728
0
حكاية الغراب الحقود مع الديك الصياح
بقلم: محمد شريم
المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام
ذات ليلة قرر غراب أن ينافس الديكة في عذوبة الصوت وحسنه، فقال في نفسه: ما دمت سأتفوق على الديكة في عذوبة الصوت، فليكن انتصاري عليها بينا مشهودا، ولهذا فإنني لن أنافس الديكة عند الفجر، بل سأنافس ديكا صيّاحا في وضح النهار، حتى يعرف الناس أنني نافستُ الديك بصوتي المطرب الرّنان وغنائي الجميل، وتفوقت عليه، فيكفوا عن ضرب المثل بحسن صوت الديكة.
وقبل أن يصيح الديك الذي يقتنيه أحد الفلاحين في حقله بلحظات، في وقت من النهار اعتاد ذلك الديك الصياح فيه، حط الغراب على شجرة باسقة في حقل ذلك الفلاح، بطرف القرية، وبدأ النعيق، وفي تلك الأثناء صعد الديك سطح خُمّه، وبدأ الصياح.
فنظر الغراب من أعلى الشجرة نحو الديك وقال: ماذا تفعل أيها الديك؟ فرد عليه الديك: أصيح كعادتي في هذا الوقت! فقال الغراب: بل بدأت الصياح بعدي بقصد التشويش حتى لا يسمع الناس غنائي الجميل حسدا منك وبغضا، ولكن عليك أن تعلم أنك مهما صعدت خمّك الحقير هذا فلن ترتفع إلى مقامي العالي يا ذا الجناح الضعيف!
فتجاهل الديك قول الغراب، وفضل أن يستمر في صياحه على أن يمضي وقته في المجادلة، فعاود الصياح، فقال له الغراب: أتتجاهل كلامي يا صاحب الصوت الأجشّ؟ وهنا وجد الديك نفسه مضطرا للرد على الغراب، فقال: أتقارن صوتك بصوتي يا صاحب الصوت المنفر؟!
فصاح الغراب: أتعيرني بصوتي أيها الديك المغرور؟! أين مكانتك من مكانتي؟! أنا الغراب بن الغراب! أحط على قمم الجبال، وأسكن الأشجار، وأحلق في السماء! ليس هذا فقط، بل وآكل اللحم أيضا يا نقار الشعير!
فقرر الديك أن يرد على الغراب رده القاسي، فقال: رويدك رويدك يا وجه الشؤم! أين أنت مني؟ يكفي أن الناس يضربون المثل بحسن صوتي وقبح صوتك، وجمال ريشي وسواد ريشك، وطيب فألي وسوء شؤمك!
ولم يكد الديك يتم حديثه حتى شاهد الغراب ثعلبا يمر من بعيد، فقال الغراب في نفسه: لقد جئت بوقتك أيها الثعلب! ثم نظر إلى الديك وقال في نفسه بحقد عظيم: والله لأجعلنك غداء للثعلب حتى أتخلص منك أيها الديك المغرور!
وبعد أن فكر للحظة قال الغراب للديك وقد تظاهر بالحزن: أهكذا تعيّرني بحالي يا أبا اليقظان؟! لقد كنت أمازحك لا غير، ما كنت أظنك ستغضب إلى هذه الدرجة! ثم تظاهر بأنه يجهش بالبكاء.
فانطلت الحيلة على الديك، فرق قلبه لحال الغراب، وقال: لا تبك أيها الغراب، ظننتك جادا فيما قلت، وأنا أعتذر لك!
فقال الغراب: هأنذا أصمت الآن، فواصل صياحك الجميل لأستمع إليه أيها الديك الصيّاح، على أن يكون صوتك عاليا لتسمعه كل القرية يا صديقي!
فصاح الديك بأعلى صوته، فسمعه الثعلب، فتوجه نحو صياحه، وعندما شاهد الغراب الثعلب متوجها نحو مكان صياح الديك، سر كثيرا، ولكنه خشي من أن يشاهد الديك الثعلب وهو مقبل نحوه فيأخذ حذره، ويهرب نحو بيت الفلاح طالبا الحماية، فقرر أن يشاغل الديك حتى يغافله الثعلب بقفزته، فقال الغراب: وا أسفاه! لا أسمعك جيدا من مكاني العالي هذا يا صديقي الديك، وليس من أصول الصداقة أن يتعالى الصديق على صديقه في المجلس.. هل تأذن لي بالهبوط ليطربني صوتك الجميل عن قرب؟ فقال الديك: أيها الغراب، أنت طير آكل للحم، وأخشى أن تهاجمني!
فرد الغراب: أتظنني على هذه الدرجة من الغدر بالأصدقاء يا أبا اليقظان؟! وحتى لو كنت غدارا، هل يتأتى لي أن أهاجمك وأنت تكبرني جسما وفي أشد قوتك؟! وكيف لي أن أهاجمك ودجاجاتك يتجولن في الحقل بمكان منك ليس بالبعيد؟ وهل نسيت صاحبك الفلاح الذي سيسمع صوتنا إذا تعاركنا فيهب لإنقاذك ويهوي علي بفأسه؟
فصمت الديك متفكرا مع شيء من الحرج للحظة، ثم قال للغراب: فلتهبط أيها الغراب، ولكن فلتكن على مسافة مني! فقال الغراب: ولكن، لا يتسع سطح الخمّ لنتباعد فوقه! فقال الديك: نهبط إلى أرض الحقل فنتباعد. فقال الغراب: كما ترى يا أبا اليقظان.. فهبط الغراب أولا وأدار وجهه باتجاه الجهة التي سيأتي منها الثعلب، حتى يدير الديك وجهه وهو ينظر إليه نحو الجهة المخالفة لتلك الجهة، فلا يرى الثعلب عند قدومه، ثم تبع الديك الغراب في الهبوط، ووقف مقابلا له على مسافة لا تزيد عن باع واحد وذراع، وشرع بالصياح، والغراب يشجعه، حتى أطل الثعلب من طرف الحقل، فقال الغراب في نفسه: ها قد حانت منيتك أيها الديك المغرور، وما هي إلا لحظات حتى أمتع ناظري برؤيتك وأنت تتلوى في فم الثعلب، وبعدئذ لن يبقى في هذه القرية من سيُحسن الغناء غيري..
واستمر الثعلب في تقدمه نحو الديك بحذر وترقب دون جلبة، والغراب ينظر إلى تقدمه بارتياح وهو يستعجل اللحظة التي سيرى فيها الثعلب وهو يفترس الديك بشهية عظيمة، لعلمه أن الديكة من وجبات الثعالب المفضلة.
وما هي إلا لحظات، حتى أسرع الثعلب ثم قفز للإمساك بفريسته، وكم كانت مفاجأة الغراب عظيمة ومؤلمة حينما وجد نفسه بلمح البصر بين مخالب ذلك الثعلب وأنيابه، فصاح الغراب بصوت ضعيف لا يكاد يسمع: أنا الغراب.. أنا الغراب يا أبا الهجرس! ها هو الديك غداؤك المفضل! فقال الثعلب: عرفتك يا رديء الصوت، ولكنني فضلت أن تكون أنت غدائي قبل أن تطير، أما الديك فلن يغادر الحقل، وسأتركه للوجبة المقبلة!
وعندما سمع الشاعر الحكيم بقصة الغراب والديك قال:
مَنْ نَافَسَ الخَصْمَ فيما ليسَ يُتقنهُ
قضى على نفسِـهِ بالـذلِّ والفَشَــلِ
فإن تمـادى بحقـد كي يكيــد لــــه
فقـــدْ تؤدي طريـق الكيـــد للزّلل!