414

0

حكاية الفتى البهلوان والشاهبندر

بقلم: محمد شريم.

المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.

عاش فتى فقير الحال في مدينة كبيرة، ولم يفلح هذا الفنى بأية حرفة أو مهنة يكسب بها رزقه، وكان كلما عمل لدى أحد الصناع أو الحرفيين سرعان ما يستغنى مشغله عنه لقلة حيلته وضعف تدبيره. ولما استيأس الفتى من تحسين حاله أظلمت الدنيا في عينيه، وتوقف عقله عن التفكير، فقرر إلقاء نفسه من سطح مبنى متوسط الارتفاع بمحاذاة ساحة المدينة. 

و حينما ألقى الفتى بنفسه من ذلك الارتفاع، وإذا بعربة محملة بأكياس معناة بالصوف يجرها حصان تمر بالصدقة من المكان، فسقط الفتى على الأكياس دون أن يتأذى، وقبل أن يتمكن الحوذي من إيقاف الحصان والعربة ليرى ماذا جرى عدل الفتى وضعه وجلس على أحد الأكياس، وعندما شاهد الحوذي الفتى جالسا على الكيس، حمد الله على أن الفتى على هذه الحال، ثم سأله: هل أصابك ضرر يا بني؟ فقال الفتى: لا يا سيدي فسأله الحوذي باستغراب: فما الذي ألقي بك من الأعلى على عربتي؟ فرد الفتى: أنا ألقيت نفسي؟ فسأله الرجل بازدراء لا يخلو من التأنيب: فلم ألقيت بنفسك إلى التهلكة من سطح المبني ؟ أم تظن أنك بهلوان بأني بالأعاجيب فعزت على الفتى نفسه بأن يقول الحقيقة. 

ووجد فيما قاله الحوذي منفذا للتخلص من موقفه المحرج، فقال نعم يا سيدي، ألقيت نفسي عامدا، للفت نظر المازة فأنا أعمل في الألعاب البهلوانية، ولكن كيف عرفت أنني بهلوان أيها الحوذي ؟! فأسقط في يد الحوذي، بعد أن تحدث الفتى بشيء من التغة، وقال متصنعا المعرفة: أنا لم أعرفك أول الأمر.. وقلت ما قلت مازحا.. ولكنني عرفتك الآن... صحيح أنني لم أحضر عروضك، ولكنني سمعت عنك، فإنه لا يوجد في المدينة بهلوان سواك؟

ولم يكد الحوذي يتم حديثه حتى أحاط بالعربة الكثير من المازة بعد أن لمحوا الفتى وهو يسقط فوقها، فما كان من الفتى إلا أن كزر على مسامع الناس ما قاله للحوذي، وقد شهد الحوذي بما سمعه من الفتى، مبديا إعجابه بمهارته في القفز.

 فتناقل الناس في المدينة خير الفتى، وصاروا يتبادلون الأحاديث عن بهلوان المدينة وقدراته العظيمة، فبدأ بعضهم بالبحث عنه، ليعرض أمام المدعوين في مناسباتهم واحتفالاتهم بعض ما يعتقدون بوجودها لديه من قدرات بهلوانية. ولكنه كان يعتذر عن تلبية الدعوات - لأنه لا يستطيع تقديم ما يطلبون - بحجة الانشغال.

وبعد أن رفض الفتي عددا من الدعوات قال لنفسه: ما دامت الشهرة في هذه المهنة قد أتتني من حيث لا أدري، لم لا أكون بهلوانا بالفعل ؟ ما علي إلا الذهاب إلى المدينة المجاورة، وأرافق بهلوانا فيها سبق وأن سمعت عنه، ولو مجانا الا تعلم منه مهنته، فأعود إلى مدينتي هذه، وأكسب بهذه المهنة النادرة مالا وفيرا. وغاب الفتى عن مدينته قاصدا المدينة المجاورة، ورافق دون مقابل بهلوانا كان يؤدي عروضه في تلك المدينة على أن يوفر له البهلوان الطعام والمأوى والملبس، واتفقا على أن ينظر البهلوان في شأن بقائه بعد انقضاء عام كامل من مرافقته له، فإما أن يشغله معه مقابل أجر أو أن يستغني عن خدماته.

