459
0
أزاهير على ضفاف حوار أستاذ الأجيال البروفيسور عمار طالبي
بقلم د. محمد مراح
أجرت صحيفة {بركة نيوز} الفتية النشطة حوارا مع أستاذ الأجيال البروفيسور المفكر الداعية المصلح عمار طالبي {23/5/2023}؛ ذاك أنه ــــــــ بحمد الله تعالى وفضله عليه ـــــــ طلابه يمتدون في طول الزمان اليوم إلى نحو الجيل الخامس أو السادس، وفي عرض ومدّ المكان أغلب قارات العالم في جامعاتها ومعاهدها . ولايكاد لقاء يجمع من مَرُّوابجامعة الأمير عبد القادر ما بين سنوات 1984 و1990، إلا وكانت ذكرى البروفيسور أحد مؤنسي اللقاء الوادع الحارّ الممتع .
جاءت أسئلة حوار الصحيفة هادئة سلسة، كأنما استلهمت شخصية وسمة الدكتور عمار طالبي ، ودار حول مسائل عدة ، وكشف عن جديد ، وبشر ببشائر لعلّ أبرزها مذكراته { خزان الذاكرة } في نحو 1300 كلمة، والتي يترقب لها أن تضيف للذاكرة الوطنية سيولا من الشهادات والوقائع التي سيكون لها أثرها في دراسة التاريخ الوطني ثقافيا وعلميا وفي الإصلاح الوطني؛ خاصة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عهديها الأول والأخير الساري، كذلك سياسيا ، وفي تاريخ الثورة، ومتقلبات الأحداث السياسية بعد الاستقلال إلى اليوم إن شاء الله تعالى .
ويشرفني وأنا أقف على ضفاف حوار أستاذنا شفاه الله وعافاه، أن أرمى ببعض الأزاهير في مجرى مائه العذب الصافي .
. زهرة {أ} يقول الدكتور :" كانت له [أي مالك بن نبي ] محاضرات كان قد ألقاها في دمشق، ولكن تم تضييعها ولم يتم جمعها".
فهل المقصود محاضرات غير محاضرات كتابه "مجالس دمشق" المطبوع المتداول؟ ربما فالبروفيسور طالبي أعلم وأدرى؛ لقربه الشديد اللصيق بالأستاذ رحمه الله، وسيكون من الفائدة الجمة لو يتسنى لفضيلته بيان المزيد.
والحقيقة أن رصيدا من نتاج الأستاذ بن نبي لا زال إما مفقودا أو مجهولا أو نُسي؛ فمثلا سمعتُ المفكر الدكتور رضوان السيد في حوار يتحدث عن مقالات كان ينشرها لمالك بن نبي في مجلة "فكر الإسلام" التي كانت تصدرها دار الفتوى في سوريا ، ويقول إني أجريت معه حوارا صحفيا جعلتُه افتتاحية للمجلة، وكان يتمتع بذكاء عجيب .فضلا عما يصدر حينا وحينا مما يكشفه المهتمون .
زهرة {ب} يقول البروفيسور طالبي حفظه الله ، في الجهود التي كانت تبذلها إدارة جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية عن افتتاحها واستقدام الأساتذة؛ نظرا لنقص المتخصصين الجزائريين في الدراسات الإسلامية:" جعلنا نستعين بأساتذة من مصر و السودان و السعودية".
بما أنني من طلاب الجامعة الأولين إلتحاقا بها؛ [دفعة 1984 ـــ 1988 ] ثم واصلت فيها مرحلتي الماجستير والدكتوراة، فلست أدري هل يعني أستاذنا الكبير من الأساتذة السعوديين الزائرين منهم عبد الله عبد المحسن التركي ؛ لأني لا أذكر أستاذا سعوديا متعاقدا جاء مدرسا فيها؛ ثم إن الجامعات السعودية في تلك الفترة لا تزال تعتمد على استقدام الأساتذة للتدريس في جامعتها ، ومنها الإسلامية .
وربما يعني أستاذنا طالبي زيارة الدكتورعبد المحسن التركي رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثم صار رئيس رابطة العالم الإسلامي لسنوات طويلة.
