302
0
خُرافة التسوية: كيف يعمل اليمين الصهيوني على تصفية كلِّ الحلول؟!

المستشار د. أحمد يوسف
بين رفض حلّ الدولة الواحدة وتقويض حلّ الدولتين، تتكشف ملامح المشروع الصهيوني الذي يقوده اليمين المتطرف والتيارات الدينية داخل إسرائيل.
فمنذ عقود، لم يكن السلام يومًا هدفًا استراتيجيًا لهذا التيار، بل كان أداةً مرحلية لإدارة الصراع لا حله.. ومع مرور الزمن، تبددت حتى هذه الأداة.
الدولة الواحدة: خطر ديمغرافي وكابوس أيديولوجي
يرفض اليمين الإسرائيلي فكرة الدولة الواحدة (فيدرالية الأرض المقدسة)، التي يتساوى فيها الفلسطينيون واليهود، ليس فقط بسبب الخوف من أن تتحول الأغلبية الديمغرافية لصالح الفلسطينيين، بل لأن هذا النموذج ينسف جوهر المشروع الصهيوني الذي ينادي بدولة "يهودية نقية"، تُدار وفق معتقدات دينية وقومية تعتبر أن هذه الأرض "حق إلهي" حصري لليهود!!
وقد كنت من أوائل من طرحوا فكرة الدولة الواحدة (ثنائية القومية) في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بعد زيارة قمت بها إلى سويسرا، تنقلت فيها بين أهم مدنها الكبرى جنيف وزيورخ ولوقانو؛ حيث أُعجبت بتجربة التعايش بين مكوّنات المجتمع السويسري من عرقيات وأديان وثقافات ولغات مختلفة، إذ رأيت في هذه التجربة نموذجًا يمكن استلهامه لبناء دولة ديمقراطية في فلسطين التاريخية، تقوم على المساواة والعدالة، لا على الإقصاء أو الامتيازات القومية.
تقويض أوسلو وتصفية فكرة الدولتين
منذ توقيع اتفاق أوسلو في أغسطس 1993، عملت الحكومات الإسرائيلية، خصوصًا تحت سيطرة اليمين، على تفريغه من مضمونه، عبر تكثيف الاستيطان وتهشيم الجغرافيا الفلسطينية. وبدلًا من المضي قدمًا نحو حلّ الدولتين، نرى اليوم محاولة منظمة لإفشال هذا الحلّ عبر تقويض السلطة الفلسطينية، وإدامة الانقسام الداخلي، وفرض وقائع لا رجعة فيها على الأرض.
إنَّ المشروع الصهيوني الجديد لا يرى في الفلسطيني شريكًا في الأرض، بل عقبة ديموغرافية يجب تجاوزها. وفي هذا السياق للأسف، تُستخدم لغة "الإدارة الذاتية" و"الكانتونا ت" كبديل للتسوية، التي تُغلف بحلول إنسانية؛ ظاهرها الرحمة وباطنها نزع السيادة وشطب الهوية الوطنية.
مشاريع الترحيل: الأردن وسيناء بديلًا لفلسطين
وفي ظل رفض اليمين المتطرف والصهيونية الدينية لأي وجود فلسطيني حقيقي داخل حدود ما يسمونه "أرض إسرائيل"، يُروّج رموز اليمين لفكرة "ترانسفير" (الترحيل القسري) للفلسطينيين. وتتكرر الدعوات إلى جعل الأردن هو الدولة الفلسطينية المستقبلية، أو دفع سكان غزة إلى سيناء ضمن مشاريع مشبوهة تتجاهل أبسط مبادئ القانون الدولي والكرامة الإنسانية. إنَّ هذه المشاريع الصهيونية التي تهدف إلى تغييب وجودنا عن أرضنا التاريخية وتراثنا الديني المقدس، تُعيدنا إلى سياسات التطهير العرقي، التي عرفها العالم في مراحل مظلمة من تاريخه.
