379

0

بروق  الشاعر جابر أبو حسين  تساطع " ثغر السماء "

  بقلم : فرحان الخطيب


 
نعم ، اللغة الشاعرة هي بروق ترسلها جوانيّة الشاعر عبرَ أنواء تفاعلاتها ودلالاتها البنائية في ذروة اشتباكها المتقن، حيث اللغة تطلق هذه البروق بعد أن يتمكّن  الشاعر من زرع فتيل اشتعالاتها بين مفرداتها بقصدية توليد ما هو شارق ووهّاج في سماء الشعر، حتى ليظنّ القارىء أن هذه البروق تتلاعج وتتساطع على " ثغر السماء "  وهو العنوان الباذخ الدلالة الذي اختاره الشاعر جابر أبو حسين لديوانه.
من سمات الحداثة في الشعر، أن يأخذ العنوان مكاناً ذا رفعة عند النقاد، وقد أحاطوه بعنايتهم، وحمّلوه من المعاني ما يتواشج مع كل ما يذهب إليه المتن الشعري من إشارات وتلميحات، فيكون بذلك القائد الشعري لقصائد الديوان بصورة أو بأخرى، وبقدر ما يكون بهذا المعنى بقدر ما يوفّق الشاعر باختياره للعتبة النّصيّة الأولى التي يعبُرُ من خلالها القارىء إلى فسيح أرجاء ما يطرح الشاعر من لآلئه الشعرية على مساحة صفحات ما كتب.
" ثغر السّماء " عنوان عالٍ بالمبنى والمعنى، شاهقٌ حدّ طرائد الخيال الشعري، القنّاص لكل ماهو ذي لمعان وإغواء وخارج عن المألوف، وكيف للشاعر الرائي كجابر أبو حسين أن يتصيّد ثغر السماء الذي يقصده إلّا إذا أعلن عن امتلاء جعبة بروقه، وإطلاقها برقاً برقاً ليتسنّى له الدخول في أنواء العملية الاستيلادية الناتجة عن رياح اللغة ورعد المعنى وغمام الصورة وقصف الخيال لتتكاثف جميعها برقاً يساطع " ثغر السماء " ويراكزه في وحدة شعرية باهرة القصد، جليلة الهدف.
كانت البروق السبعة  التي أطلقها الشاعر إلى ثغر سمائه تحفُّ  بثلاثة أقانيم أراد لها الشاعر أن تكون في دائرة اهتمام الخلق الشعري لديه، باعتبارها مركزاً لقلق الشاعر الخصب، ومنطلقاً لإشارات الرغبة في أن يحوط هذه الأقانيم بعناية الكلمة الحمّالة لهواجسهم وآمالهم وآلامهم وتطلعاتهم، بل أكثر من ذلك إلى حدّ اعتبارهم مركزاً جاذباً لذات الشاعر الدائرة دائما في فلك هذه الأقانيم الثلاثة، وهي الوطن والمرأة والشاعر ذاته.
وقد رأيت أن بروقَ الشاعر التي حمّلتْ روح الشاعر عذابات ومآسي الوجع الإنساني، لهي موّارة بنبالة الشاعر الفاعل لا الناظر، الشاعر الذي تساوى بآلامه مع الأخرين، ما جعلني أذكر مقولة أحد النقاد  " إن الشعراء هم عطر الأنبياء على الأرض " الأنبياء الذين تعذبوا بل وماتوا لأجل الإنسان، وها أنا اجد هذا التماهي بين ذات الشاعر الخوّاضة في طلاسم الوجود، والمتعبة في إيجاد الأجوبة للأسئلة الحادة، والبحث عن المسالك الواضحة لمنعرجات الحياة، يشدّك الشاعر جابر أبو حسين لهذا الحضور العالي لهذا الشاعر المقصود، يقول من على ثغر السماء :
" أصيرُ غماماً 
ليبتلَّ فوقَ التّلال قميصُ الكتابة ..
فوقي خريفٌ ..
وحبّةُ توتٍ بقرميدِ روحي ..
وفوق الجروح ترابٌ ..
فعشبٌ وشعبٌ، قبابٌ فبحر وحبرٌ وكنتُ شقيّا..
أصيرُ ندىً خارجاً من بحار الكلام.." ص ٢٠ .
