686

0

الطرز التقليدي بتقرت ... أنامل الحرفي مداح تنسج تاريخ الصحراء عبر الأجيال

 

في صحراء الجزائر الواسعة، وتحديدًا في ولاية تقرت، تظل حرفة الطرز اليدوي رمزًا عريقًا يروي قصصًا من التراث والإبداع حيث تميزت بخصوصيتها وجمالياتها الفريدة، ومن بين الحرفيين الذين أضفوا لمسة جديدة على هذا الفن التقليدي، نجد نصر الدين مداح، الذي جمع بين شغفه بالتراث وحسّه العصري لتطوير الطرز التقليدي وإدخال لمسات معاصرة عليه.

مريم بوطرة  

تُعد حرفة الطرز التقليدي في تقرت من بين الحرف التي صمدت أمام التغيرات والتطورات التكنولوجية، حيث لا يزال العديد من الحرفيين في هذه المنطقة الصحراوية يلتزمون بالحفاظ على تقاليدها و يحرصون على تطويرها.

بالنسبة لنصر الدين مداح، أكد لنا أن  الشغف بالطرز التقليدي ليس مقصورًا على جنس أو عمر معين، بل هو قيمة يشاركها كل من يسعى لإتقان هذه الحرفة وتطويرها.

طراز تقرتي يعبر عن التراث والشغف في عمق الصحراء 

بدأ نصر الدين مداح رحلته مع الطرز التقليدي من حبه العميق للصناعة اليدوية التي تنتمي إلى ثقافة منطقته على الرغم من دراسته للإعلام الألي ، لم يكن الشغف بالفن التقليدي مجرد هواية بالنسبة له بل كان هو المحور الذي شكل مسيرته المهنية.

 يتذكر مداح كيف أنه منذ صغره كان يتابع بفخر وتقدير الإبداعات التي تنبض بها الحرفة التقليدية في تقرت، مما دفعه إلى التعمق فيها وتعلم فنون الطرز بأدق تفاصيلها.

 الطرز التقليدي...خصوصية وتفرد

“حب الفن التقليدي هو الذي دفعني للاستمرار في هذا المجال،” يقول مداح. كان يطمح إلى توظيف لمسته الخاصة في الطرز التقليدي، معبراً عن رؤيته لإضافة لمسات عصرية دون المساس بجوهر الحرفة التقليدية سعيا منه ابراز فن منطقته ورغبته في الحفاظ على أصالته وتجديده.

تتجلى خصوصية الطرزالتقليدي لولاية تقرت حسب محدثنا في التفاصيل الدقيقة التي تميز أزياء المنطقة، مثل البرنوس التوقرتي، الذي يعتبر من الأزياء الأساسية في تقرت مثله مثل أزياء الولايات الأخرى كالملحفة الشاوية أو البرنوس العاصمي،  وأضاف ذات المتحدث أنه تكمن ميزة الطرز التوقرتي في أسلوب الطرز الفريد الذي يبرز الألوان والتصاميم التقليدية بلمسة متجددة.

في ذات السياق، أوضح مداح أن الطرز التقليدي لم يكن يحظى بدراسة منظمة أو منهجية قبل ظهور "الأخوات البيض"، هؤلاء الحرفيات البارزات، اللواتي أسسن مركز الطرز التقليدي في عام 1923، كان لهن الفضل في تنظيم وتحديث هذه الحرفة.

وبفضل جهودهن، تم إدخال تقنيات وأساليب جديدة عززت من جودة الطرز التقليدي وجعلته أكثر احترافية ومن خلال هذا التطوير، أصبحت نساء تقرت الآن يتلقين تعليمهن في معهد الأخوات لمدة أربع سنوات، حيث يدرسن أصول الحرفة بشكل منهجي يتوافق مع المعايير الحديثة، مما مكنهن من إنتاج أعمال فنية ذات جودة عالية.

 تحديث  الطرز وألوانه  دون المساس بجوهره

في السنوات الأخيرة، شهدت الأزياء التقليدية اهتمامًا متزايدًا من قبل الشباب، الذين أصبحوا يفضلون الدمج بين الطابع التقليدي واللمسات العصرية، وفي ذات الصدد أكد مداح أن هذا التوجه نحو الأزياء التقليدية يعكس اهتمامًا واضحًا بالألوان والتصاميم الحديثة، مما دفع الحرفيين إلى تحديث الطرز التقليدي دون المساس بجوهره.

