286

0

بكائيات الإخوة المتوسلين في الوادي السحيق!

بقلم: محمد شريم

*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام

     هاجم أحد الغزاة ولقبه "الضبع" مستعينا بجماعة من الأجراء ذات ليلة بستانا كثير الشجر وافر الثمر، وأخذ منه نصيب الأسد اغتصابا ولم يبق الغازي لصاحب البستان واسمه "مالك" سوى موضع منزله، وما لبث هذا الغازي أن وضع بين ما استولى عليه من أرض البستان ومنزل صاحب البستان "مالك" حدا، ثم ابتنى لنفسه فيما اغتصبه من ذلك البستان بيتا، لكن "مالكا" لم يستكن، فقد واظب على محاولة إخراج الغازي مما استولى عليه من أرض البستان.

     وذات يوم، قرر "الضبع" الاستيلاء على ما تبقى من أرض البستان وطرد "مالك" من منزله، لعله يستريح من محاولات "مالك" المتكررة لطرده من البستان، فأمر أجراءه بأن يقذفوا منزل "مالك" بالحجارة والسهام والمشاعل، فحاصر الأجراء منزل صاحب البستان من ثلاث جهات لعدة أيام، أما الجهة الرابعة فقد عزف الأجراء عن الوصول إليها، لأن بستان "مالك" كان من هذه الجهة متصلا ببستان أحد إخوته، ويفصل بينهما سور قليل الارتفاع. 

     فاستمات صاحب البستان في الدفاع عن بيته وعن أسرته بكل ما استطاع قذفه باتجاه منزل "الضبع" مما وقعت عليه يداه.

فتحطم في سياق هذه المواجهة العنيفة بين الطرفين جزء كبير من منزل "مالك"، وأصيب بعض أهله بالسهام والحجارة، كما احترق ما كان حوله من الشجر، وعلت صرخات الاستنجاد من سكان المنزل لعل أحدا يغيثهم ويعاونهم على مواجهة ما يعانونه من الجوع والجراح والأذى.

     وكان لصاحب البستان "مالك" خمسة إخوة، فاجتمعوا بعد تلكؤ للتباحث في إيجاد طريقة يقدمون بها المساعدة لأخيهم، وذلك بتشجيع من أفراد أسرهم الذين ساءهم أن يروا ما يعانيه أقاربهم من شدة العدوان، فاقترح أحد الإخوة واسمه "همام" أن يؤازروا أخاهم بما يمتلكون من الإمكانيات، فأبدى سائر الإخوة أعذارهم، وأعلن كل منهم تقاعسه عن نصرة أخيه لهذا السبب أو ذاك، فبعضهم خشي غضب "الضبع"، وبعضهم نشأت بينه وبين "الضبع" بعض المصالح، ولكنهم قرروا جمع شيء من الغذاء والدواء لإيصاله إلى منزل أخيهم، فوضعوا ما استطاعوا جمعه في صندوق، وما لبثوا أن اختلفوا في كيفية إيصال الصندوق إلى بيت "مالك"، فقد اقترح بعض الإخوة أن يتم تسليم صندوق المعونة عبر السور الفاصل بين بستان "مالك" وبستان أخيه المجاور، فرفض الأخ المجاور قائلا: أنا لا مشكلة لدي في هذا، ولكن.. ماذا لو انتقم مني هذا الغازي؟ حينئذ ستتفرجون عليّ، وستبحثون عن طريقة لإيصال صندوق معونة آخر إليّ!

     فقال أحد الإخوة: ليس لنا إلا أن نطلب من "الضبع" أن يأذن لنا بإرسال المعونة إلى بيت أخينا. فقال أخوهم "همام": معاونة الأخ لا تؤتى بالتوسل إلى عدوه! 

     فاقترح أحد الإخوة أن يذهبوا جميعا إلى كبير الشطار، لما له من تأثير على الغازي، وبعد أخذ ورد، اتفق الإخوة باستثناء "همام" على الذهاب إليه طالبين وساطته لدى "الضبع" لعلهم يتمكنون من إيصال صندوق المعونة إلى بيت أخيهم. 

     كان كبير الشطار الذي يلقبونه بالسيد الكبير يسكن قصره الفخم الذي سبق وأن ابتناه في أسفل الوادي السحيق، وعندما وقف الإخوة على حافة الهضبة التي تطل على ذلك الوادي، نظروا نحو الأسفل، فكانت بعض القصور تحف بجوانبه شديدة الانحدار، وكأنها أديرة النساك، وقد شاهدوا قصر "السيد الكبير" وهو يبدو للناظر من الأعلى – في قاع الوادي - بحجم قبضة يد الطفل الرضيع، أما قصور الشطار الصغار فكانت تحيط بقصر "السيد الكبير" من كافة جوانبه، وكل واحد من تلك المنازل يبدو للناظر من حافة الهضبة بحجم خنفساء صغيرة الحجم لا أكبر.

     لقد كان منظر الوادي رهيبا، فتردد بعض الإخوة – بادئ الأمر - في النزول، خوفا من السقوط لشدة الانحدار، ومع ذلك لم يجدوا بدا من متابعة ما عزموا عليه، فاستغاثات أسرة أخيهم تصم الآذان، وأفراد أسرهم ينتظرون منهم خبرا يريح نفوسهم.

     بدأ الإخوة بالانحدار، أحدهم تناول قضيبا يابسا من الحطب ليتوكأ عليه، أما الآخرون فقد شرعوا بالانحدار زحفا على أعجازهم.

