396

0

قراءة في ديوان ( جراحات المطر ) للشاعر فرحان الخطيب

بقلم : رمال حديفة 

" جراحات المطر "حروف اتّكأت على غلاف ديوان الشاعر فرحان الخطيب فكانت عنواناً أثار الخيال لرسم صورة الألم الناتج عن أذى لحق جسداً نقياً ضعيفاً ،فلم يكن جرحاً واحداً بل استخدم الشاعر الجراحات جمعاً تمتد فيه الألف لتملأ المدى آهاتُ قطرةِ المطر الشفيفة الرقيقة التي أنهكتها الخدوش، بل الضربات الموجعة والمؤلمة، ولكنّها لم تغيّر فطرتها في صفائها وعطائها بل كانت تنقسم وتتوالد من كلّ قطرة ألف قطرة، وبين الجرح والجرح يولد أمل جديد. ولابدّ للعنوان أن يكون العتبة النصيّة الأولى التي نعبُرُ من خلالها إلى محتوى الديوان، فكان قصائدَ نُظِمت ببراعة شاعر أتقن التنقّل متوازناً على أمواج بحور الشّعر مُنوِّعاً في الأغراض كمَن يقطف من كلّ بستان زهرة، حيث بدأها بالوطن، فكانت دمشق أسطورة العشق والجمال، حينما رآها الشاعر وقد تهادت بطلّتها البهيّة وسموّ مجدها لتكون كالمطر يَهَبُ الحبّ وينثرالجمال في كلّ آن ومنها: 

سألت دمشقُ الشعرَ كيف تراني؟ 

 فأجاب : يلهج بالجمالِ لساني

وإذا تحشّدت الزّنابق بالربى

فاح الأريجُ بمربع الرّيّان

رهفت دمشقُ وقد روى شعراؤها

غزلَ الربيعُ وشاحَها الرّبّاني

وفي قصيدة أخرى يناجي الشآم " شعلة الضوء " ، ويذكّرها بأمجادها، ويشكو لها حال الأمة وقد أصابتها السهام والنبال فأثخنت جسدها الغض الجراح، ولكنّه يبقى على أمل أنّ جراحنا ستحرّك مكامن العزة فينا لننهض من جديد في صورة شعرية جميلة شرحت ووضّحت مراده، يقول مخاطبا إياها:

لو تعودين نيزكاً في الليالي

نحن جمرٌ يعسّ تحت الرماد

عندك الفجر في يدٍ من خزامى

ويدٌ حدّ شهقةٍ من زنادِ  

وإذا كان الشاعر كريمَ المحتد، أصيلَ الأرومة، عروبيَّ الإنتماء، فلا عجب أن تكون القدس حاضرة في مهجته، ينتفض قلمه مخلّداً طوفان أقصاها " طوفان الأقصى " مؤمناً أنّ الأوطان لاتزهر إلا حين يروى ترابها بالدم، ولكن العرب خذلوا الزهرَ والشجر، وماهزّهم دم الطفولة المسفوح على ثرى كرامتنا ، ولا آذت أسماعَهم آهاتُ وأنّات الثكالى المكلومات حزناً وفقداً ، ويبقى الأمل حيّاً في هواجس الشاعر، وكأنه ينطق بمقولة مفادها، أن على الأرض متسع للمطر كي يسقط وينبت الزهر ومن أبياتها:

يا ويحَنا من أمّة مكلومةٍ

هانَ الرّجالُ وتاهتْ الفرسانُ

ودم الطّفولة جدْوَلَتْهُ مذابحٌ 

وتشاهقتْ من حوله النيرانُ 

وفي مكان آخر يخلّد الشاعر " تضحية " الشهيد فلا عطاء يصل إلى كمال عطائه، فيكافئه بأبيات جميلة على البحر الكامل، يتحدث فيها بلسان الشهيد وينقل وصيته للأجيال القادمة فيقول:

يا أيّها الشعب الأبيّ وصيتي

إنّي أرقتُ دمي لكي يتبرعما

دفلى وأزهاراً ومجداً باسقاً

وكرامةً تبقى وعزّاً دائما

ويدرك شاعرنا رسالة الشعر ومسؤولية الشاعر، فيترجمها في أبيات رائعة من أجمل قصائد الديوان بعنوان " يا شاعر الحب " حيث رأى أنّ ترجمة الحب لا تكون بشعر الغزل وحده، بل للحب مفاهيم أخرى أوسع وأعمّ وأرحب حين يسلط الضوء على أوجاع الناس ومعاناتهم، فنجده يقارن بين ماكنّا عليه، وما وصلنا إليه مستخدماً صوراً واستعاراتٍ بديعة فيقول على لسان فتاته:

يا شاعر الحب حدّثْ عن مآسينا

قالت بلا وجلٍ : عمّا تحاكينا !؟

 كنا نُجدّلُ شَعْرَ الشمس حين ضحى

 نزينُ غرّتَها فُلّاً ونَسرينا 

ولكنّ الحال تبدّل، والجراحات أثخنت الروح، ليكمل :

