274

0

"دماء الأضحية ودماء التاريخ ... حين تذوب شعيرة العيد في ذاكرة الأوراس"


في قلب جبال الأوراس، حيث يلتقي النسيم الجبلي بخشوع العيد، تتكرر كل عام شعيرة عيد الأضحى في مشهد يفيض بالرمزية، ليس فقط بإعتبارها شعيرة دينية بل طقسًا ذا عمق تاريخي، تختلط فيه دماء الشاة بذكريات المقاومة.

ضياءالدين سعداوي

وترتبط فيه الأضحية بقصة ملك أمازيغي وقف يومًا وجهًا لوجه أمام فاتح مسلم ، لا تقتصر طقوس العيد هنا على الذبح والتكبير، بل تتسلل إلى تفاصيل دقيقة، طريقة السلخ، مسح وجه الطفل بجلد الخروف، وحكايات شعبية تُروى في صيغة ذاكرة شفهية يتوارثها الجبل.


بينما يكتفي معظم المسلمين حول العالم بذبح أضحياتهم وتوزيعها، تتخذ شعيرة عيد الأضحى في الأوراس طابعًا خاصًا يمتزج فيه الديني بالأسطوري، ويعلو فيه صوت التقاليد على هدير الحداثة ، في القرى المنتشرة بين شعاب ولاية باتنة خنشلة و غيرها من مواطن الشاوية بالشرق الجزائري، يُسحب جلد الشاة بعد الذبح بعناية فائقة، ويُمسح على وجوه الأطفال، وخاصة الذكور منهم، في طقس يُعتقد أنه يقيهم من الأمراض الجلدية ويقوي المناعة، لكنه يحمل في ثناياه رمزية أعمق.

يقول الحاج محند، شيخ تجاوز الثمانين من عمره، وقد لف رأسه بعمامة بيضاء: "نحن لا نفعل هذا عبثًا... إنها وصية الأجداد، حتى قبل أن يأتينا الإستعمار ، الجلد يحمل بركة الشاة المذبوحة في سبيل الله، ومسحه على الوجه يطهر النفس والجسد".

لكن خلف هذه العادة، تختبئ رواية شعبية لا تقل دهشة، تتناقلها العائلات منذ قرون. تقول الرواية إن جيش المسلمين بقيادة الفاتح عقبة بن نافع دخل الأوراس بعد أن أسلم أهله طواعية، ولما أراد القائد إقامة وليمة، طلب من ملك المنطقة أن يذبح لهم شاة، بل أمره أن يسلخها بيده أمام قومه، في مشهد لا ينساه الشاوي مهما تعاقبت الأجيال.

الملك، الذي تشير الرواية إلى أنه أكسيل أو كسيلة كما سماه العرب، شعر بإهانة بالغة، وفقًا للتقاليد المحلية، لا يجوز للملك أن يؤدي عمل الجزّار أمام رعيته، فذلك امتهان لمقامه وإذلال لصورته. ومع ذلك، قام الملك بسلخ الشاة، ثم أمسك بجلدها، ومسح وجهه به، ثم غمس يديه في الدم ومسح وجهه من جديد قائلاً لقائد الجيش بلهجة تهديدية: "انظر جيدًا لهذا الوجه... سَتراه مجددًا، لكن في ساحة المعركة".

تُكمل الرواية بأن الملك لم يتحمل الإهانة، وتتبع الجيش حتى قضى على قائده عقبة في معركة تهودة الشهيرة، ورغم طغيان البعد الأسطوري في هذه القصة، إلا أن تقاطعها مع وقائع تاريخية مذكورة في كتب ابن الأثير وابن خلدون يجعلها مثار اهتمام المؤرخين.

الدم بين الأسطورة والتاريخ

في تفسير هذا السلوك، يقول الباحث في التاريخ المغاربي،  عبد الحق منصوري: "مسح الوجه بدم الأضحية أو بجلدها ليس فقط عادة صحية مزعومة، بل استبطان لفعل رمزي عميق الجذور في اللاوعي الجمعي الأمازيغي، يتصل بشعور قديم بالمهانة والرغبة في استعادة الكرامة ، وما حادثة كسيلة إلا صورة أولى لهذا التوتر بين المقدس والمهين، بين الدين والسيادة، بين الفاتح والمفتوح عليه".



