252

0

فتوح الأفكار في كتب السيرة النبوية المعاصرة

التكافؤ الخلقي

 مراح محمد

إعتنى كتاب السيرة النبوية العطرة على مر العصور باستكناه أغوار عظمة وفرادة صاحبها صلى الله عليه وسلم، واستبطان أسراره، ومواهب مولاه تعالى لعبده وخاتم رسله عليهم السلام، واستنفار طاقاتهم الفكرية وألمعياتهم اللدنية ومواهب جليلهم الحنان المنان، وتذلل العباد العابدين لمولاهم، والطامعين للظفر بأسنى الجوائز قرب الحبيب في أعلى الجنان، جاهدين في أن تكون تيجان تآليفهم بعد تفاسير الكتاب .

سيرة الحبيب العدنان صلى الله عليه وسلم فيكرمهم المولى تعالى باستخراج لآلىء المعاني، وغرر الفكر وطارف وجديد النظر، ومكثير الحكم. و مشكاة الأنوار، وهاديات السبل، مما يُشرق على أقلامهم من إبداعات السبق الفرائد المعاني ، وعوالي النظر.

وإذا كانت ميزة كتب السيرة النبوية المعاصرة تيسيرها للقارئ  وتقريب أحداثها وأخبارها و دلالاتها ومعانيها وفوائدها: أسلوبا وحجما و انتقاء وتكييفا، فإن العلماء الأثبات الراسخين في علوم الإسلام و تاريخه وعقائده وتشريعاته ومقاصده وأسراره وحكمه، ومؤلفات الذين كتبوا في السيرة النبوية منهم تنطوي على نظرات وتفسيرات وتحليلات جليلة ، يكاد كل واحد منهم أن يكون منفردا بما هدي إليه من أسرارها.

ونحسب أنا انتبهنا إلى بعض ما هدى إليه فملكت علينا النفس واستغرقت الفكر فراينا أن نعرض لبعضها في ما تيسر من المقالات نخلص المقال الواحد الفكرة واحدة لإمام واحد من أئمة المسلمين المعاصرين، أو كاتب واحد منهم.

الفاتحة من سفر من أرفع وأنفس ما كتب في السيرة النبوية في العصر الحديث أخلص صاحبه نفسه ووقته وعلمه وقدراته العقلية وطاقاته العليا الإبداعية وعواطفه الإيمانية، وقدراته اللغوية والبلاغية الفريدة لإخراجه عملا في السيرة المطهرة في ذرى ما عرف تاريخ التأليف فيها، خاصة في عصرنا، جعل من معارف الشريعة وعلومها جنودا مهرة مخلصين لتشييد سفر " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج و رسالة - بحث وتحقيق" .

للشيخ الأزهري محمد الصادق إبراهيم عرجون ( 1321 هـ / 1903م - 1400 هـ / 1980م لعل من أهم ميزاته في التأليف منح مؤلفه أقصى ما يعتقد أنه استوفى لأعماله معايير الجودة التي فيما يبدو وضعها لها: فكان يخرج کتابه ليخلد ويتميز و يبهر : فهذا كتابه " خالد بن الوليد" قيمه أساطين الفكر والثقافة في مصر حين صدوره منهم عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ والأستاذ الشهيد سيد قطب الذي قدم له بمقدمة جليلة مضمونا فكريا عميقا في خاصية عميقة للفكر الإسلامي المبايئة للفكر الغربي، هي الأساس والأصل الذي انبثقت عنه الفلسفة الغربية الحديثة بكل اتجاهاتها، والرؤية الإسلامية التي يصدر عليها البناء الإسلامي والرؤية الإسلامية في كل المجالات صارت فيما بعد مشار بنان المفكريين إسلاميين كبار ممن أسسوا لفلسفة الفكر الإسلامي المعاصر تأسيسا مذهبيا عميقا وسيعا، كالمفكر الكبير المسيري رحمه الله؛ أينعها قلم الأستاذ الشهيد رحمه الله في صياغة رشيقة عميقة وجيزة دقيقة باحتراز جوهري، لا يفربها إلا فري العباقرة المتهمين ..

يقول سيد قطب رحمه الله : " إن الفكرة الإسلامية عن الحياة تختلف عن الفكرة الغربية، في أن الأولى تعتقد بأن هنالك مددا للإنسانية من وراء المعلوم المحدود، وأن البشر وأفرادا منهم بصفة خاصة ليسوا متروكين لطاقاتهم الظاهرية المحدودة، وأن هناك لحظات ترتفع فيها الجماعات ويرتفع فيها الأفراد فوق مألوف طاقاتهم الظاهرة بحكم هذا المدد اللدني الغامض ، سواء كان هذا المدد كامنا في ذواتهم غير معلوم لهم على وجه التحقيق، ولكن تكشف عنه اللحظات الخاصة على غير انتظار، أو مستعدا للحظته من القوة الكبرى التي تصرف أقدار الحياة والإنسان . بينما ترى الثانية أن الطاقة البشرية هي هذه المعروفة المعالم والحدود وأن كل النتائج والعواقب كامنة في الأسباب المعلومة المقدرة المكشوفة للحساب والتقدير . 

