بقلم الأستاذ محمد بوكريطة الحسني
لقد عاش الشعب الجزائري مأسي كثيرة منذ أن سقط الوطن في أيادي الإستدمار الفرنسي الغشم في عام1830 فقد تم مُصادرة الأراضي و إبادة قبائلٍ عن بِكرة أبيها (قبيلة العَوْفِية، أولاد رياح، الزعاطشة )، و طمْست الثقافة والهوية، وهجرت مئات العائلات إلى باقي بلاد المغرب والمشرق وأقبح وأمر من ذلك الترحيل والمنفى الى جزيرة " كالدونيا الجديدة" في المحيط الهادي .
ويذكر التاريخ أن معظم المرحلين هم من شاركوا في ثورة المقراني عام 1871 ، وهي ثورة انطلقت من سوق أهراس (شرق الجزائر) بقيادة محمد قبلوني ثم انتشرت الانتفاضة في أنحاء الجزائر حتى وصلت ناحية برج بوعريريج و منطقة القبائل ، بعد ثورة الأمير عبد القادر التي استمرت 17 عامًا ، كانت ثورة المقراني أكبر انتفاضة ضد الإدارة الاستعمارية الفرنسية منذ غزو الجزائر عام1830 ، دون أن ننسى ثورات الشيخ الحداد و الشيخ بومزراق.
ومن الأسباب المباشرة والحجج الدامغة لإشعال الثورات المتتالية ضد الاستكبار الفرنسي ومن أهمها بالإضافة إلى مصادرة الأراضي السّهلية الخصبة وتسليمها إلى طلائع المستوطنين الأوروبيين، وتصاعد وتيرة حملات التبشير المسيحية في مناطق شديدة التعلّق بالإسلام الشعبي الصوفي، وإصدار "مرسوم كريميو" الذي منح الجنسية وحقوق المواطنة الفرنسية لحوالي 35 ألفاً من اليهود الجزائريين وتمييزهم عن باقي "الأهالي" المسلمين بمضاعفة الإجراءات التعسّفية بحقهم التي كرّست التهميش والاحتقار والتفقير بشتى أنواعه.
ويجمع كل المؤرخين أن الإدارة الاستعمارية قابلت مقاومة المقراني بعنفٍ شديد شمل مصادرة الأراضي والانتقام الجماعي والتهجير من أجل ردع باقي القبائل والزوايا، بجعلها تدفع ثمناً باهظاً مقابل مجرّد التفكير في أية محاولة للمقاومة، فقد حُوكم قادتها في محكمة مدينة قسنطينة (شرق البلاد) وصدر حكم بالسجن على زعيمها الروحي، الطاعن في السن، الشيخ الحداد، الذي توفى بعدها بسنتين، ثم بالإعدام ابتداءً ببومزراق ثم قرّرت السلطات الاستعمارية نفيه مع مجموعة من أتباعه إلى كاليدونيا الجديدة لتبدأ المأساة......
ففي سنة 1995 بادر الباحث الجزائري المرحوم الصدّيق تاوتي الذي كان لي حوار معه في سنة 1997 في مقر سكنه ببئر مراد رايس حول هذه القضية، فقام هذا الرجل الفاضل بنفض الغبار عن قضية أولئك الجزائريين الذين تمّ إبعادهم إلى كاليدونيا الجديدة، ثم قام بإصدار كتاب تحت عنوان "المبعدون إلى كاليدونيا الجديدة مأساة هوية " فقد كان كتاب رائع وشيق أبدى فيه المرحوم المأساة بكل جوانبها ومليئا بوثائق دامغة ودارسات من شتى مؤرخي أوربا والعالم بأسره.
وكذلك تتطرق الأستاذ الصديق بصفة احترافية و موضوعية الى التركة المأسوية لهذه القضية التي مست الأحفاد المنفيين في جيلهم الرابع و قدم طرح مميز لمعاناتهم وتطرق الكاتب للظروف الصعبة لترحيل الجزائريين التي تمّت في أربع رحلات بحرية، وظروف حياتهم في سنوات النفي الأولى في مناطق نيساديو ونوميا وبوراي التي تميّزت بالأعمال الشاقة والتعذيب، ثم علاقة المنفيين بثورة الكاناك (السكان الأصليين لكاليدونيا الجديدة) ضد الهيمنة الأوروبية البيضاء سنة 1878 ، وكذا بقادة ثورة "كومونة باريس" الذين تم نفيهم أيضاً إلى الجزيرة....
ومما يؤسف له ومع مرور الزمن، وبسبب الظروف القاهرة التي كابدوها، فقد أحفاد المنفيين الكثير من عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم، بل واعتقاداتهم وطقوسهم الدينية، ولم تعد تتجسّد هويتهم الجزائرية سوى في بعض أسمائهم العربية التي زاحمتها، قسراً، وبعض الكلمات العربية المأخوذة من تراث أجدادهم.
وغني عن البيان ومن خلال هذه الأعمال العقابية الوحشية واللاإنسانية تجاه هؤلاء المبعدين الجزائريين من طرف الإستدمار الفرنسي، أرادت القوة الاستعمارية الفرنسية اجتثاث وتدمير الهوية الإسلامية للمبعدين الجزائريين من خلال رفض إعادتهم إلى وطنهم الجزائر بمجرد إطلاق سراحهم من معسكرات العمل، أو عندما انتهوا من عقوبتهم، بإضافة الملح إلى الجرح ، تم نشر المرحلين الجزائريين للعمل في مناجم الكوبالت والقصدير ، وشق الطرق ، والبستنة.