5

0

الشرعية التي تصنع الدول… والارتجال الذي يفضح أصحابه: قراءة عميقة في معركة الدبلوماسية الإفريقية اليوم

 بقلم الحاج بن معمر

في المشهد الإفريقي الراهن، حيث تتسارع التحولات السياسية وتتداخل المصالح الإقليمية والدولية، برزت مفارقة لافتة بين مسارين متناقضين: مسار الدول التي تتحرك داخل الشرعية القارية، وتحترم المؤسسات، وتلتزم بقواعد الاتحاد الإفريقي، ومسار آخر يقوم على المناورة والبحث عن الأضواء ومحاولة فرض حضور مفتعل خارج القواعد. هذه المفارقة لم تعد مجرد قراءة تحليلية نظرية، بل أصبحت اليوم حقيقة يقرأها الجميع في الساحة الإفريقية، حيث تتكثف التحركات الدبلوماسية، وتتصاعد التوترات بين الأطراف الساعية إلى تعزيز نفوذ مشروع يستند إلى الشرعية الشعبية والقارية، وبين أطراف أخرى تفتعل المبادرات وتختلق الأدوار في محاولة للتماهي مع واقع لا يمتلكون مقوماته ولا أدواته.

إنّ قراءة ما يحدث اليوم في إفريقيا تكشف بوضوح أنّ ميزان الشرعية لم يعد يحتمل المناورات، وأنّ أيّ تحرك خارج المؤسسات القارية أصبح مكشوفاً للرأي العام والنخب السياسية والإعلامية، بل ومحلّ انتقاد داخل القارة وخارجها.

فالزمن تغيّر، وإفريقيا الجديدة لم تعد تقبل بمن يفاوض باسمها دون تفويض، ولا بمن يتكلم باسم شعوبها دون شرعية، ولا بمن يحاول تمثيل القارة بمنطق “من يسبق يربح”.

وهنا تتجلى الحقيقة الأولى: الشرعية لم تعد خياراً، بل أصبحت شرطاً للبقاء في الساحة الإفريقية وصناعة الفعل الدبلوماسي المؤثر.

والدول التي اختارت الالتزام بالشرعية أثبتت اليوم أنها صاحبة الحضور الحقيقي، لأنها تتحرك بثقة وهدوء، وتشتغل وفق آليات معترف بها، وتقدم رؤى متماسكة تحظى بالتقدير داخل مراكز القرار الإفريقية.

هذه الدول أدركت أن القوة ليست في الضجيج الإعلامي ولا في الترويج لصور اللقاءات، بل في امتلاك القدرة على التأثير داخل مؤسسات القارة: مجلس السلم والأمن، مفوضية الاتحاد الإفريقي، اللجان المتخصصة، والآليات المشتركة لصناعة القرار.

وفي المقابل، تظهر دول أخرى تحاول تعويض فشلها الداخلي بحركة دبلوماسية مفتعلة، لا سند لها في الواقع، تعتمد على الارتجال، وتفتقر إلى التفويض القاري، بل وتجد نفسها في كثير من الأحيان خارج الصورة رغم الضجيج الكبير الذي ترافقه تغطيات إعلامية موجهة لمحاولة تضخيم دور غير موجود أصلاً.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا تختلف قيمة التحرك الدبلوماسي بين دولة وأخرى رغم تشابه الزيارات؟ الجواب بسيط وعميق: لأن الدبلوماسية ليست سفراً وصوراً وتصريحات، بل رؤية ومصداقية وهيبة وشرعية. والدبلوماسية التي تنطلق من مؤسسات القارة وتحظى باعترافها هي وحدها القادرة على التأثير، بينما المبادرات الفردية أو الموازية لا تزيد أصحابها إلا عزلة.

 

إنّ إفريقيا اليوم تواجه ملفات مصيرية: الانقلابات، أزمات الساحل، الأمن الغذائي، الطاقة، التوازنات الجديدة بين القوى الكبرى، وإعادة تشكيل منظومة العلاقات جنوب–جنوب.

وكل هذه الملفات لا يمكن التعامل معها بأسلوب المناورات. فمن يريد أن يلعب دوراً مركزياً يجب أن يكون داخل البيت الإفريقي، وليس خارجه.

والدول التي تمتلك شرعية التحرك هي تلك التي يثق فيها الأفارقة، لأنها أثبتت تاريخياً أنها لم تستخدم القارة منصة لتصفية الحسابات، ولم تستعمل الملفات الإفريقية للمساومة الخارجية، ولم تتاجر بآلام الشعوب ولا بثرواتها. هذه الدول، حين تتحرك، يُصغي الآخرون… وحين تتكلم، تنصت العواصم… لأنها تتحرك من موقع المسؤولية لا من موقع التمثيل المسرحي.

 

 

 

 

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن بعض التغطيات الإعلامية – سواء عن سوء نية أو عن نقص خبرة – لم تلتقط هذه الفروق الدقيقة، فاختزلت المشهد في “سباق زيارات” أو “منافسة دبلوماسية” أو “تحرّكات متوازية”، بينما الحقيقة أن هناك فارقاً جوهرياً بين من يتحرك بتفويض ومن يتحرك بلا تفويض، بين من يعمل في قلب القرار الإفريقي ومن يقف عند الهامش، بين من يصنع الأحداث ومن يعلّق عليها من الخارج.