يقول رحمه الله: " إن الفكرة الإسلامية ... لا تسلم نفسها إلى ذلك الغرور البشري بالفكر الإنساني الذي لم يشب عن الطوق بعد؛ وتمنحه مكانه الطبيعي في إدراك ما هو من شأنه، وما هو داخل في وسعه، ومألوف طاقته وتدع المنافذ الأخرى إلى المعرفة مفتوحة، مادام الواقع يأتي مثيرا بما تعجز عن تفسيره العقول ".

أما كتاب "خالد " فوصفه بقوله :" إنه يمثل طرازا من دراسة الشخصيات الإسلامية غير مسبوق، ويقدم ربما للمرة الأولى نموذجا من المنهج الذي تدعو إليه في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي " . و" من منطق الفكرة الإسلامية عن الحياة استمد صادق إبراهيم عرجون كتابه عن خالد بن الوليد، فجاءت سيرة كتبت بروح الإسلام، واستقامت على نهج الإسلام .

 لم يفتها من التحقيق العلمي شيء يعاب فوقه. ولم ينقصها من الإيمان الغيبي شيء يغاب نقصه فاستقامت بهذا وذلك على نهج الإسلام في تناول الحياة والأشياء والأشخاص".

وأما " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهج و رسالة بحث وتحقيق"، فيبدو من صنيعه كأنما جعله صاحبه رحمه الله ملك مؤلفاته: انصرف إليه بعد تخلصه من مهام علمية و قيادية أكاديمية في جامعات عربية، أعمل منهجه في تحقيق التاريخ الإسلامي عبر بعض أعلامه، وتضلعه في علم الحديث والرواية، وقراءاته العميقة لمصادر السيرة ، وتديره الحصيف في حديث القرآن الكريم عن صاحبها صلى الله عليه وسلم وأحداثها و مطالعاته الثقافية لقضايا العصر، وقضى العقد الأخير من حياته لإنجازه في أربعة مجلدات ضخام 2706 صفحة من الحجم الكبير ليس فيها شقشقة حديث، ولا ركام روايات .

ولا أحاديث أنس فالتحقيق المفضى للحقيقة ما أمكن هو الهدف الأسنى للعمل الجليل .

وافي الأجل الشيخ عرجون كما نقرأ في لمحة عن حياة المؤلف خطها وهو نجله على الأرجح الدكتور محمد بهي الدين صادق عرجون . من قبل في مسار أحداث السيرة عند وفود وقد قبيلة طيء من روائع أحاديث الوفود، ولو امتد به الأجل و أتم مدارات السيرة المعهودة في كتب السيرة، لكنا إزاء مجلدين آخرين أو أكثر : حسب طول نفس منهج المؤلف في تتبع وتقصى الحقيقة من الأخبار والروايات فمذ البدء تراه يسلخ في المسألة عشرات الصفحات بحثا علميا مذهلا؛ فمثلا في جزئية " أقصوصة التردي من شواهق الجبال " كما وصفها " التي وردت في كتب السنن والسيرة في فتور توقف الوحي " بعد ما نزل عليه في حراء ، يخلص نحو سبعين صفحة في سبيل دحض حسب وصفه " أبطولة كاذبة ".

ومن لوافت النظر العجيبة في هذا الكتاب الجليل أسلوبه ولغته سلك فيها بالرحلة الطاهرة لغة خاصة وأسلوبا فريدا عما يقرأ في أساليب أئمة وأعلام الأزهر الشريف في عصره، بل هو لغة وأسلوب عجيب حتى عن أسلوبه هو نفسه على نحو ملحوظ ! فالشيخ محمد الصادق عرجون من أصحاب الأساليب مثل أغلب أعلام وشيوخ الأزهر الشريف المبرزين في القرن العشرين، لكنه كأنما أعدّ قاموسا خاصا بمادة يصوغ بها نسيج السيرة العطرة فمقارنة أسلوبه في كثير من كتبه الأخرى بالسيرة تجد خصوصية اللغة والأسلوب هنا بما في ذلك في " الموسوعة في سماحة في الإسلام في 1150 ص - وهو العمل الجليل الأخر الذي تفرد به أحسب أن قوة أثر السيرة النبوية في نفسه والتفرغ لها كان بمثابة المزيج الكيماوي النفسي والروحي الذي أفضى إلى "معاصرة معتقة خاطبتنا بها سيرة "محمد الصادق ".

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services