إنها لوحة تجريدية لتشكيلٍ شاعريّ متشظٍّ، بين البحر والحبروالندى والغمام والجرح والتراب والشعب والعشب، فأي عجينة من ألوان الحياة القاتمة، خلطها الشاعر مع بعضها، متمنيا أن يصير غماما لينسلّ قميص الكتابة من هناك، من على ثغر السماء.
إنّهُ يحمّل القصيدةَ، بل الشاعر، مسؤولية ازدهار المدائن إذا استطاع تخليص الوطن من أوجاعه، لتصبح المدائن عروسا تلقي على كتفيها شالها، يقول :
" وإذا القصيدة أخرجت مكنونها وجمالها..
-       في بردِ هذا الكون –
ألقتْ فوق أكتاف المدينةِ شالها .." ص ١٠ .
والشاعر عند أبو حسين مصدر  خير وصفاء ونقاء، وهو مشرّع العالم غير المعترف به، على رأي أحدهم، ولكنه رامزٌ إلى كلّ ماهو بهيٍّ، فهو يرقد عند ثغر السماء الخيرة بالغمام والمطر، ويدعو الخلق لأن تتماثل به، بل لكي تتناسل من ذاته ليحفل الكون بالنعمى والرخاء، يقول :
" وتناسلوا في بهو أخرتي كؤوساً ..
طعمها فرح المدينة..
بالهواء الطّلق والنّعمى اشربوا ..
وتعلّموا فقهَ القلوبِ ..
فإنّ شاعرَكم على خلقٍ ..
فكونوا جون ذاته واهطلوا .." ص ٢٧ .
وبهذا المقبوس يشعرنا أبو حسين أن الشاعر يقترب من المخلّص والمطهّر للنفس البشرية من آثامها ومن شوائبها،إ ذا استطاعت هذه النفس أن تصعد أثيراً إلى الذات الشاعرة وتتماهى مع جوّانيته العالية المبسوطة مع الغمام، ليعيدَ خلْقَها على شكل هطْلٍ رشيق يلامس الأرض ، وهذه رؤية اكتنزها الشاعر في دائرة الصّور الموحية والجاذبة بآن، والتي تعتمدُ على عنصرها الداهش القصيدةُ الحديثة فيما تعتمدُ على عناصرً أخرى ليتم التّشكيل الحَداثوي المرتجى.
وعندما يخلع الشاعر جبّته الشّاعرة، ويقف مُروّعاً على تضاريس الوطن، يلحق لحافه ليتدفأ، ورغيف خبزه ليقتات، وبيت شعر حرّ ليطيّر أفكاره في سماء الحرّية، فإذا به على هيكلٍ من وطن، يسير نحو الحياة بطيئاً فتمجّه الحياةُ لضعفه وانكساراته وترهّلهِ، يقول :
" الوقتُ سلحفاةْ..
لا ماء لا فتاتْ .. 
لا ضوء لا دفء  ولا غيثٌ هنا ..
يفجّرُ العيونَ والنباتْ ..
لا وابلٌ يزلزلُ الغزاةَ والطغاةْ ..
هلْ نحن أهلُ الموتِ والمأساة .. !!؟؟ " ص ٨٦ .
يتقاطع أبوحسين هنا مع الشاعر أيمن أبو الشعر في قوله من ديوانه " عصفورٌ محكومٌ بالإعدام :
" بلى ..
كان نيرونُ طاغوتَ نارِ السنينْ ..
أليسَ هناكَ سوى حالتين ..!!؟؟
فإمّا سياطُ الطّغاةِ ..
وإمّا نِعالُ الغزاةْ ..!!! " .
وهذا أمر طبيعي، فالشاعران أبناء وطنٍ واحدٍ، ويستشعران الهموم والأوجاع ذاتها، ويرون أطماع الطغاة والغزاة بأوطاننا، فتكون النتيجة واحدة، والتعبير واحد.
ولأنّ الشاعر، يرزح الجزء الذي هو منه تحت حراب المحتل، وينتمي إلى أهله وترابه وأشجاره ومائه، يعلو صوته، ولكن بحشرجات حزن، وغصّات وجع، فتتراءى الجولان أمام عينيه ظبية نافرةً من حلوق فاغرة، وأنياب حادة  ناتئة لتمزيق جسدها، فتنتابهُ صرخةٌ مدويّة طالعة من عمق التاريخ، لعلها تلامس أسماع معتصم معاصر، يقول:
" يا لِحُلمٍ سافرٍ ..
