397

0

ديوان ( مواقيت الورد العالية )  للشاعر يحيى محي الدين

وردٌ  مشتعلٌ لا يطفئهُ النّدى

 

 

 

 

 

بقلم : فرحان الخطيب

 

الاشتغال على ديوان " مواقيت الورد العالية " للشاعر يحيى محي الدين يدخلك للتو في دائرة الاشتعال بالورد والزهر والعطر والنّدى، من العنوان إلى الفهرس مروراً بكل القصائد دون استثناء، وحيث أن العنوان على رأي الناقد جميل حمداوي هو ( عتبة النص وبدايته وإشارته الأولى، وهو العلامة التي تطبع الكتاب وتسمهُ وتميّزه عن غيره )  فقد هان علينا الأمر لنرى الصلات والوشائج العميقة بين " مواقيت الورد العالية " عنواناً، والقصائد التي انضوت تحت ظلال هذا العنوان . بين دفتي الديوان قرأنا ثلاثاً وثلاثين قصيدة توزعت على مساحة مئة وخمسين صفحة ، وعندما أحصينا ما تفرع عن العنوان من فصيلة الورد وصفاته وما يتعلق به، ألفيناكلمات الورد والعطر والزهر والندى أكثر من صفحات الديوان، وهذا يقودنا على أن الشاعر في مواقيته والمحددة الموعد سابقاً، يحتفل أيّما احتفاء بمن سيلتقيه، فيحمل له الورد دلالة على علو المحبة، ورمزاً لما يسبغ على اللقاء من أريحية وشفافية عاليتين . وبعد أن سبرنا الديوان وتمعنا بمحتواه، وجدنا موضوعتين رئيستين، حوّمت حولهما فراشة الشعر عند يحيى، وما حطّت على غيرهما إلّا مروراً عابراً أو مصادفةً جاءت طيبة ومشابهة لهاتين الموضوعتين، وهما الشام والمحبوبة الأنثى والتي لم يسمّها يحيى في قصائده، ولم نعلم عنها إلّا ما أسبغ عليها ساعرنا من صفات خلال وجودها في حدائق نصوصه، وبهذا رأيت أن يحيى وشّح محبوتيه بوافر الحب، ولفّهما بغلالة العشق التي حاكها من خيوط العطر والنّدى، وصاغ أزرارها وأكمامها براعم زهر وورد وخزام، وعندها لا يسعك كقارىء وأنت تتجول بين حدائقه الغناء إلّا أن تدهش برقي التنسيق، وعذوبة التحديق في هذا المهرجان الوردي العالي ، يخاطب دمشق :

 

 

" مصادفة يا دمشق التقينا..

بمنعطفِ الفلّ حينَ حكينا قصائدنا للبدورِ..

وأعرفُ أنّكِ مفردةٌ من جمالٍ ونورِ ..

وأنكِ خاتمةُ الياسمين..

وكوكبُ حسنٍ ينامُ بينَ سطوري..".ص 56  .

 

 

وحينَ يطيّرُ الشاعرُ عصافيرَ عشقه في ضحى تلك المواقيت، أو يسرّحُ غزالاتِ هيامه على سفوح اللهفة والانتظار، لا يزيح عن مفرداته الغضّة، تبقى ذات اللغة التي تتورّد وتتسوسن وتتزنبق في ديوان الشاعر، فتأخذنا من ذواتنامشدوهين بأسراب العطور كطيور تتقافز وتتعالى أصواتها سمفونية ألحان زاهية من على أفانين أشجاره الشعرية الباسقات، ويمررنا عبر انعطافات اللغة الساحرة وتموجاتها الدلالية، وغالبها يضجّ بالصور البيانية المحتشدة باستعاراته ومجازاته وكناياته وانزياحاته، ولا يخفى على قارىء فهّامة ما أذهب إليه، وما أعنيه، حيث تتبدى جلّنارية ألفاظه البهيّة الخطف واللمعان، وكأنها طالعةٌ من قلبٍ مشوبٍ بالوجد، متسربل بغمام الاحتراق، يقول لفتاته :

 

 

" لا تعبثي مثل الصغار بدميةٍ ..

فتغيّري أفقَ العناقِ بلهفةِ التّبريرِ ..

لهفي على النّارنْجِ إذْ شاهدتُهُ ..

