423

1

الشيخ الحبيب فارس التبسي ...الإمام المجاهد الذي أسس أول مسجد في بير العاتر

 

في رحاب الزمن الذي تخلّلته جراح الاستدمار الفرنسي على أرض الجزائر، برزت شخصيةٌ قيادية متميزة بالتواضع والاقتدار في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كوميضٍ من النور في ظلام الظروف الصعبة.

 الشيخ الحبيب فارس التبسي الذي اتسم بالجمال الأدبي الذي ينسجم تناغماً مع قصته، حيث تتجلى سمات الصمود والإيمان في وجه التحديات و تتناغم الكلمات لتروي قصة هذا البطل، الذي طوى مسافات كثيرة داخل الوطن وخارجه بحثاً عن الحق والعدالة، حاملا في قلبه آمال الشعب وأحلامه في الحرية والكرامة والدفاع عن قضايا وطنه.

نور اليقين بن ناجي  

 

تظهر المراجع التاريخية أنه لم يكن مجرد عضو في الجمعية، بل كان عنصرًا فاعلًا في مسيرة النضال الذي روى أرض العقول بالفهم والإلهام، وقد أسهمت تلك الجهود في بناء وتشكيل هوية شعبه وترسيخ دور الدين في مسيرة النضال الوطني.

وبين طيات قصته، نجد تاريخًا من البسالة والتضحية في ذاكرة الجمعية وسكان المنطقة، حيث عبرت مسيرته عن الصمود والتحدي خلال فترة الاستعمار الفرنسي، تاركا أثرًا لا يُنسى في سجل النضال الوطني.

فمن هوالشيخ الحبيب فارس التبسي؟

الحبيب بن محمد بن سلطان فارس التبسي، وأمه هي السيدة مريم بنت صالح خالدي التبسي، المولود في قرية بحيرة الأرنب جنوب ولاية تبسة عام 1919، وهو من قبيلة “الـنَّمَامْشَة” الأمازيغية وعشيرة “الزّْرَادْمَة” المعروفة بمقاومتها للاستعمار الفرنسي.

نشأ في أسرة تمتهن الفلاحة محافظة ومحبة للعلم والدين، حفظ القرآن الكريم في قريته قبل أن ينتقل إلى دولة تونس الشقيقة،  وتحديدًا إلى زاوية سيدي مصطفى بن عزوز الجريدي النفطي الرحماني بمدينة نفطة بالجنوب التونسي حيث أكمل تعليمه هناك وتفوق في دراسته. والتحق بجامع الزيتونة وحصل على شهادة التحصيل العالية في العلوم العربية والدينية.

  كان الشيخ الحبيب ناشطًا في جمعية الطلبة الجزائريين في تونس، مساهمًا في نشر الوعي بقضية الجزائر ودعم حريتها واستقلالها. شارك في عدة مظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي وتم اعتقاله، حيث قضى قرابة الستة أشهر في السجن.

الإنضمام إلى جمعية العلماء المسلمين

بعد عودته من تونس وانتهاء دراسته في جامع الزيتونة، انضم الشيخ الحبيب فارس إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كعضو فيها، حيث أصبحت له صلة روحية وأخوية وجهادية مع حركة الإصلاح الإسلامي والإصلاحيين، خاصة مع الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس والشيخ العربي التبسي.

 تم دعوته من قبل الشيخ العربي التبسي ليصبح مدرسًا في مدرسة التهذيب في مدينة تبسة، وفي عام 1947، تم افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، حيث أسندت إدارته إلى الشيخ العربي التبسي رحمه الله ، و كان هذا المعهد عبارة عن ثانوية تستوعب حوالي 1500 طالب، مع إقامة للطلبة الوافدين من خارج الولاية.

 بفضل جهوده في ميدان التربية والتعليم في منطقة بئر العاتر،كان له دورا بارزا في تحضير قلوب سكان المناطق الشرقية للثورة الجزائرية، حيث أسس مدرسة قرآنية وابتدائية في مدينة بئر العاتر جنوب الولاية، والتي تُعَدّ أول مؤسسة تعليمية في تلك المنطقة و قام هو وزملاؤه ببنائها،حيث احتوت على قسمين متصلين بمسجد القرية، الذي يعرف اليوم باسم المسجد العتيق.