وأضاف أن الشباب ينجذبون إلى الأزياء التقليدية بفضل جودتها وأصالتها، ويعكس هذا الانجذاب الوعي المتزايد بأهمية التراث الثقافي ورغبة الجيل الجديد في الحفاظ عليه وتحديثه بطرق تتماشى مع الذوق العصري، وأصبحوا يفضلون الأزياء التقليدية ذات الجودة العالية، المصنوعة يدويًا، على حساب الخيارات السوقية.

 وبالحديث عن عملية صنع هذه الألبسة، أوضح مداح أن إنتاج قطعة واحدة يتطلب وقتًا طويلاً، قد يمتد من شهرين إلى ستة أشهر، يتطلب هذا العمل تكريس جهد بدوام كامل، حيث يواجه الحرفيون صعوبات عدة، مثل نقص المواد الأولية التي توجد في مناطق بعيدة عن الورشة، بالإضافة إلى ندرة اليد العاملة في النسيج، حيث تشارك النساء الكبيرات في السن في هذه المهمة.

وأشار محدثتنا إلى أن العمل على قطعة واحدة يستدعي تعاون مجموعة من خمس أو ست نساء، حيث يتشاركن في مختلف مراحل الإنتاج من النسيج والطراز إلى الرسم والغسل و كل خطوة من هذه الخطوات تتطلب دقة ومهارة، مما يعكس التزام الحرفيين بالحفاظ على جودة الطرز التقليدي وتحسينه بمرور الوقت.

التحديات والصعوبات

على الرغم من النجاح الذي حققه مداح في تحديث وتطوير الطرز التقليدي، يواجه هذا الفن تحديات عديدة، من بين أبرز هذه التحديات صعوبة الحصول على المواد الأولية مثل الصوف، ونقص اليد العاملة المؤهلة، حيث بات يقتصرعمل هذه المهنة على  النساء الكبيرات في السن في صناعة النسيج والطرز، مما يجعل العملية تعتمد على عدد محدود من الحرفيات.

وعن دلالات الألبسة، أبرز أن كل قطعة تحمل رموزًا تشير إلى مناطقها وتفاصيل ثقافية مميزة تعكس هوية المنطقة. فالألبسة المطروزة يدويًا تتميز بأشكال ورسوماً توحي بعراقة وتفرد كل منطقة، وقد تحمل أسماء أماكن أو مدن، أو دلالات ثقافية خاصة.

 وفيما يخص التسويق والترويج، أكد مداح أن جودة المنتجات والطابع الفريد للطرزالتقليدي قد حقق له نجاحًا ملحوظًا سواء محليًا أو دوليًا. فقد تمكن من تسويق منتجاته في المعارض الدولية مثل تونس والمغرب وميلانو، حيث لقيت الأزياء التقليدية صدى إيجابيًا في الأسواق العالمية.

ونوه إلى أن الترويج الفعّال لهذه الأزياء يتطلب تنظيم معارض فنية والتعاون مع السفارات والدبلوماسيات لتوسيع نطاق الانتشار، كما أشاد بالمبادرات التي تهدف إلى التعريف بالفن والحرف الجزائرية، معتبرًا إياها خطوة مهمة نحو تعزيز التراث الثقافي وحمايته.

 المستقبل والحفاظ على الهوية

ينظر مداح إلى المستقبل بتفاؤل، معتقدًا أن الطرز التقليدي سيظل جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية للمنطقة، حتى مع التغيرات العصرية مشيرًا إلى أن الملابس التقليدية، رغم التحديثات، تحتفظ بقيمتها وجاذبيتها بفضل جودة المواد المستعملة وأصالتها.

 وجدد التأكيد على أن العصرية لم تلغِي التقليدي، بل يبقى قرار الشراء مرتبطًا بالقدرة الشرائية للمواطنين، حيث قد تكون الأزياء التقليدية أكثر تكلفة بسبب جودة المواد وأصالتها.

وفيما يتعلق بمسألة سرقة الأزياء التقليدية، يرى مداح أنه لا توجد سرقة، بل يتم الاستلهام من مصممين معينين، وتبقى اللمسة الفردية هي التي تصنع الفرق.

وبالنسبة للرقمنة، أيد الحرفي بشدة استخدامها لأرشفة الموروث والحرف، وأضاف أن جميع الأعمال في ولاية تقرت موثقة ومأرشفة بشكل جيد، من الرسوم والنماذج إلى تقنيات الصنع، مما يعزز الحفاظ على الهوية الثقافية.

من خلال جهود هؤلاء الحرفيين في مختلف ولايات الوطن، ساهموا بشكل كبير في كتابة فصل جديد في تاريخ الطرز التقليدي، معززين بذلك قيمته وجاذبيته، ليس فقط في الجزائر، بل على مستوى العالم.

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services