29
0
الذاكرة حين تصبح قانونًا

بقلم الحاج بن معمر
في لحظةٍ تتجاوز حدود الجلسات البرلمانية العادية، وتعلو فوق منطق اللحظة السياسية العابرة، قدّم المجلس الشعبي الوطني اقتراح قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر، ليضع الذاكرة الوطنية في قلب التشريع، ويحوّل التاريخ من مادةٍ للسرد إلى أداة سيادية للمساءلة.
لم يكن المشهد عابرًا، ولا الخطاب تقليديًا، بل بدا وكأن المؤسسة التشريعية قرّرت أن تتكلم باسم قرنٍ وثلث قرن من الألم، وأن تقول ما ظلّ مؤجَّلًا في الصدور: إن الاستعمار لم يكن “مرحلة”، بل جريمة دولة، وإن الجرائم ضد الإنسانية لا تُغلق ملفاتها بالصمت ولا تُغفَر بتقادم الزمن.
اقتراح القانون، الذي قدّمه رئيس المجلس الشعبي الوطني السيد إبراهيم بوغالي، لم يُطرح بوصفه ردّ فعلٍ سياسي أو ورقة ضغط دبلوماسية، بل كفعل وفاءٍ للتاريخ، وتجديد عهدٍ مع الذاكرة، ورسالة واضحة مفادها أن الجزائر، وهي تبني حاضرها بثقة، ترفض أن يُطلب منها نسيان ماضيها أو التخفيف من فظاعته. فالذاكرة هنا ليست عبئًا، بل أساسًا أخلاقيًا وقانونيًا لبناء دولة متصالحة مع ذاتها.
من الذاكرة الجريحة إلى النصّ التشريعي
يرى مؤرخون جزائريون أن ما حدث داخل قبة البرلمان يمثّل لحظة مفصلية في مسار التعامل الرسمي مع الذاكرة الاستعمارية. فالتاريخ الجزائري، المجبول بالمقاومة والدم، ظلّ حاضرًا في الخطاب السياسي والثقافي، لكنه اليوم ينتقل إلى مستوى أعلى: مستوى الإلزام القانوني. ويؤكد باحثون في تاريخ الجزائر الحديث أن تحويل الجرائم الاستعمارية إلى مواد قانونية يقطع مع منطق “التذكير الرمزي”، ويؤسس لذاكرة مؤسساتية لا تخضع للأمزجة ولا لتقلبات الظرف السياسي.
مؤرخون متخصصون في تاريخ الاستعمار الفرنسي يرون أن تعداد الجرائم، من الإبادة الجماعية إلى النفي، ومن مصادرة الأرض إلى محو الهوية، ليس مجرد استعراض للمآسي، بل تفكيك ممنهج لبنية الاستعمار كجريمة متكاملة الأركان. فالاستعمار، في قراءتهم، لم يكن انحرافًا عرضيًا، بل سياسة دولة قائمة على العنف المنظم، والتجريد من الإنسانية، وإعادة تشكيل المجتمع بالقوة.
ومن هنا، فإن تجريمه قانونيًا يُعيد ترتيب العلاقة بين الجزائر وماضيها، ويضع حدًا لمحاولات التهوين أو التبرير التي رافقت الخطاب الاستعماري لعقود.
ردود الفعل الأكاديمية اعتبرت أن هذه الخطوة تعيد للتاريخ مكانته الطبيعية، لا كحكاية تُروى، بل كحقيقة تُحمى. فالتاريخ، حين يُترك بلا سند قانوني، يكون عرضة للتشويه، أما حين يُقنَّن، فإنه يتحول إلى مرجعية لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها.
