247
0
كلمة عطاف في أشغال النقاش العام للجمعية العامة للأمم المتحدة
النص الكامل للكلمة التي ألقاها وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، أحمد عطاف، التي ألقاها اليوم الإثنين، خلال مشاركته في أشغال النقاش العام للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والسبعين، والتي جرت بمقر منظمة الأمم المتحدة بنيويورك.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين
شكراً السيد الرئيس. نجتمعُ مجدداً في رِحاب مُنظمتِنا الأممية وعالمُنا يمر بمنعطف بالغِ الدقة والحساسية والخطورة:
منعطف يَسُومُهُ تراكمُ النزاعاتِ والأزماتِ والحروب، واتساعُ هُوَّةِ الفوارقِ التنموية بين الشمال والجنوب، وتفاقُمُ حِدَّةِ التَّغَيُّرَاتِ المناخية والمخاطر البيئية بكافة أنواعها وأشكالها،
ومنعطف يَكْشِفُ عن حجم العجز الذي أصابَ منظومةَ الأمن الجماعي في ظل النزعة إلى حلِّ الخلافات بالقوة، واللُّجوء المُفرط والانتقائي للإجراءات العقابية أحادية الجانب، والتراخي في الوفاء بالالتزامات المعقودة، والاستخفاف بالشرعية الدولية، وكذا استفحالِ ظاهرة الاستقطاب وما صاحَبَها من تَغْيِيبِ دورِ مجلسِ الأمن ومن اضمحلالٍ يطالُ العمل الدولي مُتعدد الأطراف برمته،
وأخيراً وليس آخراً، منعطفٌ يَضَعُ على المِحَكِّ منظومةَ العلاقاتِ الدولية بأسرها، بما تقومُ عليه من قواعِدَ ومبادِئَ وضوابط قنَّنها ميثاقُ الأمم المتحدة، وبما تستندُ إليه من آلياتٍ وهياكلَ ومؤسساتْ تَمَّ وضعُها في خدمة ما يربط بُلْدَانَنَا من تطلعاتٍ وطموحاتٍ ومقاصد.
من هذا المنظور، فإن استشراف العقد الثامن من عمر منظمة الأمم المتحدة يجب أن يكون فرصةً لتجديد تَمَسُّكِنَا بما يجمعنا من منظومةٍ دوليةٍ تقومُ على سيادة القانون لا سيادة القوة، وعلى قوة القانون لا قانون القوة، وعلى قوة المنطق لا منطق القوة. إِنَّنَا أحوجُ ما نكون اليوم لإعادة التزامِنا واحتِكامِنا إلى ميثاق الأمم المتحدة وإلى قواِعدِ القانونِ الدولي، التي نَتَساوى جميعاً أمَامَها وفي واجبِ احترامِها والتَّقَيُّدِ بها.
فما يحدث في غزة من حربِ إبادةٍ جماعيةٍ مُتواصلة منذ ما يقرب العام كاملاً، وما يحدث من امتداد هذه الحرب إلى الضفة الغربية مؤخراً، وإلى لبنان راهناً، وما يحدث في المنطقة بأكملها من تصعيد إسرائيلي مُتَعَدِّدِ الأَوْجُهِ والجَبَهَاتْ، كُلُّ هذا، كُلُّ هذا ما كَانَ لِيَكُونْ لو أَنَّ المجموعةَ الدولية اتَّخَذَتْ في حِينِهْ مَوقفاً حازماً يَفْرِضُ على الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني ما فُرِضَ على غيره من إجراءاتٍ عقابية وتدابيرَ ردعية قنَّنها ميثاقُ منظمتنا هذه في فصله السابع.
فالأحرى بالمجموعة الدولية اليوم أن تُسارع لوضع حدٍّ للجحيمِ المُسلطِ على الشعبَيْنْ الفلسطيني واللبناني، وأن تَكْبَحَ جِمَاحَ المُحتل الإسرائيلي ورغبتَهُ في إدخالِ منطقة الشرق الأوسط في دَوَّامَةٍ من الأزماتِ والصراعاتِ والحروب الدائمة واللامتناهية. كما يجدرُ بالمجموعة الدولية أن تدرك أنها أمام مرحلةٍ فارقة ومفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية:
مرحلةٌ لا تقبل العودةَ لِمَا قبلها،
ومرحلةٌ لا تقبل التردُّدَ أو التقاعَس عن دعمِ المشروع الوطني الفلسطيني،
ومرحلةٌ لا تتحمَّلُ التماطلَ أو التسويفَ في دعم التوجهِ نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيدة كحلٍ عادلٍ ودائمٍ ونهائي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
من هذا المنبر، وفي دورتها السابقة، ناشد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، مُنظمتَنا الأممية بالتعجيل في قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين. وقد كان ذلك في ظروفٍ أقل اضطراباً وتأزماً ومأساويةً في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي سائر الجوار الفلسطيني.