يُبدي حياءً أوّلَ التّكوير..

قد جاءهُ وحيُ النّدى وقصائدي..

تمشي الهوينى في تجاعيدِ السّرير.." ص 14  .

 

 

هذا الاقتباس يشي لنا بثلاث ميزات واضحات، واتّكىء هنا على مصطلحات نقدية كان قد اجترحها من لغته الباذخة الناقد يوسف سامي اليوسف رحمه الله، وهي أن المشهد العاطفي خلف ستارة مفردات يحيى مشهدُ مشتعلٌ بالحميمية، ما جعل الشاعر وببراعة تغليفه بالاستسرار اللغوي كي لا نراه إلاّ بعد إعمال جهد برفع الستارة عن المعنى المقصود، والميزة الثانية تعلّقت بشريف اللغة التي حاك منها يحيى هذا المشهد، فلم يقدّم لنا ما لا يقبله الوجدان، ولم يقترب من الفجاجة أو العري الصادم في المفردة المستخدمة، بل كان المشهد الساخن مغلفاً بالنّارنج والندى واللهفة والقصيدة والسرير، وكلّها لم تبح بشيء وباحت بكل شيء بآن. والميزة الثالثة هي التجاور الفاعل للمفردات العادية التي ولّدت لنا معانٍ ذات مداليل جوانية وعميقة في قوله " وحي الندى " و " عتمة التبرير" و " تجاعيد السّرير" هذا الإيحاءات الناعمة الحضور والبعيدة الغور، لا تتأتى إلّا لشاعر متمكن، وذي خيّالٍ مقناص .

إنّ لغة الديوان كأحجار الصّوان المبعثرة في هضبات كثيرة، ولكنّ يحيى قرّبها من بعضها، وأورى زنادها فأشعل المعنى وتتطاير شرر الأريج من مفردات اللغة التي أراد لها أن تكتنز بهذه الدلالات الشاهقة، حتى غدت بين يدي مخياله الخصب جداول من ماءٍ تسقسق منبجساً من تضاعيف الصخور القاسية، كما في هذا النموذج على انزياح في اللغة أكسبها شحنات انفعالية ودفقات ذات أبعاد أخرى ، يقول معاتباً الوطن :

 

 

"رويدكَ حينَ تهيلُ عليَّ الرّحيلا..

ثراكَ قميصُ دمي ..

آه يا وطني ..

ومداك يزيدُ الهديلَ هديلا.." ص 28 .

 

 

وإذا رجعنا لموضوعته الأولى دمشق، فهو يصابحها بهذه التحية :

 

 

" كأنّ الزمانَ بداية قلبي..

وبيني وبين زهوري يشاءُ الهبوبُ ..

متى يا دمشقُ يسافرُ همسي إليكِ..

فيستيقظُ الياسمينُ بصدري ..

وتغفو الدّروب.. ؟ " .

 

 

بذات اللغة وذات النكهة يسطر جوانيته وشاعريته يحيى، ولم يسأ أن يخرج إلى لغة يباس، أو إلى معنى قاحلٍ، بل هو في الفيحاء ينهل منها ويغدق على مشاعره ما تيّسر له من استملاح واستقطار جمال ، وإذا ما حاول إيهامنا بما يضمر عبر نصوص مراوغة ومداورة بين ملهمتيه دمشق وفتاته، ربما ينجح بذلك من خلال هذا المقطع :

 

 

" عمي يا سميناً وردّي السّلاما..

ولمّي قميص الغواية صبحاً ..

وأنتِ سلالُ فتونٍ تثيرُ الظلاما ..

أميطي خمارَ التلاقي ..

فيستيقظُ الكستناء بغصني ..

وتبني العصافير بيتاً حراما ..

أقمتُ بأذيالِ عطرِكِ طقسي ..

إلامَ أقيمُ المراسمَ وحدي إلاما.. " ص 67   .