الجرائم ضد الإنسانية: المقاربة الحقوقية للقانون
من زاوية حقوقية، حظي اقتراح القانون بتثمين واسع من خبراء القانون الدولي والعدالة الانتقالية. فقد أجمع حقوقيون على أن جوهر النص ينسجم مع المبادئ الكونية التي أقرّتها المواثيق الدولية، وفي مقدمتها أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. ويؤكد مختصون في القانون الدولي الإنساني أن ما تعرّض له الشعب الجزائري خلال 132 سنة من الاحتلال يندرج بوضوح ضمن هذا التصنيف، من حيث الطبيعة الممنهجة للعنف، واتساع نطاقه، واستهدافه المدنيين والبنية الاجتماعية والثقافية.
حقوقيون جزائريون اعتبروا أن مطالبة فرنسا بالاعتراف والاعتذار وردّ الاعتبار ليست مطلبًا عاطفيًا، بل حقٌّ قانوني وأخلاقي. فالاعتذار، في منظور العدالة الانتقالية، ليس إهانة للدول، بل خطوة ضرورية لمعالجة الجراح المفتوحة، وبناء علاقات متوازنة قائمة على الحقيقة لا على الإنكار. وأشار خبراء إلى أن تجارب دولية عديدة أثبتت أن الاعتراف بالماضي المؤلم هو شرط أساسي لأي مصالحة حقيقية.
منظمات حقوقية رأت في هذا المقترح رسالة قوية إلى المجتمع الدولي، مفادها أن الجزائر لا تطلب تعاطفًا، بل تطالب بتطبيق المبادئ التي يرفعها العالم في خطاباته. فحين تتحدث الدول الكبرى عن حقوق الإنسان، فإن أول اختبار لمصداقية هذا الخطاب هو التعامل العادل مع ماضيها الاستعماري، لا دفنه تحت مسميات ملتبسة أو قراءات انتقائية.
إجماع وطني: الذاكرة كقضية جامعة
سياسيون ومحللون اعتبروا أن ما ميّز هذه المبادرة التشريعية هو الإجماع الواسع الذي أحاط بها. فمسألة تجريم الاستعمار نجحت في تجاوز الخلافات الحزبية والحساسيات الإيديولوجية، لتُطرح بوصفها قضية وطنية بامتياز. ويؤكد باحثون في علم الاجتماع السياسي أن الذاكرة الاستعمارية تشكّل أحد العناصر المؤسسة للهوية الوطنية الجزائرية، ولذلك فإن أي نقاش حولها يمسّ جوهر الانتماء لا تفاصيل السياسة.
مؤرخون في الفكر السياسي الجزائري يرون أن هذا الإجماع يعكس نضجًا في التعامل مع التاريخ. فالجزائر، في هذا الطرح، لا تستحضر الماضي لتبرير العجز أو تعليق الفشل عليه، بل لتأكيد السيادة الرمزية والمعنوية للدولة. إن تحويل الذاكرة إلى قانون لا يعني البقاء أسيرًا لها، بل امتلاكها والتحكم في سرديتها.
ردود فعل النخب الثقافية دعمت هذا التوجه، معتبرة أن حماية الذاكرة مسؤولية جماعية، وأن الصمت عن الجرائم أو تمييعها يفتح الباب أمام إعادة إنتاجها سرديًا. فالقانون، في هذا السياق، يصبح درعًا أخلاقيًا يحمي الحقيقة من التلاعب.
بين الجزائر وفرنسا: اختبار الحقيقة والمستقبل
على الصعيد الدولي، يضع اقتراح القانون العلاقات الجزائرية–الفرنسية أمام مفترق طرق. فبين خطاب يدعو إلى “طيّ الصفحة” دون قراءة محتواها، وموقف جزائري يؤكد أن الصفحات لا تُطوى قبل أن تُقرأ كاملة، يبرز سؤال الحقيقة بوصفه جوهر أي علاقة مستقبلية. حقوقيون أوروبيون يرون أن هذا الملف يمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى استعداد فرنسا لمواجهة ماضيها الاستعماري بشجاعة.