نشر الوعي الوطني 

يعود الفضل إلى الشيخ الحبيب فارس وتلاميذه الذين شكلوا ركيزة أساسية في تجهيز وتحضير وتحفيز قلوب سكان تلك المناطق للمشاركة في الثورة الجزائرية المباركة.

 فقد أصبحت تلك المناطق، بفضل جهودهم، من أبرز معاقل الثورة بجانب جبال الأوراس، وكانت شرايينها الحيوية التي زودت الحركة بالطاقة اللازمة من خلال مشاركة الفدائيين الأبطال.

كما كان الشيخ الحبيب فارس ناشطًا في نشر العلم والوعي في مسجد العتيق ببئر العاتر، حيث قام بإلقاء دروس ومواعظ للمساهمة في توجيه المجتمع نحو الفهم الصحيح للقضايا الدينية والوطنية.

 تجلى موقفه الواضح من الاستعمار الفرنسي ودعمه للثورة التحريرية من خلال  نشر مبادئ الجمعية ودعم الثورة خلال إزالة الشبهات والأباطيل الملقاة على الإسلام بشكل زائف ومغلوط، كما استمر في التمسك بمبادئه الدينية، وكان صريحًا ووفيًا للحق، لا يميل أو يتزحزح عن مواقفه في سبيل دينه.

نشاطه الجهادي وظوف اعتقاله

في بداية ثورة التحرير الجزائرية، تم تعيين الشيخ الحبيب فارس مسؤولًا عن الفئة المجاهدة في الناحية. كان له دور كبير في تنظيم الالتحاق بالثورة، وكان يُكَلِّف أي شخص غير ملتحق بالثورة بمهمة فدائية لاختبار إصراره واستعداده.

 تجارته كان لها دور كبير في دعم المجاهدين في معركتهم ضد الاستعمار، فقد كان يقوم بتوفير المؤونة والإمدادات الضرورية للمجاهدين، مما جعله يلعب دورًا عسكريًا بصفة مدنية يخدم به الجهاد بشكل مباشر.

 تمت مراقبة الشيخ الحبيب فارس بعناية من قبل الاستخبارات الفرنسية نظرًا لنشاطاته المستمرة ودوره الكبير في توفير المواد الضرورية للمجاهدين خلال فترة ثورة التحرير الجزائرية و ألقي القبض عليه في مدينة تبسة أثناء قيامه بشراء السلع لمحلاته الظاهرة، وكانت هذه السلع مخصصة لتموين المجاهدين.

 رغم عدم ثبوت إدانته في التحقيقات العديدة التي أجريت، قررت السلطات الفرنسية عزله عن أسرته، ثم وضعه تحت الإقامة الجبرية في مدرسة الشيخ العربي التبسي بتبسة، حيث كان يبقى فيها لأداء صلواته ويعود بعدها إلى المنزل، وظل في هذا الحال لمدة حوالي شهرين أو أكثر أو أقل.

في بداية عام 1955، قررت السلطات الفرنسية اعتقال الشيخ الحبيب فارس ونقله بواسطة هليكوبتر إلى عدة معتقلات، بعد حرق منزله ومصادرة تجارته وأمواله، مما أدى إلى تشريد عائلته  .

 مهامه بعد  الاستقلال

بعد الاستقلال وخروج الشيخ الحبيب فارس من المعتقلات، حيث تكبد خلالها صنوفًا متعددة من العذاب على مدى سبع سنوات، أصبحت له مهام ووظائف مميزة في مرحلة ما بعد الاستقلال، فقد كُلِّف بمسؤوليات سياسية واجتماعية وثقافية في منطقة تبسة.

تلقى الشيخ الحبيب فارس عروضًا وظيفية كثيرة، منها منصب مفتي بوزارة الشؤون الدينية بالجزائر العاصمة وأستاذ بالتعليم الثانوي، لكنه رفض هذه الوظائف و فضل الانخراط في الإمامة بالمسجد العتيق بتبسة، حيث قام بدعوة الناس إلى الله وقاد الدروس المكثفة لمحبي العلم لمدة تزيد عن ربع قرن.

 بنى الشيخ الحبيب فارس علاقات إيجابية وطيدة مع عامة الشعب، وكان ملهمًا وموجهًا للناس، رغم هيبته، كان متواضعًا، ولكنه في اللحظات الصعبة كان يظهر كالليث الجاهز للدفاع.