الأقصى: صاعق التفجير الدائم
في قلب هذا الصراع المستمر، يبقى المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، محورًا لا يمكن تجاوزه.
فالمسجد الذي ترتبط بالنسبة إليه دينياً أفئدة مليار ونصف المليار من المسلمين حول العالم، ليس شأناً فلسطينياً محلياً فحسب، بل قضية إسلامية شاملة.
لذا، فإنَّ محاولات إسرائيل التفرد بالسيادة عليه، ستفجّر الأوضاع مرارًا؛ لأن الأمة الإسلامية لن تقبل بتغيير طابعه الإسلامي أو السيطرة اليهودية عليه.
إنَّ أي خطة تسوية تتجاهل الأقصى أو تحاول إخضاعه لتفاهمات أمنية أو سيادة إسرائيلية صامتة، محكوم عليها بالفشل، لأنها تمس أحد أعمق الرموز الدينية لدى العرب والمسلمين.
الصراع أعمق من السياسة: تداخل الدين والتاريخ والجغرافيا
إنَّ القول بأن حلَّ الدولتين يمكن أن ينهي الصراع هو تبسيط مُخلٍّ؛ فالصراع ليس حدوديًا فقط، بل هو صراع على سردية وتاريخ وهوية، تتشابك فيه الجغرافيا مع الدين والمقدسات. وبالتالي، فإن أي حلٍّ لا يُنهي هذه القضايا الجوهرية، سيبقي جذور التوتر قائمة، وقد ينتج "هدنة طويلة" لا سلامًا دائمًا.
القواسم الإبراهيمية: فرصة مهملة للتعايش
ورغم قتامة المشهد، فإن الأمل الحقيقي يكمن في الذاكرة المشتركة والقيم الإبراهيمية الجامعة. المسلمون واليهود والمسيحيون هم جميعًا أبناء هذا المشرق، وأحفاد لسيدنا إبراهيم عليه السلام.
هذه الحقيقة يمكن أن تكون أرضية صلبة لتأسيس تعايش جديد يقوم على العدالة والكرامة لا على الاحتلال والهيمنة.
لكن ذلك يتطلب فك الارتباط بين الدين والسيطرة، والقبول بحق الآخر في الشراكة والكرامة.
الاستعلاء الديني القومي الذي تتبناه الصهيونية الدينية يقف عائقًا أمام هذا الأفق، ويعيد إنتاج العنف والعداء.
الصهيونية ليست اليهودية: معارضة من الداخل
الفكر الصهيوني، بطبيعته الاستعلائية والإقصائية، لا يمثل بالضرورة عموم اليهود؛ فهناك جماعات يهودية مثل ناطوري كارتا؛ أي (حُرّاس المدينة)، تعارض قيام دولة إسرائيل من منطلق ديني، وتعتبر العودة إلى فلسطين قبل مجيء "المخلص" مخالفة صريحة للوعد الإلهي. إنَّ هؤلاء اليهود يرون أن الصهيونية تحرّف الدين لخدمة المشروع القومي الاستيطاني، وأنها أساءت إلى اليهود كما أساءت إلى الفلسطينيين.
ختامًا: السلام لا يُبنى على التفوق
بين وهم "السلام من خلال القوة"، وحقيقة أن السلام لا يتحقق إلا عبر العدالة، تزداد القناعة بأن الاحتلال لا يمكن أن يكون قاعدة لاستقرار دائم، ولا أن تصنع الدولة اليهودية أمنها على أنقاض شعب آخر. إن فكرة العيش المشترك تظل ممكنة فقط عندما يُزال الظلم، ويُعترف بحقوق الآخر، وتُبنى الدولة على المساواة لا الامتيازات.
وعليه؛ فإن لم يحدث ذلك، فإنَّ كلَّ مشاريع التسوية ستبقى خرافة، وستُستأنف الحروب كلما حاولوا إعلان نهايتها.
وقديماً قالوا: من لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم، ويبقى السيفُ لأهله سياجها المعظم.