188
0
الشيخ المهدي البوعبدلي .. مسار حافل بالعطاء و مثال الاجتهاد في طلب العلم
يعتبر الشيخ المهدي البوعبدلي من جهابدة الفقه و العلم في الجزائر و العالم العربي، و أبرز العلماء الجزائريين حيث حمل صبغة البحث التاريخي رغم عدم تكوينه العلمي في مجال التاريخ، و رفع راية الدفاع عن الهوية العربية و الإسلامية و تنبّه إلى خطورة التدنيس الذي تعرض له التاريخ الجزائري .
إعداد نزيهة سعودي
ولد الشيخ المهدي البوعبدلي في بطيوة (آرزيو) ولاية وهران في عام 1907، حيث درس في مسقط رأسه، ثم واصل تعليمه في مازونة، ثم انتقل في عام 1931م إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة على كوكبة من العلماء أمثال الشيخ عبد العزيز جعيط والشيخ البشير النيفر، وغيرهما من علماء الزيتونة العامرة.
وكان من أنجب الطلبة والمقبلين على كسب المعرفة قال في هذا الشأن زميله في الدراسة الشيخ زاهر الزاهري "لقد عرفته بتونس بجامع الزيتونة حيث كنا ندرس معا...فكان مثال الاجتهاد في طلب العلم".
تأسيسه لجمعية الطلبة الزيتونيين الجزائريين رفقة زملائه
ولم يكتف البوعبدلي بالتحصيل العلمي فقط إذ اهتم كذلك بالنشاط الطلابي، وساهم مع مجموعة من زملائه: الحفناوي هالي، أبو بكر الأغواطي، علي المغربي، عبد المجيد حيرش، وأحمد حماني في تأسيس جمعية الطلبة الزيتونيين الجزائريين، وصار من أبرز قادتها.
تخرج في عام 1933م بشهادة التطويع فعاد إلى الجزائر و عمل نائبا لرئيس تحرير جريدة الرشاد لفترة قصيرة ثم تركها ليعمل إماما ومفتيا في بجاية، وبعدها عيّن في نفس المنصب بالشلف في بداية الخمسينيات.
تزوج المهدي البوعبدلي بعد استقراره في مدينة الجزائر من زوجته السيدة قاسمي ماما وهي من قبيلة هدين المشهورة، ومن ذرية عبد المؤمن بن علي أمير المؤمنين في عهد الدولة المحمدية العريقة، توفيت رحمها الله سنة 2002م، أنجبت معه خمسة أطفال.
وانخرط الشيخ البوعبدلي في معركة الهوية في ميدان التاريخ محددا مهمته في إعادة النظر في البحث في ماضينا، ومعرفتنا بقيمنا الحقيقية، والاعتناء بدراسة هذا الماضي دراسة علمية دقيقة، مجردة من الأغراض والارتجال وتقديمها للقراء حتى يتسنى للخلف أن يعرفوا حقائق ماضي البلاد بصورة واضحة وأن يطلعوا على المشاكل التي واجهت السلف وتغلب عليها أو تغلبت عليه.
وفي عام 1956م انتقل إلى المغرب الأقصى، وقام بمهمات لصالح الثورة التحريرية وبعد الاستقلال عاد إلى الجزائر، واشتغل بالبحث التاريخي وتفرغ للعمل الثقافي والدعوي.
جمع بين الثقافة العربية الأصيلة و العصرية
ولم يقتصر نشاطه على الجزائر فحسب، بل ساهم في ملتقيات وندوات دولية في المغرب، وتونس وليبيا ومصر والهند، وباكستان وروسيا، وأذربيجان، وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وربط سلسلة من العلاقات مع مشاهير الفكر والدعوة العرب والمسلمين والمستشرقين، ومن يقرأ مراسلاته المنشورة يتأكد من ذلك بدون مشقة.
كان الشيخ البوعبدلي يجمع بين الثقافة العربية الأصيلة التي استمدها من كتب التراث وكذلك الثقافة العصرية التي استخلصها من المنشورات الحديثة سواء الصادرة بالعربية أو باللغة الفرنسية التي كان يجيدها، أو مكتسبة من أسفاره المتعددة في الشرق والغرب.