فالطفل لا يأكل الأزهار شاعرنا

لا يشربُ العطرَ صبحاً أو رياحينا

صارت سنابلنا عرجاء خاوية

قد قصّفت قدّها أرواح تشرينا

فالسنابل عند الشاعر باتت عرجاء، وكأنها آلت إلى خريف العمر بعدما أحنت ظهرها رياح التشارين العاتية، أما أزرار الهوى التي يحلم بها الشاعر مع حبيبته فقد يبست كما أعلنت عنها، والشاعر في كل هذا يحاول أن يكون قلمه البلسم الشافي للجراحات التي طالت أظافرُها شفافية قطرة المطر الصافية ، ورمزها الحب والجمال :

يا شاعر الحبّ أزرار الهوى يبستْ 

ما دام في وطني غازٍ يعادينا 

وتتعمّق الجراح وتزداد ألماً حين تنطلق آهات الحنين إلى الوطن من قصيدة " المهاجر " ويتفنّن الشاعر في استخدام صيغة الفعل " فعّلَ "التي أفادت المبالغة في التعبير عن مرارة البعد فقد أضحى زهرة " شلّعتها " الريح عن فنن، وأغرق في وصف حاله مستخدماً ضمائر المتكلم ليزيد في وصف غربة روحه ( أحمل أحزاني، أنا الغريب، ما عدتُ أشبهني ، نهر السّين عطّشني ، الوقت شطّرني) 

وألحظ الوجع نفسه وربما أكثر حين يصوّر حنينه لطيور جنّته التي خفقت بأجنحتها مبتعدة، فأخذت قلبه " قلبي هناك " وتركته يزركش قصائده بأسمائهم، ويهمس همساً مؤثراً بتمتمات شفاههم يحدوه أمل بعودة الطيور إلى الدالية، الوطن :

إنّي وأشواقي تخبّرني

ستعودُ أطياري لداليتي

ويلف القلبَ حنينٌ الى دار الطفولة، وقهوة الأب الشيخ التي كانت يفوح أرجها وعبق هيلها في أرجاء المكان فيقول:

قهوة الشيخ والدي غبّ فجرِ

 تملأ الجوَّ عطر هيل وعنبرْ

إنًه الحنين إلى أنس الضيف، وقساوة البرد وخضرة الربيع ، حنين يجرجر أثواب الأسى في القلب لمظاهر الهرم التي ألمّت بالكرم وباب الدار، فترى الألفاظ جاءت معبرة وقد ارتسمت تجاعيد الزمن عليها فجعلتها متثاقلة تتوكّأ على عصاها محاولة البقاء :

وانحنى بابُ دارنا من فراقٍ

 رب باب قد عاش دهرا وختيرْ

هرمَ الكرم بعد طول غيابٍ

كلُّ ما فيه سائبٌ قد تبعثرْ

وهل من نار تحرق القلب مثل الحنين الى أم ( أرج الأمومة ) توقّف النبض في أوردتها، لكن رائحتها مازالت تعبق في الدار، وصوتها يملأ أفق الذاكرة فنراه يشعر بوجودها ويرى بعينيها فيقول: 

ما زلتِ يا أمي ولو ضمّ الثرى 

عينيك إنّي من عيونك أبصرُ

وتتوالى الأحزان على الشاعر فكان فراق الأخ والصاحب جرحاً آخر يضاف إلى جراحاته فيرثيهما بأبيات مؤثرة نقلت شعور الحزن الشديد، ثمّ يعود ليداوي روحه المتألمة بنفسه، فتكون سلواه في الذكر الطيب الذي يجعل الأموات أحياء في الذاكرة لاتموت خصالهم النبيلة ولو فني الجسد. كل تلك الهموم التي يحملها الشاعر لاتنسيه لحظات الفرح فهاهو يذكر سنيّ حياته التي عاشها وقطع عهداً على نفسه أن يبقى جسوراً مهما تعاظم الجرح، فبقي على صلة بالعنوان وكان كقطرة مطر تتألم فتقاوم وتعطي وكانت قصيدة " جميلات عمري " على البحر الطويل لتتناسب مع صبره وطول نفسه وشدة تحمّله ومنها:

وأغدو إلى أحلى حياة لأجلها 

ولو خانها عام فإنّي أعيدها 

وفي " غدنا " يبقى الأمل نقطة ضوء في آخر النّفق المظلم يحمله الشاعر سراجاً يدعو من خلاله الإنسان أن يعوّض مرّ الحياة وينثر الحبّ والأزهار والفرح فكما تَعِد نفسك تجد الحياة أمامك، وأنت وحدك القادر على صنع غدك فيقول:

فالأرض لا تمنح الفلاح غلّتها 

إلا إذا حرث الفلاح أو قَمَحا 

أودُّ لو تغربُ الدّنيا على أملٍ

ويشرقُ الكون، كلّ الكون قد صلحَا

إنّها ألفاظ بسيطة تصل إلى كلّ من يقرأ بسهولة ويسر، و في الوقت نفسه تحمل في طيّاتها حكمة الحياة وأمل الغد.