يا واوَ ندْبتِها ويا هاءَ السكوتْ ..
تفجّري ..
هيّا تشظّي في بطونِ النّار مدّي ..
علَّ معتصماً محليّاً يقودُ جيوشهُ نحو الكرامة..
كمْ مللنا لفظَها ..
من دونِ تحبيرٍ بمائك يا صبيّهْ.. " ص ٩٩ .
ولا تقود إلى النّصر إلّا دماء الشهداء، ولا يراقُ هذا الدم الزكيّ إلّا إذا امتشق الرجال سيوف شجاعتهم، ورماح عزّتهم، ونبض تعلّقهم وانتمائهم العالي بالأرض التي يعيشون عليها، ويبذلون المهج لأجلها، وهنا تعلو وتسمو الكلمة الشاعرة التي تتغنى بالشهادة والشهيد، يقول:
" يقولُ الشّهيدُ لأمٍّ مضتْ ..
وهي تذرفُ أخرَ أنهارها ..
آهِ يا أمّاه ..
يا ماء قلبي وسيرته العاطرةْ ..
أما زلتِ تدعينَ لي أنْ أظلَّ معافى ..
وأمشي فوقَ الرّدى ..
بعد مليون جرحٍ من طعنة غادرةْ .. " ص ١١٥ .
ولم يكن ليدافع عن الباطل، بل هو الحق بعينه، أن يستعيد الشعب وطنه المغتصب، ويستبسل في الدفاع عنه، والحق لا يستردّ إلا بالقوة والعزيمة، يقول الشاعر :
" أرى الحقّ في فوّهات البنادق..
في " حضر اليوم يرفو المدى ..
ويوحي النّفيرا ..
فجرحٌ تسامى إلى المجدِ ..
نجماً منيرا.. " ص ١٠٧ م .
وليس أجمل من أن تشعّ خيوط الإنسانية من وجدان الشاعر، بعد كل هذه الصرخات المدويّة بين قعقعة السيوف، وأزيز الرصاص من فوهات البنادق، 
وفورة دم الشهداء في ساحات الوغى، ليس أجمل من يقايض الشاعر بشعره، بذاته، ليتحصّل رغيف خبز لتستمرّ الحياة مع طفولة بعيدة عن شرور الحروب ومآسيها، يقول :
" خذوا كلَّ ما قدْ كتبتُ من الشّعرِ..
من نزفِ روحي ..
وهاتوا رغيفاً رهيفاً ..
يسدُّ لطفلي الرّمق .. " ص ٨٤ .
وهل أبلغ  وأمضى من هذا البرق الرامح إلى ثغر السّماءْ، عبر هذه الشواهد التي مرّت، قطّرها الشاعر من خابية أحزان الوطن، وأحالها إلى نفس توّاقة للحبور والسرور في أكناف وطن نحب ونعشق.
وليس شاعراً مَن لا يبرق لامرأة في عواصف الحياة العاتية، وأثناء موجها المضطرب، وفي يباب حقولها كي تبرعمه اشتعال زهر، واختمار نبيذ، ووذوب عنّاب، وإن كان جابر أبو حسين قد طغت عليه، وهالت على كتاباته كثبان الحزن المندلق  من كل جرار الحياة، إلّا أنه وجد سعفة من الوقت ليهبها ككل الشعراء، أجنحة القصيدة، وهي أغلى واجمل ما يملك الشاعر، عكس ما يرى الكثيرون، يقول :
" ليديكِ أجنحة القصيدة ..
ولي انطلاقك في دمائي ..
وانحلالك في شفاهي..
واحتراقكِ في يدي كفراشةٍ ..
في باب توما.. "
فهو شاعر يدرك تماماً لذاذة اللقاء، واحتراق العواطف، وانحلال الورد وذوبانه، هذا المجاز العالي في اللغة، يحيلنا إلى رهافة الحس الشاعري عند أبو حسين، وتشكيل الصورة الشفيفة كانعكاس الورد في مرايا العشق، وهذا ما تبوح به لغة الهمس عطراً وأريجاً، وعندما يذهب إلى أبعد من ذلك يكتب :
" ظبيةٌ ناسكةْ ..