ولما انقضى العام تبين للبهلوان فشل الفتى في أن يحقق المستوى المطلوب لمرافقته بأداء حركاته وأنشطته البهلوانية، فاستغنى عنه، فعاد الفتى إلى مدينته خائبا حزينا. وعندما وصل مدينته قال الفتى لنفسه: لماذا لا أستفيد من الحركات البهلوانية الخفيفة التي أنفقتها بمرافقة بهلوان المدينة المجاورة، فأكسب بأدائها أمام الناس بعض الدراهم التي أسد بها حاجاتي؟ وفي اليوم التالي لعودته نزل الفتى إلى ساحة المدينة لتنفيذ فكرته، وبدأ عمله.

ولما رآه الناس أعجبوا بالحركات التي يؤديها على بساطتها، لأن القليل من سكان المدينة هم من سبق لهم أن شاهدوا بهلوانا من قبل فتناقل الناس خبر عودة الفتى البهلوان بعد أن رافق البهلوان الشهير في المدينة المجاورة لمدة عام كامل، وبدؤوا بدعوته إلى مناسباتهم من جديد قلبي دعواتهم، وتلقى الكثير من المديح حتى لامست نفسه

علبة الغرور. قسمع بالفتى البهلوان هذا شاهبندر تجار المدينة، وكان الرجل رجل أسفار وقد شاهد في رحلاته عددا من البهلوانات، وكم كان يتمنى أن يكون في مدينته بهلوان ليسري من نفسه بمشاهدة عروضه بين الفينة والأخرى.

فسر الشاهيندر بوجود هذا البهلوان الفتى، فأمر باستدعائه فحضر فطلب منه الشاهبندر أن يؤدي عروضه المسلية في سرادق عظيم سيقام بمناسبة حفل زواج ولده، واعده إياه بأجرة مجزية، فسعد الفتى بهذا العرض. وفي يوم الاحتفال، أدخل البهلوان السرادق، وكان خيمة عظيمة أعد فيها مدرج خشبي دائري مرتفع عن أرض السرادق ليجلس عليه الحضور يحيط بساحة دائرية مغطاة بالسجاد الأحمر الفاخر أعدت للأنشطة المرافقة للاحتفال من خطابات الترحيب والمباركة إلى الغناء والرقص وعروض الترفيه.

 وعندما وقف الفتى البهلوان بوسط الساحة، ألقى التحية على الحضور، وبدأ بأداء حركاته البهلوانية الخفيفة التي تعلمها في المدينة المجاورة، فأعجب بها الحضور، وصفقوا له تصفيقا حارا، مما زاد من تقديره لنفسه، وبعد أن أتم عرض حركاته المعتادة، بدأ بعض الحضور يطالبونه بأداء بعض الحركات البهلوانية التي سبق وأن شاهدوها في أسفارهم أو سمعوا بها، فعز على الفتى أن يوضح لهم أنه لا يتقن سوى الحركات التي أداها أمامهم، ولم يسمح له غروره بأن يصرح لهم أنه لا يجيد سواها، خوفا على سمعته، فصار يجاري الحضور فيما يطلبون، لعله يتمكن من تلبية مطالبهم، ولو بأداء رديء، فمضى من فشل إلى فشل، وكلما فشل في أداء حركة أو أخفق في النجاح بلعبة وافق على أداء حركة أكثر صعوبة وعلى القيام بلعبة يكون القيام بها أشد تعذرا من اللعبة التي سبقتها، لعله يفلح بها - ولو من باب حسن الطالع - ليمحو أثر فشه في سابقتها، ولكن فضله كان يزداد شيئا فشيئا، وإعجاب الحضور به بدأ يميل نحو الانحدار

فشعر الشاهبندر بالحرج على اختيار هذا البهلوان الفني الضعيف، رغم ما يمتلك هو من المال الذي يمكنه من احضار بهلوان محترف من مدينة أخرى، ولكنه حمد الله على أنه لم يكن قد اكتفى بما سيؤديه الفتى البهلوان من الحركات في برنامجه الخاص بعروض الاحتفال الترفيهية، بل سبق وأن اتفق مع مروض للأسود على الحضور لأداء بعض الحركات مع أسده في ساحة الخيمة، وإلا فإن سوء اختياره لهذا البهلوان كان سيفسد عليه بهجة هذا الاحتفال

المكلف بهذه المناسبة البهيجة.