ويضيف: "الرواية تتطابق بشكل ملحوظ مع ما ترويه المصادر العربية نفسها عن خلاف عقبة بن نافع مع القائد السابق أبي المهاجر دينار، الذي كانت له علاقة طيبة مع الأمازيغ، وكان سببًا في دخولهم الإسلام دون قتال".

أكسيل: الملك الذي لم يغفر الإهانة

وُلد أكسيل (أو كسيلا) في مدينة خنشلة، وكان زعيم قبيلة أوربة الأمازيغية، وملكًا على مملكة تمتد من تاهرت (تيارت) إلى القيروان ، اعتنق الإسلام في عهد أبي المهاجر، وكان مواليًا له ، لكن ما إن عاد عقبة إلى القيروان و أقال أبا المهاجر، حتى بدأ يُذل أكسيل، ويُجبره على مرافقته في حملاته كنوع من التحقير.

تقول المصادر أن عقبة أمره ذات مرة أن يذبح الشياه ويسلخها أمام قومه، ولما رفض بادئ الأمر، شتمه وأجبره ، أكسيل فعلها لكنه كان يُخفي نارًا تحت الرماد، خصوصًا وأن عقبة صادر أموال أبا المهاجر، وخرّب المدينة التي بناها.

وما لبث أكسيل أن انتفض، متحالفًا مع قومه، وقضى على عقبة في تهودة، ثم دخل القيروان وترك الناس آمنين، ورفض التنكيل بالنساء والأطفال، بل أقام حكمًا دام خمس سنوات، قبل أن يُقتل في معركة ممش ضد زهير بن قيس البلوي سنة 686 ميلادية.

من العادة إلى الشيفرة الثقافية

عند العودة إلى الطقس المحلي في الأوراس، تتجلى ملامح هذا الإرث الرمزي في شعيرة السلخ. فالسلخ يتم بطريقة دقيقة، لا يُسمح فيها بخدش الجلد أو تمزيقه، ويُعلق الجلد في واجهة المنزل كبركة. يتولى الأب تعليم ابنه الأكبر كيف يذبح وكيف يسلخ، في مشهد أقرب إلى طقس عبور من الطفولة إلى الرجولة.

يقول منصوري : "ليست هذه مجرد مهارات فلاحية، إنها دروس في الهوية والكرامة، في كل عيد، يعاد تمثيل تلك اللحظة القديمة التي سلخ فيها ملك جلد الشاة مرغما، لكننا اليوم نفعلها طوعًا، لنعيد صياغة الذكرى بشروطنا".

هل أسلم أكسيل حقًا؟

في خضم هذا الجدل، يبرز سؤال حاسم: هل ارتد أكسيل حقًا كما اتهمته المصادر الأموية، أم أنه كان مسلمًا قاوم الظلم؟ يذهب الكثير من الباحثين إلى أن أكسيل لم يرتد، بل أسلم بإرادته، وتحالف مع أبي المهاجر، لكنه تمرّد على سياسة التحقير .

يرى المؤرخون بأن: "أكسيل قاوم من أجل الكرامة، لا من أجل العقيدة ، رفض أن يُعامل كعبد، وأن يُهان أمام قومه ، وإلا، فلماذا ترك القيروان في أمان، ورفض الغدر بسكانها؟ إنه سلوك فارس، لا مرتد".

نهاية تراجيدية وبداية أسطورة

قُتل أكسيل في معركة غير متكافئة، لكن قصته لم تمت، خلفته الملكة ديهيا التي واصلت المقاومة، وأعادت بناء مملكته، قبل أن تنتهي هي الأخرى في معركة دامية.

في ذاكرة الأوراس، لم يكن أكسيل ملكًا فقط، بل ضميرًا حيًا لشعب رفض الذل ، ومع كل عيد، حين يُمسح وجه الطفل بجلد الأضحية، يُستدعى طيفه من الرماد، كأنه لسان حال الأمهات يقول: "انظروا لهذا الوجه... إنه وجه أكسيل جديد".


بين الدم المُراق لوجه طفل صغير في عيد الأضحى، والدماء التي سالت على ضفاف تهودة، يكمن خيط رفيع من التاريخ و الرمزية في الأوراس، حيث يُذبح الكبش طاعة لله، و تعود معه روح جبل لا ينسى الإهانة. هكذا، تظل شعيرة العيد بالأوراس أكثر من طقس ديني... إنها سيرة شعب، وحكاية ملك، ووجهٌ مسحوه بالجلد ليقولوا: نحن هنا منذ الأزل.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services