تقرأُ العشقَ في مصحفٍ باذخٍ بالمنى..
والمدى الفاتكة..
قبلةً .. قلبةً ..
لسفك الماءِ..
 في منحنى الورد ..
فوق التلال..
على كلّ منعطف ظامىءٍ ..
فوق درب الهوى الشّائكة.." ص ٥٦ .
إنّها اللغة الموحية التي تختبىء ملاحتها خلف غمام ستارتها، التي حاكها الشاعر بسدى رهافته ولحمة عشقه، فالمنعطف الظامىء، ومنحنى الورد، ودرب الهوى الشّائكة، كلها جملٌ حمّالة من خلال تجاور مفرداتها إلى معانٍ مضمرة وجاهرة بآن، وهذا هو الشاعر الذي يمتلك ناصية اللغة ويوجهها إلى حيث قصده ومبتغاه.
في البروق السبعة التي اختارها الشاعر أبو حسين عنوانات فرعية لقصائده، لم يكن لديه بدّ أو بديل عن الانغماس الشعوري واللا .. في فضاءاته التي عكّرتها الأيّام بحرب وفقر وموت وفراق وخيبات جمعية لمجتمع كامل، وكان كل حرف من قصائد الشاعر برقاً إلى حيث يجب أن يضيء، فتعاصف الدّيوان " ثغر السماء " بمعانيه وألفاظه وتراكيبه ودلالاته، وكنت أقرأه كمن يجوس مجمر الطبيعة العاتي، أو يقطع مفازة مترامية النوائب والأحزان، وخاصة بمناجاته لابنته التي فارقته هيا:
" أجيبي فؤادي الحزين ..
هدّئي نار قلبي ..
أطلّي عليّ بضحكتك ..
اختبري ضعف قلبي رويداً رويداً ..
ولا تقتليني بصعقة دمعٍ ..
وعاصفة من أنين .. "ص ١٢٥ .
على موسيقا الخليل الهادئة صاغ الشاعر قصائده، مستخدماً التفعيلات الصريحة وجوازاتها بكثرة ، ومرّرَ مفردات لا تتحملها انسيابية القصائد في مسارها النّهري المتدفق جمالاً وعذوبةً، مثل جذاذ، تعيج، اعرورى،الثّأد، الصّرد،وهذا لا يقلل من الجماليات الثّرّة التي زيّنتْ وجمّلت الديوان، من حيث الصورة المبتكرة، مثل " داخلاً في رضاب البلابل " ، " أُبْعَثُ في وابل الضّوء حيّا "، " دمعات أم الشهيد صارت بيانا " .ومثل هذا كثير من الانزياحات المدهشة، وارتقاء الإسلوب، واحتفاء بالصياغة الشعرية اللافتة، حيث يظهر ذلك جليّا في المقبوسات التي رافقت هذه القراءة.
وأرى في نهاية هذه الدراسة أنّ مقطعاً شعرياً مثل هذا :
" عاد المسافر من بلاد الثلج ..
يبحثُ عن ثلوجٍ دافئة ..
يروي المسافرُ نثْرَ رحلتهِ ..
وينثرُ فوقهٌ شعر الظروف الطّارئة ..
عاد المسافر من حمى وقت إلى وقتٍ إلى حضن الحبيبة..
ملقياً أوجاعَهُ ومشّقّة السّفر البعيد ..
ورأسَهُ المملوءَ بالمدن الكبيرة فوق ركبتها ..
ليبدأ رحلة أخرى .." ص١٣ .
يسند ما أشرت إليه في البداية، من أن الشاعر مندمج بالوطن والحبيبة، بكل تقلبات طقوس الأيام والأعوام، فهما العناصر الثلاثة الذين يمنحون ثغر السماء عبر بروق جابر أبو حسين علامات الحياة المتدرجة من أقاصي الحب إلى مرارات الهجرة والبعد عن الوطن، إلى ضوع العبارة في الحالتين على لسان الشاعر.
جابر أبو حسين ، متمنياً لك دوام التوفيق، والإبداع والعطاء الجميل .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
    

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services