة القيادة.. فقال آمر السفينة: لقد توفي أبوهم وانتهى أمره، والبحر مقبرة البحارة، ألقوا بجثته في البحر! وأنتم يا أبناء الربان، أمامكم خياران: إما إنقاذ السفينة بحسن توجيه البحارة أو إغراقها لتكونوا أول الغارقين! فقال كبيرهم: أنا لا أخذل أبي بعد وفاته حتى لو أغرقتموني معه! وقال أوسطهم وأنا مثل أخي "ملاح"! في حين قال أصغرهم "غطاس": أيها الأخوان، لقد حانت لحظة الحقيقة، وقد ثبت أننا كنا في ضلال، حتى وجدنا سفينتنا على هذه الحال! ولو كان أبونا حيا لعمل المستحيل لننجوا بالسفينة وتنجوا السفينة بنا! فالتزم أخواه الصمت.. أما هو فقال لآمر السفينة: أنا في الخدمة أيها الحكيم! فالتفت آمر السفينة إلى سائر البحارة المتواجدين حوله، وقال لهم: أيها البحارة، تابعوا عملكم كما اعتدتم عليه، وإذا شكل عليكم أمر من الأمور فلتستشيروا البحار "غطاسا" بشأنه.. فأمر "غطاس" البحارة بتوجيه السفينة نحو "جريرة السكينة"، فوجوهها، وسرعان ما انقطعت صدمات الحوت..
في تلك الآثناء كان الركاب قد بلغ بنفوسهم التعب والخوف أي مبلغ، وكلهم ينتظر المحنة الجديدة التي ستحل بالسفينة بعد نجاتها من العاصفة وصدمات الحوت، وكم كان فرحهم عظيما حينما فوجئوا في الليلة التالية بأحد الركاب يهبط إلى بطن السفينة وهو يصيح: يا بشرانا!.. يا بشرانا!
فخرج آمر السفينة من حجرة الربان ليصيح بالرجل: ماذا وراءك يا هذا؟ فصاح الرجل بفرح: الديدبان رأى بأم عينيه من مرقب السفينة قمة المنار متلألئة على شاطئ "جزيرة السكينة" أيها الحكيم!
وعندما ألقى البحارة المرساة في ميناء "جزيرة السكينة" قال الشاعر الحكيم:
لا يرتضي البحَّـارُ ربط سفينـةٍ
بإشــارةٍ صـدرتْ مـن الرُّبــّـان
إنْ كـان يُصدرهــا بغيـر تفكّــر
أوْ كـان مَرجعهـا إلى الهذيان!