ولأن هذه التغطيات أغفلت الزاوية الحساسة للمشهد، كان من الضروري إعادة ترتيب الصورة ووضع الأحداث في سياقها الحقيقي، وتقديم تحليل مبني على معطيات دقيقة تكشف الفارق بين “دبلوماسية الدولة” و”دبلوماسية الارتجال”.

فدبلوماسية الدولة تُبنى على التاريخ والرصيد والمصداقية، وعلى شبكة علاقات حقيقية، وعلى انسجام داخلي بين مؤسسات القرار، وعلى رؤية استراتيجية واضحة تتعامل مع إفريقيا كفضاء استراتيجي، لا كمنصة للظهور الإعلامي.

هذه الدبلوماسية لا تبحث عن الأضواء، بل عن النتائج،  لا تلهث وراء التصريحات، بل تشتغل بصمت داخل المؤسسات، وتنتظر اللحظة التي تشهد فيها الأطراف على أثر تحركها.

وهي دبلوماسية لا تحتاج إلى تبرير وجودها، لأن حضورها طبيعي ومتجذر تاريخياً وجغرافياً، وفي المقابل، هناك دبلوماسية تعتمد على إثارة الانتباه، وعلى افتعال المبادرات، وعلى الإعلان عن أدوار غير موجودة، وعلى محاولة صناعة مكانة مفقودة عبر تحركات خارج الإطار الرسمي.

وهذا النوع من الدبلوماسية سرعان ما ينكشف، لأنه يفتقر إلى العمق، ولا يستند إلى قواعد العمل القاري، ولا يمتلك شبكة علاقات تؤهله لقيادة ملفات حساسة.

وما يزيد المفارقة وضوحاً هو أنّ إفريقيا اليوم أصبحت أكثر وعياً من أي وقت مضى. الشعوب تتابع، النخب تقرأ، والمؤسسات ترصد. ولم يعد بالإمكان التلاعب بخطاب “الدعم لإفريقيا” أو “الاهتمام بالقارة” أو “العمل من أجل الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية”.

هذه العبارات أصبحت تُختبر بالفعل لا بالقول، والاختبار يكشف سريعاً من يتحرك بصدق ومن يناور لأغراض سياسية.

 

كما أنّ السياق الدولي زاد من أهمية العمل داخل المؤسسات القارية. فالاتحاد الإفريقي اليوم يتعامل مع الأمم المتحدة، مع مجموعة العشرين، مع الشركاء الدوليين، ككتلة واحدة. وهذا يعني أنّ الدول التي تكون خارج هذا الإطار تكون خارج اللعبة.

أي تحرك “موازٍ” يُقرأ فوراً على أنه محاولة لتجاوز القارة، وهو ما يثير الشك ويدفع إلى التشكيك في نوايا من يقوم به.

فالدبلوماسية ليست ممارسة فردية، بل منظومة عمل جماعي… ومن يحاول القفز عليها يضع نفسه تلقائياً في موقع المشكوك فيه، مهما كانت الشعارات التي يرفعها.

ومن خلال تتبع التحركات الأخيرة في القارة، يتضح أنّ بعض الأطراف حاولت اللعب على الثغرات، فبادرت إلى زيارات تحمل طابعاً دعائياً أكثر مما تحمل مضموناً سياسياً، وأعلنت عن “مبادرات” لم تُستشر فيها مؤسسات القارة، ولم تُطرح في اللجان المختصة، ولم تُناقش في غرف القرار الإفريقية.

هذه التحركات، رغم حجمها الإعلامي، لم تجد صدىً حقيقياً، لأن القارة تعرف جيداً من يملك شرعية القيادة ومن لا يملك سوى الرغبة في الظهور. وفي المقابل، التحركات التي تسير بهدوء داخل استراتيجية إفريقية واضحة، وتنسجم مع أجندة الاتحاد الإفريقي، وتدعم الخطوط الرئيسية للعمل المشترك، تحظى اليوم باحترام واسع، لأنها تعكس جدية ومسؤولية وليست مجرد محاولة لافتعال دور خارجي.

إنّ المعركة اليوم في إفريقيا لم تعد معركة علاقات عامة، بل معركة شرعية. ومن يمتلك الشرعية يمتلك القرار. ومن لا يمتلكها سيظل يركض خلف الكاميرات دون أن يقترب من مواقع التأثير.

ولذلك، فإنّ القارة اليوم تعيش لحظة فرز حقيقية بين دبلوماسية تصنع التاريخ ودبلوماسية تصنع الضجيج، بين من يملك القدرة على قيادة الملفات المعقدة ومن يكتفي بمتابعة الحشود، بين من يُصغي إليه الأفارقة ومن يتجاهلونه مهما بالغ في الظهور الإعلامي.

 

والخلاصة التي يفرضها الواقع الإفريقي اليوم هي أن الشرعية القارية أصبحت معيار القوة، وأن من يسير خارجها يسير نحو العزلة. فالقارة تتغير، والمؤسسات أصبحت أقوى، والوعي الجماعي ارتفع، والمناورات لم تعد تنطلي على أحد.

وأمام هذا المشهد، فإنّ الحكمة تقتضي أن تعود بعض الدول إلى الواقعية وأن تتوقف عن توظيف إفريقيا كمساحة للدعاية أو منصة لتصفية الحسابات.

لأن القارة الجديدة لا تحتاج إلى خطابات… بل إلى مواقف. لا تحتاج إلى صور… بل إلى حلول. لا تحتاج إلى صخب… بل إلى بناء.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services