أما اليوم، والقضية الفلسطينية تَمُرُّ بأحلكِ مراحلِها التاريخية على الإطلاق، فقد أصبحَ هذا التوجهُ يفرض نفسَهُ بكل حتمية وبكل إلحاح وبكل استعجال. إن العضوية الكاملة لدولة فلسطين بمنظمتِنا هذه تظل خطوةً حاسمةً نحو الحفاظ على حل الدولتين، ونحو التصدي لما يُعِدُّ لَهُ الاحتلال الإسرائيلي من عُدَّة لإفشالِه، بل إجهاضِه، ونحو صونِ ثوابتِ حلِّ الصراع العربي-الإسرائيلي ومقوماتِ الأمن والاستقرار في المنطقة.
أما فيما يتعلق بتطورات الأوضاع في جوارها الإقليمي، فإن قناعة الجزائر تبقى راسخةً من أن مقارعةَ التحدياتِ المُتَشَعِّبَة التي تُواجهها دول وشعوب المنطقة تتطلبُ دعماً دولياً والتفافاً عالمياً لرفع مختلف الرهانات التي ترمي بثُقلها في عمومِ فضاء انتمائنا الإفريقي.
وفي ذات الفضاء، تتطلع بلادي إلى تصفية الاستعمار تصفيةً نهائية، وذلك عبر طي آخر صفحة من صفحاتِه التي لا تزال، وللأسف، ماثلةً أمامنا على أرض الصحراء الغربية. فَلِلأمين العام للأمم المتحدة وَلِمَبعوثِه الشخصي كُلُّ الدَّعمِ والسَّنَدْ منا نَظِيرَ جُهودِهم الرامية لتمكين طرفي النزاع، المملكة المغربية وجبهة البوليساريو، من استئناف مسار المفاوضات المباشرة بهدف الوصول إلى حل سياسي يضمن للشعب الصحراوي ممارسةَ حقه غير القابل للتصرف أو التقادم في تقرير مصيره.
ولمن يراهنُ على تكريس الأمر الواقع الاستعماري بربح الوقت وتزييف المعطيات الدامغة وتكثيف المناورات اليائسة لصرف الأنظار عما هو ثابتٌ وجلي، فإننا نؤكد أن ظاهرة الاستعمار مآلها الزوال طال الزمانُ أم قَصُرْ، وبأن الحقوق الشرعية والمشروعة للشعب الصحراوي ستجد طريقها للنفاذ عاجلاً أم آجلا.
أما فيما يخص الجارة ليبيا، فإن الجزائر تؤكد على حتمية الإسراع في معالجة آفة التدخلات الخارجية التي تُنْهِكُ مُقَدَّرَاتِ هذا البلد الشقيق وتُغذي الصِّدامات والصِّراعات بين أبنائِه. إِذَّاكَ وَإِذَّاكَ فقط، يُمكن للأشقاء الليبيين أن يجتمعوا حول أرضية توافقية تُسَهِّلُ تحقيق أهداف المصالحة الوطنية، وَتُيَسِّرُ التوجهَ نحو تنظيم انتخاباتٍ حُرَّةٍ ونزيهةٍ وشفافة. وكل هذا في خدمة أسمى مقصدٍ نرجوهُ ونترجّاه من صميم وُجْدَانِنا، وهو توحيدُ ليبيا، شعباً، وأرضاً، وحكومةً، ومؤسساتْ.
وعلى الصعيد القاري، تواصل الجزائر جُهودَها ومَساعيها الرامية لتقديم مساهمةٍ نوعية في العمل الإفريقي الجامع، وذلك على ضوء الأولويات التي حدّدتها الأجندة القارية بشكل حاسم وقاطع :
فإفريقيا تتطلع أولاً إلى تفعيل حلولٍ إفريقيةِ المنشأِ والتطويرِ والتنفيذْ لإخماد فَتائِلِ الصراعات وَحَلِّ مختلف الأزمات والنزاعات التي تُكَابِدُها دولُ وشعوبُ القارة.
وإفريقيا تتطلع ثانياً إلى كسْبِ رهاناتِ التنمية الاقتصادية وَالِالْتِحَاقِ بِرَكْبِ الثَّوَرَاتِ المشهودة راهناً في مجالات الذكاء الاصطناعي والرقمنة والطاقات المتجددة.
وإفريقيا تتطلع ثالثاً إلى الدفع بأولوياتِها الاستراتيجية التي تصب في صميم إصلاح المؤسسات المالية والنقدية والمصرفية الدولية لتحسين التمثيل الإفريقي فيها، والمعالجة الهيكلية للمديونية العالمية، وكذا التمويل الدولي اللائق بمقتضيات التنمية على المستوى القاري.