مؤرخون فرنسيون نقديون، معروفون بمقارباتهم الجريئة للتاريخ الاستعماري، أشاروا في تحليلات أكاديمية إلى أن إنكار الجرائم لا يخدم حتى الذاكرة الفرنسية نفسها، لأنه يبقيها أسيرة سردية ناقصة. ويؤكد هؤلاء أن الاعتراف لا يعني جلد الذات، بل تصحيح المسار، وبناء علاقة صحية مع الشعوب التي عانت من الاستعمار.
في هذا السياق، يرى حقوقيون أن المبادرة الجزائرية لا تستهدف شعبًا، بل منظومة سياسية تاريخية مسؤولة عن أفعال موثّقة. فالتمييز بين الدولة والشعب، كما يؤكد القانون الدولي، ضروري لتفادي الخلط المتعمّد بين النقد التاريخي والتحريض. ومن هنا، فإن تجريم الاستعمار يُقرأ كدعوة للحقيقة، لا كإعلان خصومة.
القانون والذاكرة: من الدفاع إلى البناء
يذهب باحثون في فلسفة التاريخ إلى أن أهمية هذا الاقتراح لا تكمن فقط في محتواه، بل في دلالته الرمزية. فالدولة التي تجرّم الاستعمار في قانونها تعلن أن ذاكرتها ليست مادةً للتفاوض، وأن سيادتها لا تكتمل دون سيادة سرديتها التاريخية. ويؤكد هؤلاء أن بناء المستقبل لا يتمّ عبر محو الماضي، بل عبر الاعتراف به وتجاوزه بوعي.
من منظور حقوقي، يشكّل هذا القانون المحتمل إطارًا مرجعيًا لكل النقاشات اللاحقة حول الذاكرة، سواء في المناهج التعليمية أو في الخطاب الدبلوماسي أو في العلاقات الدولية. فحين تكون الذاكرة محمية بالقانون، تصبح جزءًا من الأمن المعنوي للدولة، لا مجرد ملف ثقافي.
ردود الفعل: صوت المؤرخين والحقوقيين
تقاطعت آراء المؤرخين والحقوقيين عند نقطة مركزية: أن هذه الخطوة تأخرت، لكنها جاءت في وقتها. فالعالم، في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، يعيد طرح أسئلة التاريخ والعدالة، والجزائر، بهذا الاقتراح، تضع نفسها في قلب هذا النقاش العالمي، لا من موقع الضحية الصامتة، بل من موقع الدولة التي تعرف ماذا تريد من ذاكرتها.
حقوقيون أكدوا أن النص، إذا ما صُودق عليه، سيشكّل سابقة في المنطقة، ومرجعية لدول أخرى عانت من الاستعمار، لكنها لم تجرؤ بعد على تحويل ذاكرتها إلى قانون. ومؤرخون رأوا فيه رسالة للأجيال القادمة، مفادها أن الدولة لم تساوم على دماء شهدائها، ولم تقبل أن يُختزل تاريخها في هوامش السرديات الكبرى.
خاتمة: حين تنتصر الذاكرة بالقانون
اقتراح قانون تجريم الاستعمار الفرنسي ليس مجرد حدث برلماني، بل لحظة وعي تاريخي جماعي. إنه إعلان بأن الجزائر، وهي تخوض معارك التنمية وبناء الدولة، لم تنسَ أن العدالة تبدأ من الاعتراف بالحقيقة. بين نصّ القانون، وصوت المؤرخين، ومرافعات الحقوقيين، تتشكل معادلة واضحة: لا مصالحة دون اعتراف، ولا مستقبل دون إنصاف.
في هذه اللحظة، تبدو الذاكرة الجزائرية وقد انتقلت من موقع الدفاع إلى موقع البناء، ومن هامش الخطاب إلى صلب التشريع. وحين تصبح الذاكرة قانونًا، فإنها لا تطلب شفقة العالم، بل تفرض احترامه.

