628
0
أثر الحرب النفسي بين تخزين الصدمات ودورالأمل كعامل إنقاذ

بقلم : هند جودة
في ضوء أو عتمة ما نراه من مشاهد الحرب المروّعة في غزّة ومواجهتنا أو هروبنا من فكرة تخيّل مشاعر الضحايا الناجين –غير الميتين- من أثر هذا الضغط الهائل على النفس والجسد، قد يهرب البعيدون، إذ استطاعوا أن يغلقوا الشاشات! ولكنّ هناك من لا يستطيعون الهرب لأنهم في جغرافيا المذبحة، الضحايا المباشرون لإرهاب الاحتلال وحروبه، السابقة منها وبالطبع الحالية التي تعدّ الأفظع على الإطلاق –فلسطينيا-، وربما إنسانيا، ونحن نفترض ذلك نظرا لأننا لم نشهد ما حدث في تفاصيل النكبة الأولى عام 1948 والتي نعرف مآسيها سماعيا وليس من سمع كمن رأى! كما أننا لم نشهد ولم نشاهد أيضا ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية مع احتواء الأخيرة على استخدام القنابل النووية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لأول مر عالميا وما أحدثته تلك القنابل في هيروشيما ونجازاكي التي يمكننا الجزم أنها الأفظع فعلا –عالميا- على مستوى وحشية الفكرة وفداحة الأثر.
يعمل الانتشار الهائل للصورومقاطع الفيديو التي تخرج من غزة على جعل الفظائع وجبة يومية تنبثق من الهواتف والفضائيات الإخبارية وتنسكب في عيوننا وأطباق طعامنا وأجهزتنا النفسية والعصبية، لتتصادم مع هواجسنا وخيبتنا من الإنسانية كفكرة ومن الإنسان كمسؤول عن ارتكاب الجرائم منذ أبناء آدم الأوائل ومن بعدهم جيلا وراء جيل حتى يومنا هذا!.
بينما تستمر الأمور الشنيعة في الحدوث، تفترض أن كل شيء سينهار لكنه لا يفعلالاكتئاب لا يجدي،الغضب لا يقتلك، الانهاك لا يبدو كافيا ولا القهر ..
"في لحظة عليك ان تنفصل نفسيا لتحتمل ما يحدث كأنك تشاهده من خلف زجاج، هذا الشعور المخادع بأنك ما زلت حيّاً، تخزّن الصدمات لكنها لا تنمحي أبدا، إنها تنتظرك في الداخل لتعبر عن نفسها بطريقتها الخاصة..." - ستيفاني فو.
تفاجؤنا الصدمات النفسية بالحصول حين تتوفر أسبابها في أوقات السّلم وتكون غالبا بفعل العنف السلوكي أواللفظي أوالجنسي في كلّ البيئات المتوقعة وغير المتوقعة، لكنها تكون بذلك صدمات شخصية يحملها بعض الأفراد مما يحدّد انتشارها وربما إمكانية علاجها والتعامل معها، ولكن هناك أنواع أخرى من الصدمات تتكون بشكل جماعي، أيّ في مجتمعات كاملة بفعل الكوارث البيئية أو الحروب، مما يعني حدوث أذى عام لا يفرّق بين مرحلة الطفولة أوأيّ من مراحل عمر الإنسان، لأنّها بمجرد حدوثها تنتهك الأمن الشخصي والعام للواقعين تحت الأزمات كمجتمع كامل
وإذ تعدّ الصدمات النفسية من أكثر قضايا الصحّة العامة إشغالا في العالم خاصّة عند المتخصصين في هذا المجال من علماء وباحثين وأطباء ، فإنه وبناءً على ذلك، لا تتوقف الدراسات والأبحاث والتأمل والمفاجآت بهذا الخصوص، فمن الأثر التدميري للصدمات في صناعة المجرمين أو المنتحرين أو السلبيين إلى التسامي والإبهار بطرق التعافي وما يحققه عمل الجهاز النفسيمن معجزات للتخطّي والتجاوز بل وربما تحقيق الإبداع في مجالات الحياة المختلفة
ولكن، كيف تختلف نتائج الصدمات من كونها قد تحفر مثل جذرعميق يتسبب في تشقق النفس وتحطيم الحياة عن احتمالات أخرى تعمل فيها على أن تقوّي ولا تكسر، وتبني المستقبل دون هدم الإنسان بل أنها حتى في بعض الأحيان قد تجعله يشعر بالمعنى الأعمق لوجوده؟ وبذلك يكون قد اكتشف مواطن سوء أو بشاعة الحياةونقلها بوعي أو دون وعي إلى مناطق صلاحه الذاتية أو جماله!