وإفريقيا تتطلع رابعاً وأخيراً إلى تصحيح الظلم التاريخي المفروض عليها في مجلس الأمن وتمكينِها من شغل مكانَتِها الحقَّة بهذه الهيئة الأممية المركزية، امتداداً لانضمامها مؤخراً كعضوٍ دائمٍ في مجموعة العشرين.
وبذات القدر من الالتزام الذي يَحْذُوها على الصعيد القاري، تواصل الجزائر مساعيها وجهودها الرامية لإقامة شراكةٍ متوازنة ونافعة وهادفة في جوارها في الساحل الصحراوي.
وهي المنطقة التي تعيش أوضاعاً هشة من جراء ما تعانيه دولُ هذا الفضاء من تفاقم الاضطرابات السياسية، ومن تعاظمِ الأخطار الإرهابية، ومن استشراء حِدَّةِ الفقر وغياب آفاق التنمية المستدامة، فضلاً عن استفحالِ ظاهرة التغيرات المناخية.
وأمام هذه الأوضاع، فإن الجزائر تُجدد تضامُنَها المطلق مع كافة دولِ وشعوب منطقة الساحل الصحراوي، مؤكدةً على قناعتِها الراسخة أَنَّ أمنَها واستقرارَها ورفاهَها جزءٌ لا يتجزأ من أمنِ واستقرارِ ورفاهِ جوارِها وفضاءِ انتمائِها الإفريقي.
لقد تَفَوَّهَ مُمثلُ دولةٍ من هذا الفضاء وتجرّأَ على بلدي بكلامٍ وضيعٍ لا يليقُ البتة بوقارِ مقامٍ كهذا، ولا يصحُّ البتة مُجاراتُه في الاندفاع اللفظي التَّافِهِ والدَّنِيء. إن مثل هذه اللغةِ المُنحطة قليلةُ الأدب لن يَرُدَّ عليها بلدي إلا بلغةٍ مؤدبةٍ راقية، وهي اللغة التي تعكس بصدق وفاءَه وإخلاصَه لِمَا يَجْمَعُهُ بِدُوَلِ وَشُعُوبِ المِنْطَقَة من رَوَابِطَ مُتجذرة لا تَتَأَثَّرُ ولا تَهْتَزُّ بالعوامل الظرفية العابرة، على سُوئِها وعلى رَدَاءَةِ من يقفون وراء إذكائها.
وَلَدَى بلدي إرادةٌ صلبة، ويدٌ ممدودة، وصدرٌ رحبٌ، كلما اقتضت الظروفُ التعاطيَ مع كل أشقائِنا من أجل بناءِ صَرْحٍ ساحليٍ ينعمُ بالأمن والأمان، والسكينة والرفاه.
إن الجزائر اليوم تخطو خطواتٍ ثابتة ورصينة على النهج القويم الذي أرساه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، لتقوية الاستقرار السياسي والمؤسساتي للبلاد، ولبناء اقتصاد وطني قوي ومتنوع ينهي التبعية لقطاع المحروقات، ولتعزيز الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية كمبدأ ثابت، وكإرث راسخ من إرث ثورتنا التحريرية.
وقد أثمر هذا النهج أُولَى ثِمارِهِ بتكريس أمن واستقرار البلاد وترسيخ مسارها الديمقراطي، لاسيما خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكذا بإرساء مقومات نهضةٍ اقتصادية كاملة وشاملة، وهي النهضة التي أعادت للاقتصاد الوطني مكانَتَهُ في إفريقيا ضمن أقوى الاقتصاديات الثلاث قارياً، وَفَتَحَت المجال واسعاً أمام فرص التعاون والشراكة المربحة لكافة الأطراف فيها.
على ضوء هذه الإنجازات، تعمل الجزائر على تعزيز علاقاتِها مع جميع الدول الشقيقة والصديقة والشريكة في فضاءاتِ انتمائِها وخارج فضاءاتِ الانتماء هذه. كما يَرْنُو بلدي لمواصلة العمل بشكل وثيق مع كافة الدول الأعضاء في منظمتنا الأممية التي تُقاسِمُنا نفس الالتزام وتُشاطرنا ذات الحرص على إعلاء المبادئ والقيم المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة.
فبالرغم من أن الوضع الذي يمر به عالمُنا اليوم لَهُ من الصعوبة والخطورة ما يُثَبِّطُ أقوى الإرادات وَيُثْنِي أَعْتَى العَزائِمِ وأَشَدَّها، إلا أَنَّ ثِقَتَنَا كبيرةٌ من أَنَّ الأمَلَ يبقى قائماً ومن أَنَّ الطموح يظلُّ مُتاحاً. فمن صُلب الأزمات تُولد الفرصْ، ومن رَحِمِ المعاناة تُشْحَذُ الهِمَمْ، ومن قلب الشدائد يُشْرِقُ الأملْ في غدٍ نرجو من أعماقِ قلوبِنا أن يكون أفضل للأجيال الحالية وللأجيال الآتية.
وشكراً سيادة الرئيس.