129

0

فلسطين قلب العالم... حين ينتصر الشعر وتنهزم السرديات المهيمنة

في لحظة تاريخية مشبعة بالألم والغضب، وبمحبرة الشعراء وأصوات المثقفين وأجنحة الكلمات، انعقد المؤتمر الدولي من أجل فلسطين تحت شعار "فلسطين قلب العالم".

بن معمر الحاج عيسى

 بدعوة من حركة الشعر العالمية، وبدعم تقني من جمهورية فنزويلا، وبمشاركة واسعة لشخصيات ثقافية وفكرية مرموقة من مختلف أنحاء العالم، لتتحول الكلمة إلى جبهة مقاومة، ويصبح الشعر سلاحًا يُقاوم به الاحتلال، ويُعري به الزيف، ويُداوي به الجراح التي نكأتها آلة القتل والإبادة في غزة وسائر الأرض الفلسطينية المحتلة.

حضور أدبي وروحي وإنساني نادر، شكّل تظاهرة ثقافية عالمية تجاوزت الإطار الرمزي إلى الفعل الحيّ.

حيث لم يكن المشاركون شهود عيان على المأساة، بل شركاء في صناعة وعي عالمي جديد حول عدالة القضية الفلسطينية، وتفكيك الرواية الصهيونية التي سيطرت على الإعلام والسياسة لعقود. فقد اجتمع أدباء كبار وشعراء مرموقون ومثقفون من الصف الأول، من أمثال الشاعر أدونيس، والمحامي الدولي جيل دوفير، والشاعر محمد الأشعري، وسليمان جوادي، وطاهر بكري، وشاو ليو، وفريدي نانييز، وإبراهيم نصر الله، وأشرف فياض، وعشرات الأسماء من مختلف القارات، ليقولوا بصوت واحد: لا شرعية للاحتلال، ولا مبرر للإبادة، ولا صوت يعلو فوق صوت الحرية.

الشاعر عاشور فني، الذي مثّل الجزائر في هذا المحفل الكبير، وصف هذا الحدث بأنه لحظة استعادة للضمير العالمي، وإعادة بعث لحركة ثقافية عالمية تتجه بفلسطين نحو مركز الصراع الكوني بين الحرية والاستعباد، وبين الإنسانية والبربرية، وبين الحقيقة والدعاية، مشيرًا إلى أن حضور الشاعر أدونيس بقصيدته المدوية، وكلمة الشاعر الكولومبي فرناندو رندون، أضفتا على المؤتمر طابعًا نضاليًا رفيعًا.

إذ بدت الكلمة في مواجهتها للعدوان لا تقل أثرًا عن الرصاص، بل تتجاوزه في فضح السردية الصهيونية التي لطالما استخدمت لغة الحداثة لتغطية قبح المشروع الاستيطاني.

خلال يومي المؤتمر، تحولت المنصة إلى منبر عالمي للحقيقة، حيث تبادل الشعراء مداخلات مؤلمة، بعضها حمل شهادات حية من داخل فلسطين، وأخرى استعرضت تاريخ النكبة، ووعد بلفور، ودور القوى الغربية في رعاية الكيان الاستعماري، دون خجل أو حياء من القيم التي يرفعونها كغطاء كاذب للديمقراطية وحقوق الإنسان.

فقد أكد المحامي الدولي جيل دوفير أن القضية الفلسطينية لا تبدأ من 7 أكتوبر، ولا من 1967 أو حتى من 1948، بل منذ لحظة الوعد الاستعماري البريطاني عام 1917، وأن ما تقوم به سلطات الاحتلال ليس دفاعًا عن النفس، بل جريمة متكاملة الأركان ضد شعب أعزل يُناضل من أجل حقه في الحياة.

هذه الرسالة القانونية والسياسية تقاطعت مع المداخلات الشعرية التي تماهت فيها المقاومة مع الكرامة، والطفولة المذبوحة مع شجرة الزيتون، والأمهات الثكالى مع الكتب المدرسية المحترقة تحت الأنقاض.

قرأ الشعراء من آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا قصائدهم بلغة واحدة هي لغة الإنسانية التي سئمت الصمت والخنوع، ليؤكدوا أن زمن الاستفراد بالشعب الفلسطيني قد ولّى، وأن الثقافة العالمية تشهد صحوة ضمير غير مسبوقة.

وكان لافتًا حضور فنزويلا الرسمي ممثلًا بنائب الرئيس فريدي نانييز الذي قرأ بصوت متهدج قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر"، وكأنها نشيد مقاومة جديد يُتلى في وجه كل من يحاول تزييف التاريخ.

أما الشاعرة الفلسطينية د. حنان عواد، فكانت كلمتها مباشرة من القدس، جريئة ومؤثرة، تفيض بالعزة والثبات، حيث أكدت أن الكلمة الحرة لا تُحاصر، ولا تقمعها دبابات الاحتلال، ولا تردمها صواريخ الحقد.

وفي المقابل، قدّم أشرف أبو اليزيد شهادة دامغة عن استهداف الصحافيين الفلسطينيين كجزء من محاولة خنق الحقيقة ودفن الوعي، بينما سردت الإعلامية سوزانا خليل، من فنزويلا، قصة نكبة عائلتها وأبناء شعبها، موضحة أن القضية ليست فلسطينية فقط، بل قضية كل إنسان حرّ في العالم. المؤتمر كشف حجم الانقلاب الجاري على مستوى النخب الفكرية والأدبية في العالم، إذ لم يعد الدفاع عن فلسطين مسألة شرف أخلاقي فقط، بل أصبح تعبيرًا عن الرفض الكلي لمنظومة الهيمنة العالمية التي تبرر القتل إذا كان في غير أراضيها، وتصمت عن المجازر إذا ارتكبها حلفاؤها.

وقد أكد شعراء روسيا، والنيجر، والهند، والمكسيك، والأرجنتين، والجزائر، وداغستان، وجنوب إفريقيا، أن المقاومة الثقافية لم تعد محصورة في دائرة النخبة، بل أصبحت موجة جارفة تقتلع معها أساطير التفوق الأخلاقي الغربي، وتعيد الاعتبار للشعوب المضطهدة، وللعدالة التي جُرّدت من معناها طيلة قرون.

اختتم المؤتمر بكلمة للشاعر الكولومبي خايمي فرانكو، مدير مجلة "بروموثيو الشعرية"، أكد فيها أن ما شهدته الأيام الماضية ليس مجرد تظاهرة شعرية، بل بداية لثورة ثقافية عالمية تنطلق من فلسطين لتشمل كل جراح الأرض، موجّهًا تحية لكل من جعل من الشعر متراسًا للحقيقة، ومن القلم رمحًا في قلب الباطل.

وهكذا، في زمن الإبادة الجماعية والقتل الجماعي على المباشر، حين سقطت الأقنعة عن العالم المتمدن، وحين انكشف زيف حقوق الإنسان عند أول اختبار حقيقي، نهض الشعر من بين الركام، ليقول إن الكلمة ما تزال تملك القدرة على قلب الطاولة، وإن فلسطين ليست قضية جغرافيا، بل ضمير كوكب بأكمله، يقاوم كي لا يُقتل مرتين: مرة بالصاروخ، ومرة بالكذب. لقد انتصر الشعر، لا بانتصار القصيدة، بل بارتقاء معناها إلى فعلٍ تحرريّ عالمي، حيث أصبحت فلسطين قلب العالم فعلًا، لا مجازًا.

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services