وقد عرجوا أثناء انحدارهم على القصور التي صادفتهم في المنحدر، لعلهم يجدون من أصحابها من يؤازرهم بإقناع الغازي بالتوقف عن عدوانه والسماح بإدخال صندوق المعونة، فسمعوا من أصحاب تلك القصور ما يسر، ولكنهم لم يفيدوهم بشيء.

     ومع اصفرار شمس الأصيل، وصل الإخوة قاع الوادي، فنظروا حولهم، فكانت القصور ضخمة، بخلاف ما رأوها من الأعلى، وأضخمها كان قصر كبير الشطار، ففضلوا أن يبدؤوا باستجداء أصحاب القصور الصغرى أولا لعلهم يقفون إلى جانبهم في إقناع "السيد الكبير" ليقوم بالتوسط لدى "الضبع"، ولكن أصحاب تلك القصور لم يفيدوهم بشيء أيضا، بل إن بعضهم أبدى تأييده الصريح للغازي!

     فتوجه الإخوة إلى قصر كبير الشطار، وعندما وصلوه كان الظلام قد حل، فوقفوا بباب القصر، وكانت أضواؤه مطفأة باستثناء ضوء ينبعث من حجرة تفضي إلى شرفته، فنظر الإخوة إلى تلك الشرفة، فرأوها عالية جدا، فوق قاماتهم بكثير، حتى خيل إليهم أنها توازي أعلى الوادي. في تلك اللحظات كان اليأس في نفوسهم قد بلغ مداه، والتعب قد تمكن من كل خلية من خلايا أجسامهم، وبلغ منهم الظمأ ما لا يمكن تحمله، فرفعوا أصواتهم بالحداء مستعطفين صاحب القصر:

     يا خلنا القديم، صديقنا الحميم

     جئناك بالبكاء، جئناك بالرجاء

     وأعظم الثناء، يا أيها الكريم!

     فسمع الإخوة صوت صاحب القصر - كبير الشطار - وهو يخرج من باب الشرفة قائلا: ما هذا الصوت المزعج؟ لا هو بالبكاء ولا هو بالغناء! وعندما أطل عليهم سألهم: أأنتم؟ ما بكم؟

     فرفعوا أصواتهم ثانية متوسلين:

     جئنـاك دامعيــن، جئنـــك آمليـــن

     أطفــئ حريقنــا،أغـــث شقيقنــــا 

     وازجر صديقنا، يا أبيض الجبين!

     فقال لهم: لا عليكم.. سأدرس طلبكم!

     فرفعوا أصواتهم مرة ثالثة:

     جئناك بالنحيـبْ، واللفـح كاللهيـبْ

     فلتسمـع النبــأ، قــد هدنــا الظمـــأ 

     فلتسق إن تشأ، يا خير من يجيبْ!

     فقال لهم: دونكم البئر، يمكنكم أن تشربوا قبل أن تغادروا، ثم دخل وأغلق باب الشرفة.

     فتوجه الإخوة سراعا إلى خرزة البئر المقابلة لمدخل القصر، متلهفين للماء، ورفعوا الغطاء، فوجدوا البئر فارغة، فقالوا وصدى صوتهم يتردد في أعماق البئر:

     يا قلبنا الحزين، لم يبق من معين

     نسيـر دون مــاء، بقلــة الرجــاء

     وغايـة الشقـاء، ونحـن يائسيـن!

     وكان الليل حينئذ قد أحكم سيطرته على الوادي، فنظروا باتجاه نوافذ القصر، لعل صاحب القصر يسمع حداءهم الأخير، فيطل عليهم مرة أخرى، ولكنه أطفأ النور الذي كان منبعثا من الحجرة المفضية إلى الشرفة، ونام.

     فتوجه الإخوة نحو مطلع المنحدر وصوتهم يتردد في الوادي:

     لم يبـق فينـا من أمل! لا نهتدي كيف العمل!

     ياذلنــــــا! يا لطمنـــا! ممـا أصــاب جمعنــا

     يا حسرة تضمنـــــــا، ها نحن عدنا بالفشل!

     وبدأ الإخوة البائسون بتسلق الجبل، بما تملكهم من اليأس، وسيطر عليهم من الحزن، وألم بهم من المهانة.

كان ضُباح الثعالب يلاحقهم من أسفل الوادي، وعواء الذئاب يستقبلهم في أعلاه! وكم تلاسنوا أثناء صعودهم البطيء المرهق، فبعضهم يتهم أخاه بمسابقته على الإمساك بحجر أو صخرة ناتئة يتعلق بها أو يرتكز عليها، وبعضهم يتهم الذي يعلوه أثناء التسلق بالتسبب بتدحرج حجر نحوه كاد أن يؤذيه، وما أن وصلوا أعلى الوادي حتى رمى كل منهم بجسمه على الأرض كقطعة من الحطب، ثم غطوا جميعا في نوم عميق..

     وعند شروق الشمس في اليوم التالي، فتحوا عيونهم، دون أن يقووا على الوقوف، وكان أخوهم "همام" ينتظر صحوتهم، وعندما رأى حالهم قال:

     عدتم بسوء حـال، يبـــدو بلا جــدال!

     قد زرتــم الخصيم، بمنطـــق عقيــــم

     والعون من لئيــم، شيء من المحال!

 فمر بهم شاعر البلاد وحكيمها، وهم على تلك الحال، فسأل أخاهم "هماما" عن خبرهم، فأخبره، فقال الشاعر الحكيم:

     لا يرتجى الحق المبين للحظــة

     بتوســـل للخصـــم والطعــــــان

     فالحق يطلب حين يسلب عنـوة 

     في ساحــة للحــرب أو ميـــدان!

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services