 مساهمته في بروز الصحوة

كانت حياته مليئة بالجد والعمل المثمر في ميداني العلم والدعوة إلى الله عز وجل، منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، ساهم الشيخ في إشعال هذه الصحوة الإسلامية من خلال تدريسه، ووعظه، ونصائحه المستمرة التي لا تنقطع.

كان داعمًا للشباب، يقف إلى جانبهم في كل حاجة، وكان مستشارًا وناصحًا أمينًا يساعدهم في حل المشاكل الاجتماعية والدعوية التي تعترض طريقهم.

 باستخدام علمه وخبرته، كان الشيخ يسعى جاهدًا لنقل أفكاره وخبراته إلى الشباب المسلم، خاصة في ما يتعلق بالعلم والدعوة إلى الله، فكان يجتمع معهم في المساجد وحتى في منزله، يشجعهم على التمسك بدينهم الإسلامي الحنيف وعقيدتهم، و ينصحهم دومًا بالابتعاد عن العصبية والقبلية، التي كان يعتبرها عائقًا أمام تقدم الدعوة إلى الله.

ويُعَد الشيخ الحبيب فارس أحد العلماء الذين تركوا أثرًا كبيرًا على الشباب المسلم في بلده والمناطق المجاورة، خاصة في الفترة الممتدة من السبعينات حتى بداية التسعينات من القرن الماضي. من بين مساهماته الهامة كان دوره في حل صراع بين الجماعتين الإقليمية والعالمية للإخوان المسلمين، حيث لعب الشيخ دورًا فعّالًا في تحقيق الصلح بينهما، كما كانت له أثر إيجابي في التسوية وتعزيز الوحدة والتعاون بين الأطراف المتنازعة.

في ظل الفترة التي شهدت فيها الجزائر مظاهر من الفساد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، كان الشيخ الحبيب فارس ينتقد هذه الظواهر بشدة ويسعى جاهدًا لمحاربتها بجميع الوسائل الممكنة، كان يتدخل في قضايا المجتمع ويطالب بالإصلاح وتحسين الأوضاع الاجتماعية والثقافية.

 على الرغم من تقدمه في السن، إلا أن الشيخ الحبيب فارس كان يتمتع بثقافة واسعة وعميقة، وكان بحرًا متدفقًا بالمعرفة في مختلف الميادين. كان يشجع على الفكر الشخصي ويحث على استخدام العقل في فهم الآيات القرآنية والتفسير الشخصي.

 وفاته

في السنوات الأخيرة من حياة الشيخ الحبيب فارس، تأثر بمرض عضال ألقى بظلاله الكئيبة على نشاطه الحيوي والإصلاحي والدعوي الذي كان يمارسه بكل حماسة وتفانٍ، و في عام 1992، تم تشخيص إصابته بسرطان البروستات، وبدأت صحته تتدهور يوماً بعد يوم. بدأت رحلة الألم والمتاعب تلتفّ حول حياة الشيخ، وزادت حدتها وقسوتها في أواخر عام 1993.

دخل الشيخ في غيبوبة شبه الكاملة خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من حياته في مستشفى مدينة تبسة، وفي أواخر مارس 1994، طلب من أسرته نقله إلى مصحة التوفيق في تونس، تم تلبية هذا الطلب، ولكن الأطباء هناك نصحوا بإرجاعه إلى الوطن بسبب تفاقم حالته الصحية.

وفي مساء الأربعاء 22 مارس 1994، وهو عائد إلى الجزائر، توفي الشيخ على الأراضي التونسية.

تم تسمية المركز الثقافي الإسلامي في مدينة تبسة باسمه تكريمًا لإسهاماته الكبيرة في خدمة دينه ووطنه،وكانت أحد المساجد وأحياء المدينة قد أُطلقت عليه اسمه لتخليد ذكراه وروحه الزكية.

 الشيخ الحبيب فارس، مُحبٌا للدين وإمامٌا بارعا، خدم بفقهه وعلمه، إقامة السنة ورفض البدع، بالبرغم  من كل التحديات والهجمات التي واجهها، فإن إرثه العلمي والدعوي سيظل يشع بالنور ويُلهم الأجيال القادمة.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services