و" رحلة الكلمة " مع شاعر يجمع بين الجمال والبلاغة والهدف السامي لها مذاق مختلف، فإذا تغزّل فحرفه غنج اللمى، ومداده لهفة العاشق، وإذا أصاب الوطن مسّ أذى كانت حروفه والرصاص سواء، وإذا تضاءل الأمل أنبت ورداً في الرمال، ولذلك تضوع الشذا من أردان الحروف " يا للشذا يتضوّع " حين أراد شاعرنا أن يذكر فضل اللغة على المبدع فكانت أبياتاً رائعة تستحقها لغتنا المطواعة المتجددة الأصيلة حين شخّصها فتاة حسناء يضوع عطر فصاحتها، وقد رافقته مشيا بنظرات عاشقة، وخطرت بجمال قامتها وغنج دلالها، فتبادلا حباً بحب، وعانقت معانيه وولدت قصائد تحلو بها المجالس، فاستحقت العهد بالحماية والذود عن حياضها، وعلى البحر الكامل كمل جمالها معه، و فاض عطاؤها فقال:

ياأنت من منح البلاغة حسنها

ونفحت أصقاع الدنى ما أبدع

وفي قصيدة " دوح القصيدة " يتابع الشاعر الحديث عن مقومات الشعر، ويشير إلى من تسلّق سلالم الشعر وهو أعرج فأساء للشعر والشعراء، فما كل من ساس الخيول بسائس ولا كل من كتب الشعر بشاعر، فاللغة لاتنتج شعراً إلا إذا رافقها خيال مبدع وراقص حرفها موسيقا أصيلة:

ألق القصائد أن تهندم قدّها 

معنى يحاكي في البلاغة أبكما

ومهما تنوعت الأغراض يبقى الحب الشعور الأقدس والعاطفة الأجمل والصورة المتألقة للعلاقات الإنسانية في أسمى معانيها الوجدانية، فيأتي شعر الغزل ليجسد تلك العاطفة المتأججة ، يطرب النفس وتتنسم الروح فوح حروفه، ولاعجب أن يسمو شأن الحب عند الشاعر فرحان الخطيب فلا يُسعد قلبه إلا غناه بالحب ولا شيء غيره، والحب لايتجزأ فقد أحب الطبيعة فكان صديق الورد الودود، يعشق الجمال بكلّ صوره، ينادم الليل ويكتب أمانيه على خدّ القمر، وأي أمنية أسمى من حسناء تبادله حباً بحب فيخلص لها الهوى !؟ ومن نصه اللطيف " صديق الورد " اخترت:

أرى كلَّ الحياة بعين ودٍّ

لعلًّ الوردَّ يخفق في كياني 

حياتي ملك من أهوى فهل لي

حبيبٌ لو نأيتُ أنا يداني

وحين يجتاح العشق الروح يرقّ القلب ويحلو اللسان بمعسول الكلم، وينساب شعراً ليلكياً يهديه الشاعر لمن ترك كلّ مَن حوله واختارها، فإذا كان اللقاء تناغم العاشقان لحناً مدوزناً، ومضى الوقت عشقاً وغنجاً، وأزهر المكان وتردّد صدى اللقاء همساً يدوّي في مسامع الكون " هنا كان عاشقان "، وعلى الوافر الغنائي تجري حروف الشاعر غزلاً رقيقاً لطيف المعاني في قصيدة " عاشقان " جاء فيها: 

تجوسين اللقاء بنبض جمْرٍ

وتحتفلينَ بي عدّ الثواني 

ونزرع حول قلبينا شتولاً 

من الحبق النّديْ والبيلسان 

ولاعجب أن يقدّس الشاعر الفنّ وهو الأخبر به فيرى فيروز نموذجاً للمرأة المبدعة، المرأة الرمز، رمز الفن في أعظم تجليّاته، السحر ونغمة الصبح الندي، فغزل لها من حروفه شالا من نغم يتجاوز فيه القواعد فيلتقي المد والسكون ليسكن كل صوت عداها اعترافا بعظمة وعندلة صوتها : 

حاكت لفيروز البهية مفرداتي ألف شال 

لتكاد تحملها إلى مرقى أفانين الجمال

وبعد الطواف في ديوان الشاعر فرحان الخطيب " جراحات المطر " والتحليق في أمداء قصائده المتعددة الأغراض، والموشحة بحزمة من الألوان البديعية عبر مفردات وتراكيب بلاغية وارفة محمولة على لغة شفيفة ومعانٍ باسقة ، أعود لأقول:

سيبقى المطر رغم الجراحات التي تناهبت صفاءه ونقاءه رمز الخير الذي لا ينقطع، والجمال الذي لا يندثر ، والعطاء الأخضر الذي لا ينحسر، شعراً وحياة، والشعر هو الصورة الأجمل والأمثل للحياة، كما قدمت لنا عبر " جراحات المطر " ومبارك للشاعر هذا الاصدار الجديد عن دار " يسطرون للطباعة والنشر " في مصر.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services