مؤلف للكتب و خبير بالمخطوطات
لم يكن الشيخ المهدي البوعبدلي فقط باحثا في مجال تاريخ الجزائر عبر العصور، يجمع المادة التاريخية القريبة من اليد، ويؤلف الكتب، ويكتب المقالات، بل كان يبحث عن الوثائق النادرة حيثما وجدت، ويجمع المخطوطات النادرة التي كان مولعا بها، مهما بعدت المسافة للاطلاع على محتوياتها، أو الحصول عليها مهما ثقل وزنها وغلى ثمنها..!
لقد جمع رصيدا معتبرا من المخطوطات، وأنشأ مكتبة غنية بالمطبوعات والكتب القديمة والمخطوطات النادرة، ليس للتباهي بمقتنياتها أو الافتخار برصيدها، وإنما رغبة في إنقاذ هذا التراث من الضياع، والاستفادة منه في أبحاثه ومحاضراته، وفتحها للباحثين والطلبة ليغترفوا من بحر علومها.
في أحد المرات، وصف أحد أصدقائه تلك العلاقة المتينة بين الشيخ البوعبدلي ومكتبته العامرة، فقال: (لعلنا لا نجد جملة تعبر عن حبه لمكتبته وغيرته عليها أفضل من مجنون المكتبة، وليس حبه لمكتبته من صنف حب أولائك المظهريين الذين يجمعون الكتب وينظمونها في أشكال جمالية تضفي على المكان رونق بها، وتنشر فيه منظر إيهام بالانتساب إلى قادة الثقافة ورجال المعرفة، ولكنه من صنف حب الذين ينسون العالم وما فيه ومن فيه حين تطأ أقدامهم عتبة المكتبة، فيندمجون في ذلك الجو الذي يمتزج فيه الجد في التحصيل بالتقديس للمعرفة فهو كالنحلة المجتهدة تتنقل بين الأزهار طوال يومها لتعود مساء إلى مأواها مستوفرة بالرحيق مثقلة بالشهد.
لم يسعف الشيخ البوعبدلي الوقت والإمكانات المالية لتحقيق المخطوطات التي تحصل عليها ونشرها باستثناء “دليل الحيران وأنيس السهران وأخبار مدينة وهران” للشيخ محمد يوسف الزياني، و”الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني” للشيخ أحمد بن محمد الراشدي.
غير أنه نشر مجموعة من المقالات، وقدم محاضرات عديدة عرّف من خلالها العديد من المخطوطات النادرة، وسلط الأضواء على عدد من الكتب النفيسة.
وفعلا، صار خبيرا بالمخطوطات وعالما بأماكن تواجدها في الجزائر وفي الخارج ومرجعية في هذا المجال، وهو لا يبخل بها الباحثين الجادين الذين راسلوه في شأنها، وأمدهم بالمعلومات التي استفسروا عنها، مثل المؤرخين الجزائريين الدكتور أبا القاسم سعد الله والدكتور يحي بوعزيز، والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، وغيرهم من العلماء الجزائريين والأجانب.
وقد نشر الدكتور سعد الله 16 رسالة وصلته من الشيخ البوعبدلي، وقد ساعدته في كتابة موسوعته تاريخ الجزائر الثقافي لما تحمله من معلومات أدبية وتاريخية وثقافية … فهي تتحدث عن كتب وأعلام من المثقفين وعن أنشطة فكرية واجتهادات علمية وأخبار جغرافية، وعن وثائق ومخطوطات ذات أهمية عالية في التاريخ.
مناصب عديدة تقلدها الشيخ المهدي البوعبدلي
وتقديرا لجهوده العلمية وتتويجا لإنتاجه التاريخي عيّن عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى التابع آنذاك لوزارة الشؤون الدينية، وباحثا في المركز الوطني للبحوث التاريخية، وعضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، ومنحت له جامعة وهران شهادة الدكتوراه الفخرية في عام 1991م.
توفي رحمه الله بعد معاناة مع مرض السكري يوم السبت 5 من ذي الحجة سنة 1412هـ الموافق ل 6 يونيو 1992م، تم دفنه في مقر الزاوية البوعبدلية، وهذا بناءا على وصيته، وألقى كلمة التأبين الشيخ عبد القار الزير، وهذا بحضرة المشايخ والعلماء، والجمع الغفير، وصلى عليه إمامة الشيخ عبد الله التجاري.
كانت هذه نهاية الشيخ البوعبدلي مات وانتقل إلى جوار ربه، بعد معاناة مع المرض وبقيت أعماله تخلد ذكراه، فما زال حيا في ذاكرة هذه الأمة وتاريخها.