403
0
"أمومة تحت الركام: الطبيبة آلاء النجار تستقبل جثامين أطفالها السبعة في مستشفى ناصر بخان يونس"

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في مشهدٍ يفطر القلوب، ويلخص عمق المأساة التي تعصف بقطاع غزة، وقفت الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار – طبيبة أطفال في مجمع ناصر الطبي بخان يونس – تستقبل جثامين فلذات كبدها السبعة، واحدًا تلو الآخر، وهم يُنقلون إلى قسم الاستقبال الذي لطالما شهدت فيه ولادة الحياة، لا موتها.
لكن هذه المرة، لم تكن في مهمة لإنقاذ أرواح الآخرين، بل وجدت نفسها في حضرة أبنائها الشهداء، بعد أن قضوا في قصف صهيوني غادر استهدف منزلها وأحال أحلامهم الصغيرة إلى ركام.
الطبيبة آلاء النجار لم تُمنح حتى لحظة لوداع أطفالها كما تفعل الأمهات في الظروف العادية، بل استقبلتهم بأسمائهم، وجراحهم، وملابسهم المغبرة بالركام، وعينيها الممتلئتين بألم يعجز عنه الوصف. سبعة أرواح بريئة، أكبرهم لم يتجاوز الثانية عشرة، كانت آلاء قد ربتهم بحب، واعتنت بصحتهم كما كانت تفعل مع كل أطفال غزة. لكن آلة الحرب لم تفرّق بين جندي ومدني، بين مقاتل وطفل، فابتلعت العائلة بأكملها تحت أنقاض المنزل المستهدف.
الأسماء محفورة الآن في ذاكرة من عرفوا هذه العائلة، وفي قلب أمٍ ما تزال تبحث في وجوه من حولها عن تفسير لما حدث:
يحيى. ركان . رسلان . جبران .إليف .ريفان سيدين حمدي النجار
سبعة أطفال، لكل منهم وجه، وابتسامة، وحلم صغير ربما كان عن مدرسة جديدة، أو لعبة يحبها، أو مهنة يتمنى أن يعمل بها حين يكبر. لكنهم الآن مجرد أرقام في تقارير الشهداء، وضحايا جُدد يضافون إلى قائمة لا تنتهي من الأطفال الفلسطينيين الذين حصدتهم آلة القتل الإسرائيلية، في واحدة من أكثر الحروب دموية على قطاع غزة.
آلاء لم تكن طبيبة فقط، بل كانت مثالاً للأم التي تعمل لأجل الحياة، في بقعة يُطلب منها الصمود دون شكوى. كانت تعالج الأطفال، تخفف من آلام الأمهات، تسهر مع مرضاها، وتعود إلى منزلها حاملةً وجع غزة بأكمله، لتجد الراحة بين أبنائها السبعة. لكن الاحتلال لم يترك لها شيئًا. فقدت الأمومة، والدفء، والركن الذي كانت تعود إليه بعد كل نوبة عمل مرهقة.
الوجع الذي عاشته الطبيبة الغزية ليس شخصيًا فقط، بل هو تجسيد لحال آلاف الأمهات الفلسطينيات، اللواتي فقدن أبناءهن في لحظة، دون مقدمات، ودون حتى القدرة على وداع لائق. فالحرب على غزة لا تكتفي بقتل الجسد، بل تُمعن في اغتيال الروح، وتدمير تفاصيل الحياة، وبعثرة ما تبقى من أمل في عيون الأطفال.
مشهد استقبال الجثامين في مستشفى ناصر لم يكن عادياً، فالطاقم الطبي الذي يعمل مع آلاء وقف مذهولًا، عاجزًا عن المواساة. كيف تواسي أمًا في لحظة كهذه؟ كيف تقول لها "اصبري" وأنت تعلم أن كل شيء فقد معالمه؟ كان الحزن يخيّم على المكان، والدموع تتساقط بصمت، في مشهد يحاكي المأساة الأكبر التي يعانيها شعب بأكمله.
هذه الجريمة، وغيرها من الجرائم المتكررة، تضع العالم أمام تساؤلات أخلاقية كبرى. كيف يُترك شعب بأكمله فريسة لآلة حرب لا ترحم؟ كيف تُغضّ العواصم الكبرى النظر عن مشاهد المجازر بحق المدنيين؟ ولماذا يُعامل أطفال غزة كأرقام عابرة، لا كأرواح تستحق الحياة؟
في وداع أطفالها، لم تبكِ آلاء فقط، بل بكت غزة معها، بكى الطواقم الطبية الذين باتوا يجرحون في الصباح ويشيعون في المساء، بكى الآباء الذين يخافون على أبنائهم من قذيفة طائشة أو قصف مفاجئ، وبكت الأمهات اللواتي بتن يتهامسن كل مساء: "من الدور القادم؟".
إن قصة الطبيبة آلاء النجار هي واحدة من آلاف القصص في غزة، لكنها تختزل وجعاً مركباً: أمٌ ثكلى، وطبيبة مغدورة، وإنسانة فقدت معنى الأمن. هي حكاية جرح فلسطيني لا يندمل، لكنها أيضًا شهادة حيّة على صمود هذا الشعب، الذي رغم كل الألم، لا يزال يبحث عن الحياة وسط الموت، وعن الأمل وسط الأنقاض.
في زمنٍ يتسابق فيه العالم لصناعة الذكاء والتطور، تقف غزة وحيدة، تدفع ثمن صمت العالم، بثمنٍ باهظ: حياة أطفالها.