لاشكّ أن ذلك يعتمد على الفروق الفردية بين البشر ولذلك فمن المهمّ أن نتأمل ونتعمّق في ما وراء الصدمات البسيط منها والمعقدّ كي نحاول الفهم، حيث أن الفهم ومعه الوعيّ يعدّان من أهمّ أدوات النضال في سيرورة العذاب الإنساني في رحلة حياته وكلّ أشكال مطبّاتها المباغتة.
نشر طبيب نفسي يدعى أبرام كاردنير كتاباً حمل عنوان"العصاب الصادم للحرب" عن الجنود الناجين في عام 1941 ضمّ الكتاب ملاحظات حول قدامى المحاربين في الحرب العالمية الأولى حول صدمة التعرض للقذائف والنجاة، مما لاحظه كاردينير على الجنود الناجين كان تغلّب شعور عدم الجدوى على مرضاه، إذ أصبحوا منفصلين ومنسحبين، ويميلون للعزلة وأن مرضى الصدمات هؤلاء يطورون يقظةً وحساسية مزمنتين تجاه التهديد، ويرى أن كرب ما بعد الصدمة ليس كله في رأس المرء وأن أصل الأعراض يرجع إلى استجابة الجسم بالكامل للصدمة الأصلية... ويقول أيضا : أعظم مصادر معاناتنا هي الأكاذيب التي نقولها لأنفسنا" إن مواجهة الواقع بعد انتهاء الحروب هي التحدّي الأكبر الذي يلاقيه الخارجون من أتون المعارك، ولذلك نجد أن هناك من ينهار تماما مقابل من يستطيعون متابعة حياتهم.
يبرز دور مهمٌ للخيال كما يؤكد د. فان كولك في كتابه "جسمك يتذكر كل شيء" إذ يقول: يمنحنا الخيال الفرصة لتصوّر إمكانات جديدة،إنه منصة انطلاق لجعل آمالنا تتحقق، يحفز إبداعنا، ويخفّف مللنا، ويسكّن آلامنا، ويعزّزُ لذّتنا، ويثري علاقاتنا الأكثير حميمية... من دون خيال لا يوجد أمل، ولا فرصة لتصوّر مستقبل أفضل، ولا مكان نقصده، ولا هدف نصل إليه.
بالنسبة إلى معظم الناس، تتلاشى ذكرى حدث غير سار في النهاية أو تتحوّل إلى شيء غير خطر، لكن معظم المصابين بالصدمات لا يتمكنون من تحويل ماضيهم إلى قصة حدثت من زمنٍ بعيد، مما يعني الإصرار على الحفاظ على ذاكرة الحدث واسترجاعها، كنوع من الشعور الوحيد المركزي الذي يختارونه ليصبح مركز الشعور.