 

 

وهنا أجدني محتاراً، ولمن يهدي أبياته هذه، وأظنه واقفٌ على شرفيتن، شرفة قاسيون ناظراً إلى دمشق السّنية، وشرفة حضورها رانياً إلى طلّتها السّخية، هذا هو الشاعر يحيى المتماهي مع الجمال والدلال بما اكتنزا من معان تتيح بل وتوعز  للقلب أن استمرّ في الخفقان . وإذا احتفى شاعرنا بدمشق وغوطتها الغناء لإنه مقيمٌ فيها، فلم ينس حلب ومرابع صباه فيها، فيستدرك في قيلولته الهنية بأحضان دمشق، وتجفّله الذكرى الوامضة على حين يقظة، فينشد كأنّ أحدا باغته ووشْوشَهُ وَذكّرهُ فانتفض شغفاً :

 

 

" أمّا حلبْ ..

وردٌ يبوح بسرّهِ ..

وغناءُ لونٍ ..

في صباحات القصبْ ..

والرّيمُ يضمرُ نرجساً..

أحلى لنسوتها..

يُضلُّ به أزاهير اللهبْ .." ص 33  .

 

 

وفي كل هذه الجمل والمفردات الطفوح بالزهر والعطر، تعلو لديه المشاعر العروبية النبيلة التي تتزاهر في نسغ كل شاعر  يحب ويعشق هذا الثرى الممتد بعيداً بعيداً لينشد العراق :

 

 

" يرى الماءُ ما لا يراهُ النّدى ..

في ضجيجِ الحِرابْ ..

يرى مثلَ نخلٍ ..

على مسمعِ الرّملِ ..

فيضَ السّرابْ ..

وأرضُ العراق تكفكفُ أنهارها..

تستجيرُ برمضاءِ فكرتها ..

والمواقيتُ تمضي لسفْرِ السّرابْ.." .ص  109  .

 

 

في هذه الواحة الشّعرية الخضراء، والتي تنساب فيها جداول البوح من ينابيع وجدان الشاعر، تحفّ بسيقان وأفنان اللغة المنتقاة، وتشتبك ألحان بحور الخليل متناغمة في أجوائها وفضاءاتها، تشتهي ألاّ تغادرها، لما امتلكت من أصالة تليدة ، وحداثة طارفة، فبعد أن جُلْنَا في أكناف اللغةومنعطفاتها، وبيّنا منابتها وتفرعاتها الرهيفة الباسقة ، نذهب إلى موسيقا الشعر التي ما فارقها شاعرنا طيلة صفحات الديوان، إذْ بقي مع تَفعيلاتِ جدّنا الخليل، ولم يغادرْها، بل اصطفى منها أرقّها وأعذبَها وأخفّها إيقاعاً على السمع وهي فعولن وفعلن، وذهب إلى قصيدة التفعية الواسعة الأمداء من حيث حرّية عدد الجمل الشعرية غير المقفاة، واستثماره ما يلائمه منها بسهولة ويسر، وما جمّل موسيقاه اهتمامه بميزة التّرفيل في كثير من جمله الموسيقية التي زاد حركة وسكوناً على التفعيلة الأخيرة فمنحها هذه الانسيابية الرقراقة والشّجية كما في قوله " هذي مكائد غفوتي اشتعلتْ كقافيةٍ بإيلافِ الزّهورِ "ولم نعثر في الديوان إلّا على ثلاث قصائد عمودية على البسيط والكامل والمتقارب، ولكنها بنفس هدوء النغمات الواردة في قصائده الأخرى. ديوان " مواقيت الورد العالية " للشاعر يحيى محي الدين اتّسم بالانسيابية الغنائية، وحمل لنا ضمن الموضوعتين الرئيستين دمشق الوطن، وفتاته التي عشق، أفكاراً أخرى طرحت الكثير من الوجع الإنساني المستتر تحت جلد الورد وعطره، ولكن يحيى ضمّد هذا الوجع بحرير شاعريته ورشّه بعطر إبداعه، كيَدِ أمّ حانية تداوي جروحاً بليغة لفلذّاتِ أكبادها كقوله :

 

 

" تريّثْ وأنتَ تُعدَّ الجنازةَ يوماً..

وتحرسُ ليلَ الحواسْ ..

فعمّا قليلٍ تنامُ المراثي ..

وعمّا حنينٍ يمرُّ الغريبُ ..

على شَجرٍ من يباسْ .." ص  144  .

 

 

وبهذا المقبوس تكتمل دائرة الحديث مبنى ومعنى على شعر فيّض له أن يكون شعراً جميلا وبهيّاً، فكان.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services