610

1

غذاء الروح في رمضان...مَن يحمينا من شياطين الإنس؟!

بقلم الأستاذ سيد علي دعاس 

 قَدْ يَتَسَاءَلُ أَحَدُكُمْ – إِخْوَتِي-: "مَا مَعْنَى تَصْفِيد الشَّيَاطِين في رمضان" وَنحن نرى بعض النَّاسِ يَقَعُونَ فِي الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي في نهار رمضان؟!

أَلَيْسَ شَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ وَطَاعَةُ الرَّحْمَان؟

أَلَم يقل رسول الله ﷺ: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَت[1] الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ[2]، وَغُلِّقَت أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ؛ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِن النَّارِ؛ وَذَلكَ كُلّ لَيْلَةٍ".[3]

فَلِمَاذَا يَتِمُّ صَرْفُ النَّاسِ عَن الخَيْرِ والطّاعات إلى ما يُلْهِيهِمْ وَيُصْرِفُهُمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَات؟

والجَوَابُ نقرأه فِي سُورَةِ النّاس؛ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ".[4]

لَاحِظوا كَلِمَة "جِنَّة" فهي مِنَ "الجِنّ"؛ لَكِن فيمَا بَعْدَهَا قَالَ الله – تعالى-: "وَالنَّاسِ"؛ أي أنّ الوَسْوَاس لا يكون فقط مِنَ الجِنِّ بل من النَّاسِ أيضًا.

كما قال الله -جل وعلا-: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ".[5] فهم شياطين من الإنس والجن، بَلْ قدَّم الله في الآية ذكرَ شياطين الإنس لعظم شرّهم وخطرهم على بني آدم...

ولابدّ من التأكيد على أنّ عداوَةَ الشيطان التي بيَّنها القرآن الكريم لنا تتركَّز على شياطين الإنس أكثر من شياطين الجن، وهذا ما أكَّده رسول الله لأبي ذر الغفاري – رضي الله عنه-: "يا أبا ذَر، تعوَّذ من شياطين الإنس والجن"، فقال: وللإنس شياطين؟! قال: "نعم، شرٌّ من شياطين الجن".[6]

إذن، هُنَاكَ وَسْوَاسٌ آخَر غير إبليس... لأنّ الشيطان إمّا أن يكون من عالم الإنس أو عالم الجن. وقد قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى-: "والوسواس الخنّاس يتناول وسوسة الجِنَّة ووسوسة النّاس، وإلا أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجِنَّة فقط، مع أنّ وسوسة نفسه وشياطين الإنس هي ما تضرّه، وقد تكون أضرّ عليه من وسوسة الجن".[7]

فنحن مبتلون بالشيطان ونوابه من شياطين الإنس، ونحن على خطر في هذه الدار، والمحفوظ من حفظه الله – تعالى-.

أيها القرّاء الأفاضل...

اعلموا أنَّ شَيْطَنَةَ شياطينِ الإنسِ أَشَدُّ مِنْ شَيْطَنَةِ إِبْلِيسَ، لأنّ الله – تعالى- قال مخبرا عن عدو الله إبليس، وما قاله لربّ العزّة والجلال: "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ".[8] وَقَالَ أيضا: "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ[9] ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا".[10] فَهُوَ لَا يستطيع التَّسَلُّطَ عَلَى الجَمِيع، بَيْنَمَا شَيْطَانُ الإِنْسِ يُرِيدُ إِغْوَاءَ الجَمِيعِ وَإِضْلَالَهِمْ...

فمَا أَحْرَى المُؤْمِنَ أَنْ يُكْثِرَ الاِسْتِعَاذَةَ بِاللهِ مِنْ إبليس وجنوده من شياطين الإِنْسِ المتربّصين بِعِبَادِ اللهِ؛ لقوله – تعالى-: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ".[11]

ولابدّ أن نحذر من كيد إبليس وأوليائه من الإنس، حيث قال الله – تعالى- حكاية عن إبليس اللّعين: "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ".[12]

وهنا علينا أن نتوقّف متسائلين مع هذه الآية: كيف علم عدوّ الله إبليسُ أنّ أكثر النّاس لن يكونوا شاكِرين؟! حيث قال: "وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ"، لأنّ هذا ما وقع فعلاً، وهو ما توقعه إبليس من جهوده الإغوائية لبني آدم، وكان القليل فقط هم من ثبتوا على منزلة الشكر لله – تعالى- الذي قال: "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[13] وقال: "وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ".[14]