ما يسبب الأزمات النفسية إذن هو عدم القدرة على سدّ الفجوة الزمنية بين التجربة الصادمة والحياة الحالية
ينتج عن الصدمات إعادة تنظيم أساسية للطريقة التي يدير بها العقل التصوّرات، لا تغيّر الصدمات فقط طريقة التفكير وما نفكر فيه، ولكن أيضا القدرة على التفكير، يحتاج الجسم إلى معرفة أن الخطر انتهى في حال انتهائه ، أو أنه آمن على الأقل من التعرض للخطر وبالتالي عليه التصرّف بدون توتّر مثلا واتخاذ وضعيات نفسية أو جسدية دفاعية، التعافي يأتي عبر تفكيك البصمة التي تتركها التجربة القاسية على العقل، والجسم. لأن تلك البصمة لها عواقب مستمر على كيفية تمكّن الجهاز العضوي البشري من النجاة وقت الخطر ودوما! إذ أن الوظيفة الأكثر اهمية للدماغ تتمثّل في ضمان نجاة الإنسان، حتى في ظلّ أكثر الظروف بؤسا.
تحدث النجاة كنتيجة بعد توليد شبكات من الإشارات العصبية منذ بداية الحياة في فترة الطفولة وتتراكم الخبرات لتحديد حاجات الجسد من طعام وراحة وحماية، بالتزامن مع ذلك تنشأ خريطة للأماكن أو الأشخاص الذي عليه الذهاب إليه من أجل تلبية الاحتياجات مترافقا مع ذلك ماتحتاجه العمليات من توليد الطاقة والافعال او السلوك اللازم للوصول إلى الاماكن والاشخاص مع الانتباه للاخطار على طول الطريق الذي قد يشتمل علىحصول الخيبات أيضا، وبناء على ذلك كلّه يتكون السلوك وتنسج العلاقات مع البيئة، عند تهديد ذلك كله كما يحدث في غزة الآن، تتكون الصدوع وتبعا لذلك البناء المحكمتحدث المشكلات النفسية عندما تتعطّل تلك الإشارات الداخلية وتضطرب البيئة أو يتم تحطيمها والعبث في ترتيبها المألوف والمعتاد.
يلعب الخيال ومثله الوهم دورا مهما في تعطيل الشعور بالخطر في وقت وقوعه، قد يعمل التبلّد الشعوري أيضا على نتيجة مشابهة، وقد يكون الهرب إن كان متاحا استجابة طبيعية وهي الأكثر شيوعا، إن تعذّر الهرب، فإن الجسم يتّخذ وضعيات معينة كإحناء الظهر أو إغلاق الأذنين عن سماع صوت القصف، مع الوقت واستمرار الخطر، قد يتوصل الانسان إلى نتيجة مفادها أن الانفجارات البعيدة غير مؤذية، وأنه ما زال بعيدا عن احتمال الأذى المباشر فيبقى إلى حد ما محافظا على بعض التماسك لكن ذلك كلّه قد تفقد القدرة عليه في حال صار صوت الانفجارات أعلى من أيّ وقت سابق، كلّ تلك أدوات نفسية لا إرادية يتم تفعيلها داخل الأشخاص المتعرّضين للخطر كحيل نفسية للتمكن من تحمّل كل تلك الضغوط التي لا تحتمل خاصة مع عدم وجود مناطق آمنة، ما يُبقي الجميع في قلق مستمرّ ولا أظنّ أن ذلك شيء عبثي أو غير مدروس يقوم به الجيش الاحتلال، بل هو يقصد أن لا يشعر سكان غزّة بالأمان لأن ذلك ينتفي مع أحد أهم أهداف الحروب وهي الترهيب الذي يُراد له أن يؤدي إلى الإخضاع.
يبرز الأمل في عتمة كلّ ذلك الأسى كدافع وحيد لمواصلة الحياة وانتظار يوم جديد، وما في ذلك من انتظارالخلاص، لكن يبدو الأمر صعبا أو مستحيلا حين لا تكون هناك مدّة زمنية واضحة لنهاية العذابات، يفاجؤك الأمل مرّة أخرى حين ينبع من القوة الداخلية والهدف المرجو من استمرار الحياة،فربما يكون وجود أبناء أو والدين، وجود حبيبة أو زوجة سببا أو أسبابا كافية للتمسّك بالنجاة ، الحقّ في الحياة نفسه والإيمان بأنه لا يجب أن يكون من حق أحد أن يسلبك ما منحه الله ، انتظار العدالة، الشعور بأنّك مرئي بما يقدمه تضامن عدد هائل من شعوب العالم رغم الإحباط من مواقف الأنظمة واكتفائها بالتعليق والادانة لأن التصويت في مجلس الأمن الداعي لوقف الحرب مثلا ما زال يوقفه الفيتو الأمريكي !.