ومما أتذكره ويتذكره كثير من إخواننا أن الطلاب لم يستريحوا كثيرا لأطروحات الدكتور التركي؛ لوهابيتها وسعوديتها المفرطة، بينما الصحوة الإسلامية آنذاك في عنفوان تربيتها الفكرية والحركية المتعارضة تعارضا كبيرا عميقا، يطال كثير منها الجذور هنا وهناك .
زهرة {جـ} يقول أستاذنا عن بعض الإجراءات الجريئة لمسابقة زمن الجامعة الفتي في تهيئة أساتذة متخصصين :" كنت أقبل من تحصل على ليسانس في اللغة العربية وعلم الإجتماع للتسجيل فى ماجستير العلوم الشرعية"
بل قَبِلَ من يحمل شهادات علمية ؛ نذكر مثلا عميد كلية في باتنة ثم رئيس جامعة الشيخ العربي التبسي بعدئذفي تخصص علمي دقيق ، وكذا خريجا في البيولوجيا صار من أبرز الأستاذة وأكفأهم في كلية الشريعة بحامعة باتنة ، توفي رحمه الله في السنوات الأخيرة .
وللحقيقة التاريخية وجب التنويه أن القبول لم يكن على الشهادة الأصلية ليسانس فحسب بل اجتياز مسابقة كتابية وشفهية أمام لجنة كثيرا ما يرأسها الشيخ الغزالي رحمه الله والدكتور طالبي .
أما من أين لهؤلاء بالعلوم الشرعية ؟ بعضهم كان قد درس في معاهد التعليم الأصلي، فكانت له قاعدة في تلك العلوم، والعامل المباشر هو دور الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية المباركة في انتهاج منهج تربية و تكوين متكاملين، من أهم ركائزه سدّ ثلمة العلوم الشرعية التي سحقها الاستعمار ، باستثمار بعض إنجازات معهد ابن باديس وجمعية العلماء.
فجيل الصحوة يذكر في فتوته كيف كانت حلقات التكوين في العلوم الشرعية في مساجد الجامعات وغرف الطلاب، وخلال العطل في الجامعات والبيوت تُزْهرُ بالتكوين في العلوم الشرعية والفكر الإسلامي. وقد كان للوعي الذي أثمرته الصحوة في بدايتها اتقاد جذوة الغَرْفِ من علوم الشريعة الغراء؛ أعان عليه ذكاء طلاب ذاك الزمن ، وشيوع حب القراءة والإقبال على الكتاب مصدر المعرفة الوحيد ، فخرَّجت خطباء وأساتذة في غير جامعات، ملمين بعلوم الشريعة كأرقى ما يكون المستوى .أمّا تاج أجيال السبعينات أؤلئك فهو الإقبال على كتاب الله تعالى والتباري في حفظه .
زهرة {د} يقول أستاذ الأجيال عن جهده في جمع مادة كتابه الرائد عن الإمام ابن باديس وآثاره، الذي لا يسع كاتبا عنه عدم الاعتماد عليه:"وساعدني في ذلك علي شنتير" ! سبحان الله جنود الخفاء في تلك السنين الصعبة، لا تنقضي بطولاتهم؛ فلا نذكر نحن أجيال السبعينات للشيخ علي شنتيررحمه الله رحمة واسعة إلا دروسه التلفزية بوجهه المشرق وإبتسامته الصافية الحانية، ودروسه المؤثرة في كبار السن على الخصوص، لبساطتها وأسلوب طرحها .
ما أحوج وسائل إعلامنا وصحافتنا لإحياء أرشيفها وحفظه وإتاحته للجمهور؛ فسيتسنى لطلاب الدعوة والإعلام إنجاز مذكرات ورسائل تخرج في الإعلام الديني المتلفز مثلا عن الشيخين علي شنتير ومحمد كتّو رحمهما الله برحمته الواسعة الذي كان يُصَبِّح المسافرين في الحافلات بدروسه الحكيمة المؤثرة .
وقد لفت انتباهي السيد رئيس الجمهورية في حفل اليوم العالمي لحرية الصحافة الأخير ،حين أشار إلى إهمال المؤسسات الإعلامية والصحفية لتوثيق أرشيفها . ونَقَدَ عدم عناية الصحفيين بالرجوع للأرشيف في أعمالهم الصحفية والإعلامية. وهي مسألة في غاية الأهمية وتستحق الإهتمام بها وإثارتها .