إنّ من أكبر مداخل الشّيطان أن يجعلك ساخطا دائما لا ترضى على شيء، لذلك نجده دائما يزيّن للبعض هذا الشعور السّلبي الدائم بالقهر والظلم والحاجة والتخبّط في الحياة، فنسمع الكثير ممّن غلبهم الشّيطان يردّدون: "أنا منحوس حظي سيء"، "لم يمر بي يوم سعيد أبدا"... فدائما يُشعره الشيطان بهذه الكآبة وهذا الحزن الدائم بأنّه تعيس ومحروم ومظلوم، ولم يأخذ حقه من الدنيا... إلخ.. وبالتالي يكون ساخطا على الله وإن لم ينطق بذلك، فلا تجري على لسانه كلمة "الحمد لله"، لأنّه دائما يرى ويعتقد أنّ غيره أفضل منه، وأنّه مهما سعى فهو منحوس ومستقبله القريب أسود ومظلم… وهكذا يصوّر له الشيطان حياته فتُخيّم عليه الكآبة والهم الذي لا يزول...! فهذا من أعظم مداخل الشيطان التي أضل بها عبادا كثيرين.

أخي الصائم... أختي الصّائمة...

لَقَدْ تَفَاقَمَ شَرُّ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِين... بل لَمْ يَكْفِنَا شَيَاطِينُ الجِنِّ حَتَّى اِزْدَادَ شَيَاطِينُ الإِنْسِ مَكْرًا وَكَيْدًا...! إلاّ أنّه ينبغي علينا أن ندرك أنّ كيد الشيطان وأعوانه من الإنس ضعيف؛ وذلك لسببين:

-    الأول: أنه لا يملك قوة يقهر بها جسدا، ولا يملك حجة يقهر بها قلبا، وهذا باعتراف إبليس فيما حكاه الله عنه: "وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ[15] وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ[16] إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".[17] فلا قوة له ليجبرك على المعصية .

-    الثاني: أنّ المتّقين الذي يخافون الله ويطيعونه بمجرّد شعورهم بوسوسة الشيطان وكيده يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم، فيُذهب الله عنهم ذلك، وهم الذين قال الله عنهم: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ".[18].

لذلك لَا يُمْكِنُنا إنكار إِقْبَال النَّاسِ عَلَى الخَيْرِ فِي رَمَضَانَ وَكَفِّ الشَّرِّ مِنْهُم فَهَا نحن نرى المَسَاجِدَ تَمْتَلِئُ بَعْدَ القَطِيعَة والهجران، وَالفُقَرَاءَ يَغْتَنُونَ بَعْدَ مَسْغَبَة، وَالقُرْآنَ يُتْلَى بَعْدَمَا هُجِر... وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَكَادُ تَرَاهُ فِي غَيْرِ رَمَضَان. فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى تَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ وَسَلْسَلَتِهِمْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ الوَسْوَسَة... لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ شَيَاطِينَ آخَرِينَ غَيْرَ مَطْلُوقِين!

نسأل الله أن نكون من أولياء الرحمن.



[1]   صفّدت الشّياطين: شُدَّتْ عليهِم الأغلالُ والسَّلاسِلُ.

[2]  مَرَدَةُ الْجِنِّ: هم رُؤساءُ الشَّياطينِ المتجرِّدون للشَّرِّ، أو هم العُتاةُ الشِّدادُ مِن الجِنِّ. والحِكمةُ في تَغْليلِهم حتَّى لا يَعمَلوا بالوَساوِسِ للصَّائِمين ويُفسِدوا عليهم صَومَهم.

[3]   رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[4]   سورة النّاس / الآيات: من 4 إلى 6.

[5]   سورة الأنعام / الآية:112.

[6]   أخرجه عن أبي ذر – رضي الله عنه- أحمد في مسنده ج (5)، ص (178)؛ والنسائي في الصغرى ج (8)، ص (275)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر شياطين الجن والإنس.

[7]   الشيخ ابن تيمية "مجموعة الرسائل الكبرى" 2/202.

[8]   سورة ص / الآيتان: 82 – 83.

[9]   لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَتَهُ: لأمتَلِكَنَّ قِيادَتَهُم كما تُمْلَكُ الدابَّة؛ من أحنك الفرس: جعل في حنكه اللّجام؛ أو لأستولينّ عليهم.

[10]   سورة الإسراء / الآية: 62.

[11]   سورة النحل/ الآيات: 98 - 100.

[12]   سورة الأعراف / الآيتان: 16، 17.

[13]   سورة سبأ / الآية: 13.

[14]   سورة المائدة / الآية: 49.

[15]   مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلّصكم مما أنتم فيه.

[16]  مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي: بنافعيّ بإنقاذي ممّا أنا فيه من العذاب والنّكال.

[17]   سورة إبراهيم / الآية: 22.

[18]   سورة الأعراف / 201.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services