ويبقى الدافع الإيماني طريقة مهمة لمكافحة اليأس أو الاستسلام لعدمية الظروف وهو يلعب دورا مهما في احتمال المأساة، فتجد أنّه يعزّز ذلك الأمل بتحقق العدالة ذات يوم وأنّ الحساب لكلّ هذا الظلم قادم لا محالة!.
لا أتصوّر كيف ولا كمّ ما يمكن أن يكون مجديا وضرويا تقديمه من الحلول النفسية الداعمة التي يجب أن تقدّم لمجتمع غزّة بعد توقف هذه الإبادة الجماعية التي تبدو بلا نهاية فيتعذّر بذلك التفكير بالتعافي ويبدو الحديث عنه ترفاً ولكنه الأمل ما يجعلنا نفكّر في الحديث عن ما بعد انتهائها لأنها من غير الممكن أن تستمرّ إلى الأبد، لم يحدث ذلك سابقا ولن يحدث الآن.
على آلة القتل والهدم والقلع أن تتوقّف ليتمكن الناس من التقاط الأنفاس واستعادة شكل الحياة المعتادة حتى مع آثار الحرب في الأماكن والنفوس والأجساد في هذا الخراب العميم، لكن ما يبنى عليه أن الإنسان بكل تركيبته النفسية تمّت تهيئته ليتعافى في الغالب الأعم ، تلك هندسة إلهية لا شكّ فيها، وقد أثبتت نتائج حروب سابقة أن غياب الخطر كفيل بذلك التعافي المأمول واستعادة الحياة الطبيعة، وتبقى الانبثاقات الصغيرة التي تصدر من مبدعين في غزة أو حتى أناس عاديين ابتكروا بعض الطرق للاستمرار والتعامل مع شحّ المواردولم يستسلموا للظروف القاهرة على قلّتها محفزّة للأمل وهي تدفع وتجعل التفكير بشكل إيجابي ضرورة لابدّ منها بأن بعد هذه الأيام القاسية وجهٌ آخر للحياة سيظهر، وبعد الموت الجماعي والمعاناة الوحشية عبر العبث بحاجات الناس الأساسية وتدمير بيوتهم وأمنهم الشخصي والعام وكل تلك الخرائط التي يتمّ نشرها لخطط النزوح لتثير الفزع فتثيره حقّاً، ولكننا نريد أن نفكّر بما بعد كلّ ذلك، نريد أن نحلم بأيام مختلفة يمكن للفلسطيني في غزّة وحتى في الضفة أن يعيشها بسلام دون تهديد في الشارع والبيت ولقمة العيش، لأنّ كلّ ذلك هو حقّ طبيعي وكلّ سلبٍ له أو حرمان منه هو اعتداء صريح على الله والإنسان.
إنه الأمل هو ما يحرّكنا ويجعلنا قادرين على المواصلة إذن وحتى لكتابة هذه الكلمات التي ترجو غدا أفضل وتعوّل على قوة الإبهار التي سينبع من التعافي حين تتوقف المذبحة، الأمل بأنّ ينتهي هذا الكابوس البشع لينجو ما تبقى من الإنسانية والإنسان في هذه الأرض الحبيبة التي لم يغادرها الحزن والخيبات منذ وقتٍ طويل لكن يبقى الأمل الذي يجسّده دوما هذا الشعب وحيويته الفارقة والمدهشة حتى في أقسى لحظات اليأس.