زهرة {ه} أضيف لما ذكر أستاذنا حفظه الله ، في مسار استقدام الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى ، قول الرئيس الشادلي بن جديد رحمه الله للشيخ ،وحرية الدعوة في الجزائر، أضيف أن الشيخ رحمه الله قال :" إن الرئيس الشاذلي قال له : " أريد إقامة أزهر مثل الأزهر هنا في الجزائر أيضا"، وكذا لما قال له شيخنا رحمه الله :" إني أدرّس في قطر" ، قال له الرئيس رحمه الله:" كيف تدرس للآلاف هناك ، وتترك ثلاثين مليونا هنا " فقال الشيخ "خرست ما قدرتش أقول حاجة "، لهذا كان الشيخ يقول :" إن الشاذلي سيبعث و وجهه أبيض يوم القيامة" أمين يارب العالمين .
زهرة {و}. من أدب الدكتور طالبي تجاوزه في الحوار بالحديث عن أخطر أزمة عرفتها الجامعة الإسلامية، ألا وهو أكبر إضراب شنه طلابها ، عارضوا بعض التجديدات كما ورد في الحوار، وقد تطور الإضراب إلى اعتصام خطير في الجامعة، واحتلال مكتب رئيسها عمار طالبي، وطالبوا برحيله، وقد تنحى فعلا الدكتور عن منصبه ، وقد أثر الأمر تأثيرا عميقا عبّر عنه في مقالته: " الشيخ الغزالي كما عرفته في الجزائر"ضمن مجلد2 [عدد 7 (1997)] من مجلة إسلامية المعرفة ،أصدره المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشطن بعد وفاة شيخنا الغزالي رحمه الله يضم مجموعة دراسات لقمم فكرية وعلمية عن الشيخ رحمه الله تعالى [ نسخة مرفقة لكم ] ،
الحق أن ذاك الحدث كان انتكاسة للجامعة الإسلامية لا تزال تعاني من بعض أثارها إلى اليوم، وإخواننا الطلاب والطالبات في الغالب الأعم من خير من أنجبت جامعتنا، كانوا مدفوعين بحماسة الشباب، والغيرة على الجامعة التي كانت لهم مشعل النور و الهداية الذي أطفأه الاستعمار، فيبدو أن حبهم للإسلام وشريعته استثمر فيه بعض من فشلوا في منع فتح الجامعة كما ذكر أستاذنا الدكتور طالبي، وكثيرين كانوا يتحينون فرص اللقاء مع أستاذ الأجيال للإعتذار منهم.
، وقد عبر عن المأساة شيخنا الغزالي رحمه الله في محاضرته التاريخية بعد الإضراب المؤسف التي اصطلحنا على تسميتها بــ "محاضرة المغادرة" وهي وثيقة تاريخية فكرية ودعوية من أرقى ما عرف المسار الدعوي الإسلامي من وثائق الفكر والتوجيه والتحليل والتقييم.
وقد غادر شيخنا رحمه بعد أن أقعده المرض، ورحل أستاذنا البروفيسور طالبي فعاد هنا للعاصمة ، ثم ما لبث حتى التحق بكلية الشريعة في جامعة قطر التي ترك فيها أثرا مذكورا وجدناه هناك لدى بعض من عاصره فيها ؛ فقد كان أحد موظفي مكتبة جامعة قطر القدامى كلما التقيت به وهو لا يزال على رأس عمله فيها، يحدثني عن إعجابه الكبير بأستاذنا عمار طالبي ، خاصة أنه كان جاره في السكن الممنوح للدكتور ، وعن همته العالية وهو يسعى نشيطا للصلاة في جامع عمربن الخطاب الشهير في منطقة الغرافة ، ويحدثني عن أناقة الدكتور ودماثة خلقه .
وللتاريخ والحق فإن طلابا كُثْرا من تلك الحقبة قد وعوا البعد الخاطئ
في المسألة، وكثيرين أيضا كانوا يتحينون فرص اللقاء مع أستاذ الأجيال للاعتذار منه .
ذكريات شجية والله . نسأل الله تعالى الشفاء لأستاذ الأجيال ، والعودة للنشاط الذي لازمه مذ عرفه الناس في الشأنين العلمي والعملي الدعوي العام .