وكم كانت مفاجأة الشاهبندر غير سارة عندما علم أن مروض الأسود لن يتمكن من الحضور لأنه يعاني من إصابة بساقه بسبب سقوطه عن جواده، وذلك قبل ساعات من موعد الحفل، وأن بإمكان الشاهبندر أن يسمح للحضور بمشاهدة الأسد في القفص الذي أعد له بمحاذاة الساحة تحت مدرج الحضور، حيث أودع منذ صباح ذلك اليوم، ولكن الشاهبندر لم يقتنع بهذا، فقد وعد الحضور بمشاهدة عرض بهلواني مع الأسد، وليس مشاهدة الأسد وهو في قفصه. فاستدعى الشاهبندر الفنى البهلوان، وعرض عليه أن يلاعب الأسد أن كان يستطيع ذلك، فما كان من الفني البهلوان.

لشدة غروره، وتحت تأثير ما تتابع من محاولاته الفاشلة، إلا أن وافق على هذا مصرحا أن ذلك ضمن حركاته التي يتقنها، فقد أخذ الغني في اعتباره أن هذا الأسد مستأنس ومتعود على مواجهة الناس وملاعبة مروضه.

وعندما فتح باب القفص من الأعلى من وراء حاجز من القضبان المتشابكة نصب على حافة المدرج بين الساحة والحضور خرج الأسد من قفصه واقترب من البهلوان، وبما أنه لم تكن له خبرة في ملاعبة الأسود فقد اختار هذا الفتي في الأمن فخطر بباله ما قاله جده ذات يوم: إذا واجه المرة أسدا فعليه أن ينظر في عيني الأسد دون انقطاع وأن يتطاول عليه بحجمه، ليشعر الأسد بالتحدي، فتلك هي الفرصة الوحيدة التي قد تتسبب للمرء بالنجاة.

وبالفعل، فقد نظر الفتى يعيني الأسد، فتوقف الأسد على مسافة منه، فبدأ الفتى البهلوان يتفكر بالحركة التالية. فإلى متى سيطيل النظر بعيني الأسد ويقف رافعا سترته من ذيلها إلى أعلى رأسه ١٢ فلم يدر كيف يتصرف، فبدأ الحضور بادئ الأمر بالتصفيق، ثم بدؤوا بحثه على ملاعبة الأسد، فشعر الفتى أنه في موقف لا يحمد عليه، فهو يقف بعجزه وحيدا تحت أعين الناس أمام أسد تحت رحمة وحش كاسر، فبدأت نفسه تضعف وحركاته تضطرب، وقلبه یزداد خفقانا، فما كان منه إلا أن ومضت بباله فكرة رأى فيها خلاصه غير عاين بالعيون التي ترقبه، فتحرك جانبا بخفة وحذر ووجهه نحو الأسد، وعيناه في عينيه، حتى صار بموازاة باب القفص، فتراجع شيئا فشيئا إلى الوراء، وهو يحدق في الأسد دون انقطاع حتى اقترب من باب القفص، فتقدم خطوة نحو الأمام، ثم تراجع خطوتين إلى الوراء. 

والحضور يتساءلون عما ينوي البهلوان فعله، والتشوق لما سيكون بلغ مداه، وما أن اقترب البهلوان من الباب حتى ولج الفقص مسرعا وهو يغلق الباب وراءه بسرعة البرق فاندفع الأسد من فوره باتجاه باب القفص وسط تعالى الضحكات من الحضور، ولم يخرج البهلوان من باب القفص حتى أحضر مروض الأسود على محلة برجله المكسورة ليبعد الأسد عن باب القفص، وما أن فتح باب ذلك القفص حتى انفلت البهلوان فارا من القفص باتجاه باب الخيمة بسرعة عظيمة.

وبعد تلك الساعة لم يعثر في المدينة لذلك البهلوان على أثرا ولما علم شاعر المدينة وحكيمها بحكاية الف البهلوان والشهبندر قال:

لا تأت فعلا غريبا لست تتقنه سعيا إلى المال أو من دافع الخجل فإن هممت بفعل دون معرفة ئول جهودك رغم الحرص للفشل.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services